عن الكتابة بلغة أجنبية

*صهيب عبد الرحمن

يقول جاك دريدا في كتابه أحادية الآخر اللغوية[1]: “أنا لا أملك إلا لغة واحدة، مع ذلك فهي ليست لغتي”، ويعلن أنه أحادي اللغة قائلا: “أحاديتي هذه كانت وستبقى بيتي، هكذا أحسبها، وهكذا أسكنها وتسكنني، وهكذا ستبقى”، ويضيف: “إن الأحادية التي أتنفّسها هنا هي بمثابة العنصر الحاسم في حياتي”. نجد الفيلسوف الفرنسي، الجزائري المولد، في مكان آخر وهو يفصح بأن تعلّقه بالفرنسية يأخذ أشكالا عصابية، وأنه يشعر بالضياع في خارجها، وأن اللغات الأخرى التي يتكلمها أحيانا هي لغات لا يستطيع أن يسكنها. هكذا ينظر فيلسوف التفكيك إلى اللغة الفرنسية، بما هي اللغة الوحيدة التي يتحدثها، ومع ذلك فهي ليست لغته الأم (الأصلية)، لأن لغته الأم كان يفترض أن تكون العبرية، أو العربية، إلا أنه لم يتعلمها، بل لم يتمكن من فعل ذلك فيما يقول. هذا يفضي بنا إلى سؤال دريدا المحوري، في كتابه، هل يمكن للغة أن تكون أساسا للهوية، ومن ثمة أساسا للمواطنة؟ وهل في مقدور اللغة وحدها أن تشكّل ماهية الهوية والمواطنة، على حد سواء.

يرى صاحب “الكتابة والاختلاف”، أننا لا نجد نقاط توافق بين حديثنا عن اللغة التي يطلق عليها عادة اللغة الأم أو الأصلية، وحديثنا عن الميلاد، إن لجهة علاقة الميلاد بالأرض أو لجهة علاقة الأرض بالدم، هو أمر يختلف تمام الاختلاف عن الميلاد داخل اللغة والثقافة والجنسية والمواطنة. مع ذلك، فهو يرفض الاعتراف بأن حالته تنطوي تحت إحدى هذه المجموعات الثلاث، لكنها في الوقت عينه هي فرضيته الأساسية التي يتمسّك بها.

يورد دريدا في خضمّ تناقضه الملتبس حول كينونته اللغوية آراء ثلاثة من المفكرين اليهود، الذين تتباين مواقفهم من اللغة، اللغة الأم (الأصلية) تحديدا، والهوية والمواطنة والأنا والآخر، وهي بالعموم المفاهيم التي شغلت، وما زالت تشغل، المخيال الإبداعي لدى عديد من الكتاب والمفكرين في المهجر وبلدان الاغتراب. ليفناس واحد من بين هؤلاء الذين يحلل دريدا موقفهم من اللغة، ذلك الفيلسوف الذي ينحدر من أصول لتوانية، وبالرغم من إتقانه اللغة اللتوانية والعبرية والروسية، فإنه كتب وعلّم وعاش كل حياته تقريبا داخل اللغة الفرنسية. في حين بقيت اللغات الأخرى لغات مؤلَفة لديه، فإنه- وكما ينقل دريدا- قلّما يتحدث أو يبحث في مسألة الأصل أو اللغة الأم. إن هذا الأمر ليس أولوية بالنسبة إليه، إذ، وبالرغم من أنه عاش كما يقول بكل كيانه الفكري والنفسي داخل اللغة الفرنسية، فإنه لا يجد حرجا في الانفتاح على لغات أخرى، فماهية اللغة (الكلام) هي في النهاية صداقة وضيافة، كما يصرّح بدون مواربة، أنه يعلن أن اللغة الفرنسية والأرض الفرنسية، أحسنت ضيافته، إذ لم يتقاعس طوال حياته عن تقديم أسمى آيات الشكر والعرفان للغة الفرنسية، لغته بالتبنّى أو الاصطفاء، اللغة الحاضنة، لغة المضيف، لغة لا علاقة لها بالنسب، وليست أصلية في نظره.

على العكس من موقف ليفانس، يورد دريدا رأي فيلسوف يهودي آخر، هو فرانز روزانزفيغ، الألماني المولد واللغة، الذي تركّز انشغاله على محاولة استظهار التراث اليهودي القديم وتوطينه في المخيال الثقافي الألماني؛ حيث يرى أن اليهودي يستخدم لغة المضيف لأسباب نفعية بحتة لجهة شعوره الدائم بأنها ليست لغته الأصلية، أما تاريخه المقدّس فهو لا يشتم رائحته إلا في رحاب كل ما هو عبراني أصيل، باعتبار أن اللغة العبرية هي الوحيدة القادرة على تحمّل عبء الحمولة النوستاليجة والتاريخية التي يزخر بها تاريخ الشعب اليهودي، “فالمضيف يبقى مضيفا، ولغته تبقى لغة تعامُل إلى حين”، يصرح روزانزفيغ.

الموقف الثالث الذي يورده دريدا في هذا السياق هو رأي حنه آرنت، التي يصفها بنوع من الراديكالية، والمتمثلة في تعلّقها بقداسة معينة للأصل أو الجذر، إذ وبالرغم من هجرتها المبكرة إلى أميركا، ونشاطها الفكري المكثّف هناك باللغة الإنجليزية، فإنها لم تقطع صلتها قطُّ بأصولها الألمانية وبلغتها الألمانية، بل إنها عبّرت مرارا وبمرارة، عن عدم قدرتها على تحمّل مهجرها الجديد وحنينها الدائم للأجواء الأنطولوجية الرائعة في ألمانيا.

في سياق جدل الكتابة والأصالة اللغوية، ينتج اليوم العديد من الكُتاب أعمالهم بلغات أجنبية عنهم، وعادة ما يوجّه لهم سؤال يتعلّق بـ”لماذا تكتب بلغة أجنبية؟”، يأتي الجواب تارة على أنه يساهم في إنتاج أدب عالمي، وتارة يتعلل بحكم نشأته الحياتية، وتارة يأتي ردّ مراوغ بأن هذه اللغة الأجنبية هي التي يعبر بها عن نفسه بشكل جيد، إنه في كل تاراته يواجه نوعا من الاتهام بالخيانة والاستلاب من جهة لغته الأصلية.

تعني اليوم الكتابة بلغة أجنبية، في وجه من الوجوه، بحثا عن الاعتراف داخل المركز. وفي سبيل ذلك ينتج عدد غير قليل من كتاب الأطراف أعمالا أدبية بلغات عالمية، ومحمّلة بمجموعة هائلة من الصور التي رسمها الاستعمار. إنه في أحسن حالاته يهدف إلى إرضاء ذائقة القارئ الآخر، دون الاكتراث برأي من يتمّ الكتابة عنهم، وتحقق هذه الأعمال أرباحا طائلة من الأموال والشهرة. وفي الواجهة الأخرى يقف اليوم الكاتب بلغة محلية عديم الكلام، أو يمكن أن نقول إنه يتحدث بلا صوت. يتحدث الكاتب والمفكر المغربي عبدالفتاح كليطو، في فصل من فصول كتابه “أتكلم جميع اللغات لكن بالعربية”[2]، عن ما بات يُعرف بأدب الاستعمار، عن فكرة أن التفوق العسكري والاقتصادي الغربي مرتبط– بالأساس- بالهيمنة على الكلام، فالغزو لم يتم بالسلاح فحسب، وإنما عن طريق الأدب كذلك. ويكتب معلقا على الأدب الذي أنتجه المستعمر بأنه “أدب موجه لقراء غربيين، يشكّل الآخر موضوعه، فلا اهتمام بمعرفة رأي (الآخر) في الصورة التي رُسمت عنه، فهو ليس الأنت المخاطب، وإنما هو الغائب كما يقول النحاة، فضلا عن أنه ما من وسيلة لهذا الآخر للتعرف على هذا الكتاب الذي يعنيه، والذي ربما لا يعرف هو حتى وجوهه”.

غير بعيد عن هذا السياق، نجد أحد أبرز الكُتاب الصوماليين بلغة أجنبية، وأعني بذلك نور الدين فارح، الذي يصرّح بأنه يتقن، إضافة إلى الصومالية، الإنجليزية والإيطالية والعربية ولغة الأمهرة، لكنه اختار الكتابة بالإنجليزية. ورغم مقارعته للرؤى الاستشراقية لبلده، فإنه لا يتوانى عن الإعلان بأن سبب اختياره لها، يعود إلى كونها لغة “رابحة”. إنه يتجاوز هنا مسألة الإسهام بأدب عالمي، وعن اللغو المعتاد عن الكتابة عن الصومال الذي يجهله العالم، ليشير مباشرة إلى أنه يبحث عن لغة توصله إلى الشهرة، أو بعبارة أخرى، إلى لغة تمكنّه من الاعتراف به من قبل أكبر عددٍ ممكن من القراء.

لا يبالغ عبدالفتاح كليطو حين يقول “أن تترجم هو أن يعترف بك الجميع” وربما نضيف إليه، أن تكتب بلغة عالمية هو أن تحوز اعترافا من العالم. هل يخطئ فارح عندما يجيب بأنه لو خيّر بأية لغة يكتب لما تردّد في الكتابة بالإنجليزية؟ ألم تحسن ضيافته حسب تعبير لينفاس، لِنتساءل اليوم: من سيعترف خارج المجال الصومالي بأسماء من مثل محمد أفراح وعبدالله عَوَد وإبراهيم هود، مهما كان منسوب الإبداع الذي تحمله أعمالهم؟ وهي أسماء رائدة في الرواية الصومالية. إنه المبدع المسجون داخل لغته، إنها أعمال منشورة بنصف نشر، حسب إرنست رينان، الذي عبّر مرة “بأن العمل الذي لم يترجم لم ينشر إلا نصف نشر”، ولربما الترجمة هي الطريقة المناسبة اليوم لاستعادة صوت الأطراف… المخطوف.

*كاتب صومالي

هوامش:

– أحادية الآخر اللغوية – تأليف : جاك دريدا. ترجمة : عمر مهيبل، منشورات الاختلاف والدار العربية للعلوم، 2007.[1]

– أتكلم جميع اللغات لكن بالعربية- تأليف : عبد الفتاح كليطو. ترجمة : عبد السلام بنعبد العالي، الناشر: دار توبقال، 2013 [2]

________
ضفة ثالثة

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *