السجون التي نعيش فيها

*الفاهم محمد

من منا لا يعرف تلك الأمثولة الشهيرة (أمثولة الكهف l’allégorie de la caverne) التي يقدمها أفلاطون لشرح فلسفته. تقول الحكاية باختصار، إن ثمة سجناء يرسفون في الأغلال داخل كهف مظلم، لا تدخل إليه سوى خصلات صغيرة من الضوء تسقط على جدار الكهف، فيرى هؤلاء ظلالاً تتراقص أمام أعينهم معتقدين أنها حقيقية. يفترض أفلاطون في مرحلة لاحقة أن أحد هؤلاء السجناء استطاع أن يحطم هذه السلاسل، وأن يخرج من الكهف، بصعوبة سيفتح عينيه أمام هذا العالم الجديد الذي يمتد أمامه والذي تنيره الشمس، وسيكتشف إذن أن الحياة هي أوسع بكثير مما كان يظنه، وأن الظلال التي كان يعتقد أنها حقائق ما هي إلا أوهام. في المرحلة الأخيرة يرى أفلاطون أن هذا الرجل الشجاع سيفضل ألا يستأثر بهذا الاكتشاف لنفسه وحده، بل سيعود إلى الكهف كي يخبر باقي أصدقائه بما رآه ويحثهم على أن يعيشوا نفس التجربة، غير أن هؤلاء لن يصدقوه وسيتهمونه بأنه أصبح مجنوناً، بل ربما يجهزون عليه كما يقول أفلاطون في نهاية الحكاية.

هذه الحكاية لا تهدف إلى تقديم سرد خيالي بالطبع، فأفلاطون ليس روائياً، وإن كان قد امتلك أسلوباً بارعاً، وإنما هي عناصر رمزية تحمل دلالة فلسفية؛ فالمعنى الخفي الذي يريد أفلاطون تمريره هو أن الوجود الحسي الذي نعيشه شبيه بهذا الكهف، حيث نعتقد أن ما نراه هو الحقيقة. وحده من يمتلك القدرة على التجريد ومفارقة عالم الظاهر بإمكانه أن يلامس ماهيات الأشياء. هذا هو ما يسمى باصطلاحات أفلاطون الفلسفية الجدل الصاعد: أي الصعود من المحسوسات إلى المعقولات.

والحقيقة في نظر أفلاطون – وهذه هي أطروحته التي اشتهر بها داخل تاريخ الفلسفة – ليست بنت هذا العالم، وليست من جنس هذا الواقع ولا تنتمي إلى عالم الآراء السائدة، عكس ما كان يعتقد السفسطائيون. لكي نصل إلى الحقيقة لابد من تحقيق الانفصال عن هذه الآراء أي عن المعرفة المتداولة، وهذا ليس شيئاً سهلاً، فهو يقتضي أمرين: الأول أن نكون قادرين على السموّ بالروح في سماء المعقولات بعيداً عن إكراهات عالم الحس. لهذا السبب يقول أفلاطون في فيدون: «الحقيقة أن أولئك الذين يشتغلون بالفلسفة بمعناها الحقيقي يتدربون على الموت» (ص 32).

طبعاً هذا لا يعني أن نلقي بأنفسنا من شاهق كما فعل أمبادوقليس حينما رمى نفسه في بركان إثنا. بل معناه أن نقتل الحواس داخلنا، وأن ندرب أنفسنا على التفكير في ماهيات الأشياء وحقائقها. أما الأمر الثاني فهو أن هذه العملية في حد ذاتها مغامرة قد لا تنتهي نهاية سعيدة لأن الناس لا ترضى بتغيير وجهة نظرها بسهولة، ولكن مع ذلك ثمة دلالة عميقة في هذه العودة إلى الكهف، إنها تدل على أن هناك وظيفة يمكن أن يلعبها الفيلسوف والباحث عن الحقيقة بصفة عامة، إنها تنوير عقول الآخرين، حمل المشعل إليهم ووضعهم في مواجهة أخطائهم الذهنية.

بساطة مخادعة

هل جانب أفلاطون الصواب في تصوره الفلسفي هذا؟ أكيد أن هناك العديد من الأنساق الفلسفية التي ظهرت فما بعد، والتي حاولت تجاوز المثالية الأفلاطونية، سواء باسم الحقيقة المحايثة للعالم وليس المفارقة له {أرسطو} أو باسم الانتصار للحياة بدل إدانتها {نيتشه}. ولكن كيفما كان الحال يظل أفلاطون هو ذلك الرجل الذي صنع قدر أوروبا، كما قال الفيلسوف التشيكي جان باتوكا في كتابة: «أفلاطون وأوروبا».

إن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يعي تناهيه، ووعيه هذا هو ما يدفعه إلى تجاوز المعطى اليومي والعابر، من أجل تأسيس ذاته ككائن يبحث عن المعنى الكلي لحياته.

قد تبدو الفكرة المعروضة في أمثولة الكهف عند أفلاطون بسيطة وواضحة ـ إذا ما قورنت بأنساق فكرية لاحقة في تاريخ الفلسفة، حيث يبدو الغموض كما لو أنه جزء من النسق الفكري ذاته وحجة فلسفة بعينها كما هو الأمر عند نيتشه أو هيدغر ـ ولكنها بساطة مخادعة، نحن هنا نتحدث عن مساءلة عنيدة تقوم بها الفلسفة لعالم الظاهر كي تستدعي عالماً آخر غير معطى مباشرة، عالماً غير مرئي، ولكنه مع ذلك يتربع مقام الوجود. ولكن كيفما كان الحال لنترك هذه النقطة لمن يهتمون بالتحليل الداخلي للنسق الفلسفي الأفلاطوني، فما يهمنا هنا هو شيء آخر تماماً. إنه التساؤل حول طبيعة هذا الكهف ذاته، فبعد كل هذه القرون التي تفصلنا عن أفلاطون، والتي بطبيعة الحال استطعنا أن نراكم فيها الكثير من المعارف في مختلف الميادين، هل يمكن الجزم أننا قد غادرنا هذا الكهف وتركناه وراءنا؟ ألا يمكن القول، عكس ذلك، أننا لا زلنا إلى يومنا هذا، سجناء العديد من الكهوف التي ترسخت إما بوساطة السلطة المعرفية أو العقائدية أو السياسية؟ ماذا يعني إذن اليوم الخروج من كهف أفلاطون؟

السلطة الإعلامية

كتب الكثير حول هذا الموضوع، من منطلق التحليل الاجتماعي رأى بيير بورديو مثلاً أن «الرأي العام» لا يوجد، نحن لا نمتلك مواقفنا وآراءنا واختياراتنا، بل هي عرضة للتلاعب من طرف وسائل الإعلام التي تعرف جيداً كيف توجهها وتحددها. فالرأي العام ليس وليد المواقف الحرة للذوات المفكرة، إنه هو فقط ما تعرضه وسائل الإعلام وتسلط عليه الضوء، عبر برامجها ووصلاتها الإخبارية وتغطيتها الصحفية. تمارس السلطة الإعلامية إذن تسييجاً لأفكارنا واختياراتنا؛ لأنها لا تعرض إلا ما تراه مناسباً.

الثقافة الاستهلاكية

منذ أن كتب السوسيولوجي الفرنسي جان بودريار كتابه الشهير:«مجتمع الاستهلاك»، أصبح هذا المفهوم أساسياً لتوصيف طبيعة المجتمعات المعاصرة. لقد جعلت هذه المجتمعات الحضور مقتصراً على ما يستهلكه الإنسان من بضائع، لا ما يحمله من إمكانات فكرية أو إبداعية، أو ما ينتجه في المجتمع من فعالية سياسية.

إذا كان الإنسان قديماً يشتري البضاعة لأنه في حاجة إليها، فإنه اليوم يقتنيها لأنه استسلم لإغراءات الإشهار، التي رسخت في وعيه أو في لاوعيه أنه في حاجة إلى هذه البضاعة. يقف الإنسان أمام الرفوف ويقول لنفسه هذه البضاعة تنقصني، ولكنه قبل أن يراها لم يكن كذلك. الرأسمالية اليوم تخترع هذه الحاجات عن طريق الدعاية الممنهجة، وفي نهاية المطاف نجد أنفسنا مغمورين في اللذة السحرية للاقتناء والتبضع. لقد أصبحت هذه الثقافة تنصب نفسها اليوم كديانة أخيرة لإنسان عصر الفراغ، إنها ديانة الاستهلاك وعبادة السلعة، لها قساوستها ومنشوراتها وطقوسها، بل ودور العبادة الخاصة بها، ألا وهي هذه الأسواق الممتازة التي أصبحنا نرتادها كل يوم أحد، نجوب ممراتها بكل خشوع وابتهال، نلهث وراء ملء العربات المدفوعة، وكأننا كلما أكثرنا من التبضع والاستهلاك اقتربنا من جوهرنا الإنساني.

أيديولوجيا الجماهير

يقال إنه بعد سقوط المعسكر الاشتراكي في نهاية الثمانينيات، انتهت الإيديولوجيا وما عاد لها وجود. كان دانييل بيل هو أول من أعلن نهاية الإيديولوجيا قبل هذا التاريخ، في كتابه الصادر سنة 1969 والذي يحمل نفس العنوان، معلناً في الآن ذاته ولادة مجتمع المعلوميات الذي نعيش اليوم تجلياته الثورية. ولكن ألا يمكن أن تكون أطروحة نهاية الإيديولوجيا هي ذاتها إيديولوجيا من نوع جديد. ألا توجد اليوم إيديولوجيات أخرى بديلة تصنع وعي الأفراد؟ يمكننا أن نتحدث إذن عن إيديولوجيا ما بعد نهاية الإيديولوجيا. هناك على الأقل اليوم إيديولوجيتان أساسيتان تهيمنان في الألفية الثالثة، {البعض يضيف إيديولوجيا ثالثة وهي تلك التي يحملها المدافعون عن البيئة}، من ناحية ما نعرفه جميعاً عن الفكر التكفيري وعن التطرف الديني، ومن ناحية أخرى إيديولوجيا الاستهلاك المعمم، أو ما يمكن أن نسميه بإيديولوجيا الحشد الجماهيري. تأخذ ثقافة الاستهلاك بعداً جماهيرياً، فهي سلوك نمطي ذو طابع جمعي، ومن ينفلت منها ينظر إليه اليوم على أنه نشاز أو غير طبيعي، عليك إذن أن تشتري هذا المنتوج لأن جميع الناس قاموا بشرائه. إذا كنت تريد أن تظل مسايراً للعصر ومحافظاً على تقدمك عليك أن تحصل على هذه البضاعة، فالسلوك الجمعي هو ما يميز ثقافة الاستهلاك، لاحظ – مثلاً – كيف أن الشركة الفلانية تقوم بإعلانات ودعايات كبيرة عن المنتوج الفلاني الذي سيتم طرحه في الأسواق في يوم وساعة محددة، فتجتمع حشود من الناس وهي تنتظر أمام الباب حتى تحين الساعة. تم تفتح الأبواب ليندفعوا إلى الداخل وهم يتسابقون وكأن الأمر يتعلق بحدث تاريخي علينا أن نكون من أوائل المشاركين فيه. هناك أيضاً كرة القدم ففيها تأخذ ثقافة الحشد وإيديولوجيا الجماهير أبرز تجلياتها.

وسائط التواصل الاجتماعي

منذ ظهور الكمبيوتر الشخصي والهاتف النقال والألواح الإلكترونية، أصبحت هذه الأجهزة تلعب دوراً متعاظماً في حياتنا. لقد تجاوزت اليوم كونها مجرد أدوات جاهزة للاستخدام، بل هي بمثابة قطع غيار – prothèses تستكمل الجسد، لا يمكن الاستغناء عنها مثلما لا يمكن الاستغناء عن النظارات الطبية والرمامات السمعية. ورغم أننا لم نستوعب بعد كل التطبيقات التي تمنحها، فإن هناك العديد من التطبيقات التي نكاد لا نفارقها مثل الفيس والواتساب والتويتر وغيرها. هذه هي السجون التي نعيش فيها اليوم لأننا نمضي ساعات طوال في استخدامها. الظاهرة لم تعد تقتصر على المراهقين، نحن نجد اليوم موظفين فوق مكاتب عملهم لا يستطيعون وضع هاتفهم النقال جانباً. طبعاً وسائط التواصل الاجتماعي تؤثر اليوم ليس فقط على المردودية في العمل، بل أيضاً تساهم في تراجع التحصيل العلمي بسبب اعتمادها في الغش في الامتحانات مثلاً، أو في التفكك الأسري فيما يسمى اليوم بالخيانة الرقمية أو غيرها. إن كل هذا لا ينفي ما لهذه التقنيات الجديدة من فضائل في حياة الإنسان، ولكن للتقنية ثمن اجتماعي وأخلاقي لم نتحكم في نتائجه بعد.

تلكم عينة صغيرة عن بعض الكهوف التي نعيش فيها اليوم. ويمكن أن نضيف بشكل سريع نظرية المؤامرة، التي ترى أن هناك قوى غامضة ومجتمعات سرية تتحكم في المشهد وتحركنا كيفما أرادت مثل «أحجار على رقعة الشطرنج»، كما يحمل عنوان أهم كتاب دافع عن مثل هذا الرأي لصاحبه وليام جاي كار.

إن طبيعة التحولات التي يعرفها العالم اليوم، سواء على الصعيد العلمي والتكنولوجي، أو على الصعيد الاجتماعي والاقتصادي، تستدعي منا القيام بتغيير طريقتنا في التفكير التي أصبحت نمطية ومعتادة، وما عادت قادرة على فهم وإدراك طبيعة هذه التحولات. ماذا نعرف حقاً عن الواقع، وما هي الحقيقة خارج ما تعرضه علينا وسائل الإعلام والثقافة الاستهلاكية ؟ هذه هي الكهوف الأفلاطونية المعاصرة. غير أن سكان مدينة زايون هم كل هؤلاء الذين يشكون في مدى نجاعة هذه المصفوفة المفروضة عليهم. إنهم كل هذه العقول الحرة التي تحلق في مختلف ميادين المعرفة عما لم يقل وراء ما قيل فعلاً، أو عما هو ممنوع أساساً من القول.

عقول حرة

سكان مدينة زايون هم كل هؤلاء الذين يشكّون في مدى نجاعة هذا المصفوفة المفروضة عليهم. إنهم كل هذه العقول الحرة التي تحلق في مختلف ميادين المعرفة عما لم يقل وراء ما قيل فعلاً، أو عما هو ممنوع أساساً من القول.

________
*الاتحاد الثقافي

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *