عقب ثورة يناير 2011 أصدرت شيرين أبو النجا كتابًا بعنوان “المثقف الانتقالي من الاستبداد إلى التمرد”، وهو أشبة بدراسة حالة عن أوضاع المثقفين، سعت فيه لمناقشة تبدلات مفهوم المثقف، بعد مسألة الإحراج التي تعرّض لها شكل المثقف المصري الذي ظلّ منشغلاً بتكريس وتوظيف «الثقافة» لصالح السُّلطة، وَمُنعزلاً في برجه العاجي. ولكن مع قدوم الثورة تحطّمت صورة ذلك «المثقف» عبر جيل جديد ارتبط بالشارع وقام بتقديم اقتراحات ثقافية على الأرض وغير مُنفصل عنها. أحداث الرواية الأخيرة للشاعر الأردني أمجد ناصر “هنا الوردة” الصادرة عن دار الآداب، لا تنفصل عن هذا السياق في تقديم صورة لهذا المثقف، وما حلّ عليه من انتكاسات وتيه. بعبارة مختزلة “هنا الوردة” هي تجسيد لسقوط الشعارات والأيديولوجيات وتبعثر الأحلام، هي رواية المآلات الضائعة.
فلنرقص هنا
عنوان الرواية “هنا الوردة” في أصله هو جزء من عبارة “هنا الوردة .. فلنرقص هنا” لكارل ماركس من كتابه الشهير «الثامن عشر من بروميير» على حد قول أمجد ناصر نفسه في أحد الحوارات معه، وإن كانت في أصلها الأول قبل تحوير ماركس، هي عبارة هيجل التي استوحاها من الميثولوجيا الإغريقية، مغزى العبارة يُوحي بالتحدي أمام أدعياء المعرفة على نحو ما سعى هيجل، داعيا إياهم للمبارزة، ومع أن مضمون الرواية قد يتماس ولو جزئيًا -من وجهة نظري على الأقل- مع هذا المعنى الذي قصده هيجل، إلا أن ثمة معنى آخر قصده أمجد ناصر لروايته -حسب قوله- حيث يضعها في سياق صرخة الحياة بأن «لا عودة إلى الماضي»، فالحياة هي نفسها التي تصرخ، أمام الوضع الذي يخرج، أو يتخلَّق من رحم المراوحة والتكرار قائلة “هنا الوردة”.
لكي يستقيم معنى التحدي والفشل علينا أن نتأمّل تساؤلات إبراهيم الحناوي صديق يونس الخطّاط، وهو يشعر بتوجس من غياباته المتكررة؛ فيتساءل “لماذا يُعارض شاب من العائلات المؤسِّسة للحامية، مقرَّبة من الحفيد، ميسورة الحال، نظام الحكم على هذا النحو الطائش؟”، ينتهي الحناوي من تساؤلاته إلى “أنه ليس منطقيًّا، وإن كان كل شيء في الحامية ممكنا”. هذه التساؤلات تضع شخصية يونس في سياقها الصحيح فهو في نظره “يتسلّى بالخطر مثل طفل يلهو بقنبلة لا يُقدِّر مدى خطورتها”. في الحقيقة إن هذه المغامرات الدونكيشوتية التي يُقْدم عليها يونس، أشبه بمغامرات القصص التي يهوى قراءتها، وإن كان الحناوي في سياق آخر يرى “أن هذه ليست الحياة مهما ادعت الكتب قربها منها”.
الرواية في أحد أوجهها تحكي سيرة يونس الخطّاط، سليل أسرة مقرّبة من الحاكم (الحفيد) والأسرة الحاكمة، بل هو يمتلك شرائط المثقف العضوي التي تدفعه إلى التغيير؛ فهو شاعر ولديه شغف بالكتب القديمة، وينتمي إلى تنظيم يساري يُعارض سياسات الحفيد، بل ينخرط مع التنظيم في عملية فاشلة لاغتيال الحفيد زعيم الحامية الجنوبية، تلقي به طريدًا وتائهًا خارج البلاد. كما أنه منصهر كليًّا في الفكر “الذي سيغيُّر العالم الذي يتصادم (….) بكل ما يؤمن به محيطه، تقريبًا”.
ومع هذه الاستعدادات علاوة على استعارته صفات بطل رواية دون كيشوت الشهيرة لسرفانتيس، التي يحملها معه في رحلته إلا أن صفات يونس نفسها تدعو للقلق، فهو كما يصفه الراوي “في يونس شيء من التفلّت والتمرّد والمباشرة في الكلام والنطنطة المزعجة منذ الصغر”. ومن هنا تتماهي الخيوط بينه وبين بطل دون كيشوت، في رغبة كليهما في محاربة طواحين الهواء، وإن كان -هنا- الهدف محددًا بالمطالبة بتغيير العالم. هذه الصورة التي بدا عليها يونس وهو يحمل لواء التغيير تتوازى مع صورة المثقف العضوي كما عند بندا وجرامشي، لكن العجيب أن هذا المثقف بهذه الصفات وبتلك الآليات على مرّ التاريخ -على الأقل في واقعنا العربي- لم يأت التغيير على يديه، وهو ما كان بمثابة الإحراج على حد تعبير شيرين أبو النجا، وهو المعنى الآخر الذي يلمّح إليه النص عبر هذه الشخصيات على الأقل السياسية النخبوية والمثققة؛ إبراهيم الحناوي، ومحمد فيضي،… إلخ، فجميع هذه الشخصيات تسقط في تحقيق أهدافها الخاصة (الحب مثلا) وليس أهداف المجموع التي هي مع الأسف منفصلة عنه، وإن كانت تتحدث باسمه كما بدا جليا عبر أدبيات التثقيف الماركسي التي يتقنها أصحاب يونس في التنظيم ويراد لها “أن تشفي العالم من آلامه الأرضية ونواحه على كسرة خبز وشربة ماء”.
تغيير العالم
لا يغدو مطلب تغيير العالم حسب الفكر الماركسي، في وعي يونس الخطّاط مجرد شعارات أو حتى حبيس أدبيات التثقيف الحزبي الجافة، بل يقطع يونس شوطًا بعيدًا في عملية تغيير الحياة التي توازي تغيير العالم عند ماركس، عبر عدة مستويات تبدأ أولا بعلاقته بعقلة الأصبع وتصديه له، وهو ما أهله ليكون صديقًا له بعد أن نال احترام عقلة الأصبع، وفي مرحلة النضج بعلاقة يونس الخطّاط السرية بالتنظيم المعارض لسياسات الحفيد، وتكليفه فعليًّا بمهمتين: الأولى تتمثّل في توصيل رسالة إلى أحد أعضاء التنظيم في مدينة السندباد، وينجح في هذه المهمة، ومن ثم يُكلَّف بالمهمة الأصعب، وهي تسهيل الطريق لعملية الذئب التي كان هدفها اغتيال الحفيد، زعيم الحامية أثاء حضوره الحفل الوطني الكبير، وبالفعل يُهيئ الفرصة لمن اختارتهما القيادة للوصول إلى أقرب نقطة للتنفيذ.
السؤال الأهم: هل حقّق يونس حلم التغيير أو حتى زرع الأمل في الرغبة في التغيير؟ الجواب، لا، فيونس لم يجن من أفكاره سوى الهروب، وعاش في متاهة أشبه بمتاهة دون كيشوت، لم يخرج منها بل أقحم فيها كل مَن اقترب منه. وكأنّ هذا الفشل الذي مُني به هو جزاء مَن يطمح للتغيير، وهو ما يتوزاى فعليَّا مع مآلات الربيع العربي.
وإن كان بهذه الرؤية يتسرّب معنى سلبيّ دون أن يقصده المؤلف؛ يشير إلى فشل أدوات المثقف في التغيير، وهو الفشل ذاته الذي ينزاح على المعارضة بكافة أيديولوجياتها، خاصة بعد فشل ثورات الربيع العربي، وعودة الأوضاع إلى أسوأ ما كانت عليها من قبل، وكأن الدكتاتوريات التي ثارت عليها الجماهير، تتحدى وتقول “هنا الوردة … هنا ردوس” بتعبير هيجل في أصل الأسطورة.
صناعة الرب الإله
ما يُحمد للمؤلف أنه مع إقراره بفشل التغيير عبر هذه الآليات، إلا أنه يقدم أسباب هذا الفشل، وأيضًا ذرائع تغوّل هذه الدكتاتوريات، وتكبيلها للحراك الثوري. فيرصد الراوي لممارسات القمع التي تُمارسها الدكتاتوريات في صورة الحفيد، الذي يُلقي جامّ غضبه على مغنية البلاد الأولى، بسبب فلتة لسانها في إحدى حفلاتها الخاصة. لكن أهم آفة لهذا السقوط المريع، وتلك المتاهة، هو حالات التأليه وصناعة الاستبداد أو ما يمكن تسميته بالرب الإله، فالجماهير هي التي تسعى بنفسها لهذا الفعل المُخزي، فيشير إلى الدعايات التي يقوم بها وجهاء الحامية من رجال أعمال وتجّار، ورؤساء الجمعيات ومدراء المدارس، والعائلات، من إعلانات يُجدِّدون فيها البيعة له، ومنها أيضًا حالات التواطؤ بين الأنظمة والأحزاب والجمعيات، في صيغ المحفزات والدعم اللذين تُقدمهما الدولة لهذه الجمعيات مقابل الولاء لها، على نحو ما فعلت مع جمعية الهدى والإصلاح التي كان أبو طويلة صديق يونس عضوًا بها ومتعصّبًا لأفكارها، وكانت الدولة تتخذ من دعم الجمعية وسيلة لمواجهة الجماعات الملحدة، وهذا الدعم أتى أُكُله حيث وقفت هذه الجمعية مع النظام أثناء التمرد الجنوبي، وهو الدور الذي لم تنسه الدولة لها، فقدمت لها الكثير من التنازلات على الصعيد الاجتماعي والتربوي ممثلاً في قانون الاختلاط الذي فرضته ورفع المنسوب الديني في المناهج والحدّ من رخص البارات.
سلطة الراوي
يهيمن على الخطاب السردي راو عليم مُشارك (غائب) مضطلع بحركة السرد من البداية، يمتاز بقربه من الشخصيات وتنقلاتهم، وإن كانت معرفته تسمح له برؤية الأحداث من الخارج، حسبما أراد له المؤلف، ومن هنا عمد إلى حيلة تقنية تمثلت في حضور راوٍ موازٍ ميزه المؤلف ببنط كتابي عريض، وبخط مائل عن الخط المستخدم في المتن. مهمة هذا الراوي هي تفسير، ما لم يفصح عنه الراوي الغائب، أو التي عجزت سلطاته عن الوصول إليها. تتعدّد الأدوار التي يقوم بها هذا الراوي، فيتجاوز ترميم ثغرات السرد، الغائبة عن الراوي الغائب/العليم، وفي بعضها يقترب من صفة المحامي في دفاعه عن المتهم/الشخصية التي يتناولها، فهو لا يبطل حجة أبو طويلة، وإنما يقدم لصورة مخفية عن الحناوي وعلاقته بالفتاة حياة، وهو أشبه بوثيقة دامغة لنفي هذه المراوغة التي ادعاها أبو طويلة، ثم استحالة إتمام الزواج بسب مرضها الذي أودى بها بسبب إهمال الأطباء في المستشفى.
تنعكس هذه الخروقات والتداخلات من الراوي الضمني، على طبيعة الزمان السردي، الذي يستجيب لهذه الخروقات، ويبدأ هو الآخر في مراوحة زمنية بين الماضي حيث دائمًا يعود على الراوي الضمني، والزمن الحاضر حيث حكاية الهارب يونس وتنقلاته، ومن ثم تكشف هذه التدخلات عن ماضي الشخصيات جميعها وتكويناتهم الاجتماعية والثقافية، وبعضها يعود إلى زمن أسبق من زمن الحكاية نفسها، حيث تكوين الحامية، ودور الجنرال الأصهب في تأسيسها.