الطاهية

خاص- ثقافات

*آندي وير/ ترجمة: إبراهيم جركس 

_((دوريس؟))، قال الطبيب.
_((نعم؟)).
_((دوريس، أتعرفين أين أنتِ الآن؟))
_((طبعاً))، أجابت دوريس ((أنا في المستشفى))
_((جيد، جيد. هل تذكرين ما حدث؟))
قوّست دوريس حاجبيها ((ليس كل ما حدث، لا… أتذكّر حدوث انفجار؟))
_((نعم، هذا صحيح…)) قال الطبيب مؤكّداً ((كنتِ محظوظةً للغاية، دوريس. لقد دُمّرَ مطبخ والدك بالكامل جرّاء الانفجار. إنّها معجزة كونك نجوت مع بعض الحروق الطفيفة))
_((أفترض ذلك))، أجابت دوريس مع ابتسامة باهتة على وجهها.
_((هل تعرفين من أنا؟))
_((هل أنت طبيبي؟))، قالت دوريس متسائلة.
_((هذا صحيح. أنا الدكتور ميتشل))
_((سررت بمقابلتك دكتور)) أجابت دوريس بلباقة.
_((في الحقيقة، لقد سبق والتقينا عدّة مرات من قبل))، قال الطبيب ((كنتِ مريضتي طوال أسبوع، ذاكرتك ما زالت مضطربة بعض الشيء)).
_((آه، صحيح)) قلت دوريس ((ذلك لا ينبئ بخير))
_((حالتك الجسدية مستقرّة، دوريس. لا يوجد شيء لتقلقي بشأنه. مازلتِ مشوّشة قليلاً. لقد أصِبتِ بصدمة قوية. قولي لي: هل تذكرين شيئاً قبل الانفجار؟))
_((أم… كلا. لا أذكر شيئاً. أتذكّر صوت صفّارات سيارات الإطفاء، ورجال الإطفاء يحملونني على نقّالة على ما أظنّ. ثمّ أصبح كل شيء ضبابياً))
_((لا بأس. ستتذكّرين لاحقاً. ماذا عمّا حدث لك قبل حدوث الانفجار مباشرةً؟))
_((أممم)) قالت دوريس بشرود ((حسناً، أتذكّر بأنني كنت في منزل والدي. كنّا منقطعين فترةً طويلة، ورغبتُ بزيارته. لا أستطيع تذكّر التفاصيل، لكنني أتذكّر أنه طلب مني أن أعدّ له وجبة، فأنا طاهية محترفة، كما ترى)).
_((طاهية))، قال الطبيب.
_((نعم، بالتأكيد. لطالما كنتُ ماهرة في الطبخ طوال حياتي. مذ أن كنت فتاة صغيرة)).
_((حسناً، تابعي)).
_((لم أستطع العثور على الرجل المناسب)) تابعت دوريس كلامها ((بأيّة حال، لم تعد المرأة في هذه الأيام بحاجة لرجل لتصبح كاملة. لذا كنت مجبرة على الاعتماد على ذاتي. وكان الطهي الأمر الوحيد الذي أجيده)).
_((هلّا أخبرتني متى كانت أول مرة تمارسين فيها الطهي؟))
_((حسناً)) فكّرت دوريس ملياً ثمّ تابعت ((أعتقد بأني بدأتُ الطهي في الفترة التي توفيت فيها أمي. فبعد أن ماتت، أصرّ والدي على أن أقوم بطهي طعامه. كان يقول أنه هو من يكسب المال في المنزل، وأنه هو الذي يؤمّن قوتنا، وأنّ علي أن أتحمّل جزءاً من المسؤولية)).
_((كم كان عمركِ آنذاك؟))
_((إحدى عشرة عاماً))
_((إحدى عشرة؟))، قال الطبيب ((كنتِ صغيرة جداً للشروع بالطهي)).
هزّت دوريس كتفيها ((لم يكن الأمر مختلفاً في سن الحادية عشرة عمّا هو في الخامسة والثلاثين. كنت أصغر حجماً، وكان من الصعب بلوغ بعض الأمور. لكن مع ازدياد الخبرة، أصبحت خبيرة كأي فتاة بالغة)).
_((هل كان والدك يطلب منك الطهي من أجله كثيراً؟))
_((كل مساء تقريباً. وخلال الأعطال، كان يطلب مني إعداد الغداء أيضاً. وأحياناً كان يطلب مني الفطور، لكن ليس كل الأحيان)).
_((هل كنت تكرهين الأمر؟))
رمقت دوريس الطبيب بنظرة حادّة ((غريبٌ أنّك تطرّقت للموضوع. نعم، نعم، كنت أمقت ذلك. كنت أكره أن أُجْبَرَ على القيام بهذا الدور، لم تعجبني لهجته المتعجرفة عندما كان يقول لي أنّ من واجبي القيام بذلك. نعم، كنت أكره ذلك)).
_((ماذا فعلتِ بشأن ذلك؟)) سأل الطبيب.
_((حسناً، لقد تركت المنزل ما أن أصبحت في الثامنة عشر من عمري. وانطلقت إلى العالم لأشقّ طريقي. كان ذلك قبل حوالي عشرين عاماً. الغريب، أنّ الشيء الذي كنتُ أهرب منه، كان هو المهارة الوحيدة التي أجيدها والقابلة للبيع. لذلك أصبحتُ طاهية)).
_((كيف سار الأمر معكِ؟))
_((لم يكن جيداً في البداية)) قال دوريس بنبرة اعتراف ((كنتُ أعمل في شوارع وأزقّة مريعة، لم يكن الزبائن هناك يبالون بالاحتراف أو المظهر. كل ما كانوا يرغبون به تناول وجبة سريعة ثمّ المضيّ في طريقهم. كنت أكره ذلك. لكنّني تابعتْ.
ثمّ تعلّمتُ كيف أسوّقُ لنفسي جيداً. عثرتُ على أماكن مناسبة لأُظهِرَ نفسي، وأتواصل من الزبائن المناسبين. بدأ نجمي بالسطوع في عالم الطبخ. لا وجود للطرق السهلة، أؤكّد لك ذلك. فأن تصبح خبيراً في مهنتك، سواءٌ أكنتَ طاهياً أو طبيباً، يتطلّب ذلك الكثير من العمل والجهد.
بمرور الوقت، أصبحتُ معروفة بين الزبائن وصار لي اسم مشهور. لقد أصبحتُ سلعة. أخذ الناس يتّصلون بي ويعرضون عليّ عملاً، بدلاً من أن أطلب أنا منهم ذلك. أخذ عدد زبائني بالازدياد، وأرتفع أجري، وكان الناس على استعداد للدفع. كنتُ أقيم حفلات خاصّة، وأقدّم وجبات لعدّة أشخاص، حتّى أنني كنت أدعو زبائني البارزين وأصدقائهم لحفلات عشاء في منزلي الخاص. بالنهاية، فرص العمل التي كانوا يقدّمونها لي كانت تستحقّ مني قضاء ليلة كاملة من أجلها)).
_((وخلال هذه الفترة))، قال الطبيب ((ألَمْ تزوري والدكِ؟)).
_((كلا)) قالت دوريس ((أعتقد أنني كنت أكرهه… هذا غير منطقي، أعلم ذلك… لكنك سبق وقلت أنّ المشاعر ليست منطقية دائماً)).
_((إذن، كيف انتهى بك الحال في منزل والدكِ يوم الانفجار؟))
_((حسناً، قرّرت أنّ الوقت قد حان لزيارته والاطمئنان عليه)) قالت دوريس شارحة ((فكّرت أنّ من غير المعقول أن أكحقُدَ عليه إلى الأبد. لقد مضى عشرين عاماً. ربّما لم تجرِ الأمور بيننا بشكل جيد قبل عشرين عاماً، لكنّني أصبحت راشدة الآن. وفكّرت بأني أدينُ له بزيارة أو زيارتين على الأقل. فهو قد ربّاني، وهو والدي في النهاية)).
_((وكيف سار الأمر؟)).
_((في الواقع، كما قلت، كان أول شيء أراد مني فعله هو أن أطهو وجبة من أجله. بصراحة، أغضبني ذلك. فبعد عشرين عاماً، لم يتغيّر أبداً. على الإطلاق. ولو قليلاً. شعرتُ بخيبة أمل)).
_((إذن ماذا فعلتِ؟))
_((ذهبت إلى المطبخ))، قالت دوريس ((ماذا يمكنني أن أفعل غير ذلك؟ لَحِقَ بي إلى المطبخ. دردشنا قليلاً ريثما كنتُ أُعِدُّ له وجبته. كنت أقف بجانب فرن الغاز، وعلى الأرجح أنني فتحت صمّام الغاز بدون قصد خلال حديثنا أنا ووالدي، ثم نسيت أنني فعلتُ ذلك. ثمّ فتحتُ صمّام رأس غاز آخر وحاولت إشعاله. هذا آخر ما أذكره في الحقيقة)).
ارخى د.ميتشل ظهره على مسند الكرسي وقال: ((دوريس، هل أستطيع أن أسألكِ سؤالاً قد يبدو لكِ غريباً بعض الشيء ولا يمتُّ لموضوعنا بصلة؟))
هزّت دوريس كتفيها بلامبالاة وقالت ((كما تشاء، دكتور)).
أخذ الطبيب نفساً عميقاً، ثمّ أخرجه بضيق. نظر في عينيها مباشرةً، وقال ((دوريس، ما الفرق بين ملعقة الشاي وملعقة الطاولة؟))
_((ماذا؟)) قلت جوريس مدهوشة.
_((ملعقة الشاي وملعقة الطاولة… ما الفرق بينهما؟))
_((ملعقة الشاي تستخدم لتحريك الشاي)) قالت دوريس مو ضّحة ((بينما ملعقة الطاولة تستخدم لأغراض تناول الطعام، كتناول الحساء، حلوى الكاسترد، والمقبلات)).
حَكّ د.ميتشل حاجبه وقال ((كلا دوريس، “ملعقة شاي” [ملعقة صغيرة] و”ملعقة طاولة” [ملعقة كبيرة] كليهما عبارة عن قياسات لتبيان كميات معينة يستخدمها الطهاة في جميع أرجاء العالم. أيُّ طاهٍ محترف سيعرف الفرق. حتى الناس العاديين الذين يطهون في منازلهم يعرفون ذلك. أنتِ لستِ طاهية يا دوريس. ولم تكوني قط)).
انتفضت دوريس ((ههه، هذا سخيف. طبعاً أنا طاهية محترفة. وكنتُ أمارس الطهي طوال حياتي!)).
_((لا، هذا غير صحيح)) قال د.ميتشل ((اطّلعتُ على سجلّكِ الجنائي. لقدتمّ توقيفك من قبل سبع مرات بتهمة ممارسة الدعارة خلال العشرين سنة الماضية)).
_((دعار…!؟)) تلعثمت دوريس، مستهجنة ما قال الطبيب ((هذا سخيف، ليس صحيح أبداً!… من الواضح أن خَلَطتَ بيني وبين شخصٍ آخر. أي نوعٍ من المستشفيات هذا؟!))
_((إنّه مشفى للأمراض العقلية يا دوريس. لقد قتلتِ والدكِ في ذلك الانفجار، وكنتِ تحاولين قتل نفسكِ أيضاً)).
_((كلا!)) صرخت دوريس منهارة، محاولة التخلّص من قيودها ((هذا ليس صحيحاً!، أنا طاهية!)).
_((لقد حوّلتِ عملية ممارسة الجنس إلى طهي. مذ أن كنتِ في الحادية عشرة من عمرك. هذه من الآليات الدفاعية النفسية. كانت الطريقة الوحيدة لمساعدتك على البقاء والنجاة)).
_((كلا!!!)) صرخت دوريس.
_((لكنكِ كنتِ قوية)) قال الطبيب ((أقوّى ممّا كان يتصوّر. كنتِ قوية لتهربي منه، قوية كفاية لتنجي عن طريق بيع نفسك، قوية جداً لتعودي إليه وتنتقمي منه على ما فعله بكِ)).
_((لاااا… أرجوك!)) صرخت.
_((إنّه ميتٌ الآن)) قال د.ميتشل ((لا يمكنه إيذاءك بعد الآن. إنّه ميتٌ وأنتِ قتلتِهِ. لقد انتقمتِ. وانتصرتِ)).
أخرجت دوريس صرخت طويلة وقوية لدرجة دفعت د.ميتشل للقلق مخافة أن تلحق الأذى بحبالها الصوتية. أمسك بحقنة بجانبه وحقنها.
ارتخت دوريس وبجأت تفقد وعيها، وسجّل ملاحظة على سجلّه الطبي.
_((سنساعدك على تجاوز الأمر)) قال الطبيب أمامها وكأنّه يخاطبها ((لقد تمكّنت من تجاوز أمور قد تحطّم الأشخاص العاديين، وسأساعدك على تجاوز الأمر حتى النهاية، أعدُكِ))
تفقّد سجلّها الطبي، قبل يومين، لم تكن تتذكّر الانفجار أصلاً. البارحة، تذكّرت حدوث الانفجار، لكنها لم تذكر أنّه حدث في منزل والدها. غداً، ستعود لها ذاكرتها بشكل أفضل، وتتذكّر ماحدث بشكلٍ أوضح. كان واثقاً من ذلك.
_((أعدُكِ))، قالها مرةً أخرى، ثمّ خرج من الغرفة، وأقفل الباب خلفه.

___

2016

المصدر:
http://www.galactanet.com/oneoff/thechef_mod.html

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *