*علي الحديثي
(ثقافات)
كفاه سور يحاصر به الأوراق الممزقة، الكلمات دم يسيل من جراحها مرتطماً بالسور، نظراته أنامل تبعثر الجذاذات شاردة مع أغنية ( أنت عمري) في مقهى أم كلثوم، وقد اعترته رغبة عارمة للبكاء.. لم يستطع ولا يدري لِمَ؟ أهو الحياء ممن حوله؟ أم إن الأمور صارت سواسية في عقله.. فلاشيء يستحق الحب مثلما لا شيء يستحق المقت ..
أترانا نحب لنشرب كأس السعادة، وحجر صغير عارض يكفي لتحطيمها؟ أم نكره لنشعر بنشوة الكبرياء الزائف؟.. وفي الختام كلاهما سيرقد في أرض واحدة.. وحفرة واحدة..
كلماته كانت مقصلة يقطع بها رأس الأمل، إلاّ أن الفطرة ما زالت تعمل في داخله، مازالت الروح تصرخ في سجنها تحاول الهرب، ولكن أنّى لها والعقوبة لمّا تنته بعد، واكفّ الحرس في الممرات لم تزل في عناقها مع الأسلحة ولا قبل له بها..
– لكن ..
قال ذلك ..
– الحمد لله.. لم تمت الرأفة في قلوبهم فجعلوا لنا نوافذ، وإن كانت صغيرة، فالشمس لا تحتاج إلاّ أن تخفض رأسها قليلاً لتدخل منها.. ونسمات الهواء قادرة بحركاتها البهلوانية على الدخول والخروج ببلاهة..
– ولكن ..
تحركت شفتها بهذه الكلمة التي عُرِف بها، فكل شيء يحتمل النقيضين في حياته..
– ألا يمكن أن تكون وسيلة للعذاب، لتبقى الحسرات تتلاعب بنوازعنا حين تحدثنا الشمس أن وراء الجدران الـ.. فاسدة.. أناساً يقرؤون “دروب الحرية”!
حاول التملص من أفكاره ومن طبيعته البشرية الملتفة حول روحه إلتفاف الحبل حول رقبة المشنوق .. تقفز .. تجري من جدار لجدار بحثاً عن مخرج، وليس سوى الدموع التي حالت اللا أدرية من دونها.. والكلام.. الكلام .. مع من؟!.. مع نفسه؟ وهو عنوان الجنون.. أو هكذا يظنون، ولا مفرّ له منهم وقد غدوا قضباناً لسجن الحياة.. اليأس.. الحيرة.. الألم.. الضياع..لا .. ليست الروح في سجن واحد كما نظن، بل كثيرة، أكثر مما خدعنا به الفلاسفة.. كأن يداً خفية تلعب معنا لعبتها، تضع ورقة صغيرة في صندوق صغير.. والصندوق في صندوق .. حتى كان صندوقاً يتسع لرجل يقف فيه، حتى ارتدى العقل ثوب الحيرة وهو يقف بين اللا أدرية والجهل، رامياً نظراته سهاماً مجنونة في الفراغ، العدم جالساً على عرشه اللازماني ساخراً منه، بانياً من الدقائق والثواني التي تمر به عبر اللاوجود سياجاً شائكاً..
حتى إذا ما قتل الزمان الوحشين تكون كلماته رماداً متناثراً فوق رمال الحزن.. تحت رحمة رياح الألم، أمام عينيه بعدما تحولت الى مقبرة لدموعه التي لم تجد يداً تطمر التراب عليها، ولتأكل أجسادها العفنة كلاب الأيام السائبة، حين ذاك يتساوى كل شيء مع ضده، وينتصب الإنتحار تمثالاً رافعاً يد الحرية التي بترتها العيون النائمة.. يحاول الفرار .. الإختباء .. ينبش الأرض بأنامله بأظافره المحطمة بالصخور الضاحكة.. ينهض .. فإذا بسكين الضياع يرقص بيد التمثال المبتورة.. يقف أمامه، وقد مزقت أنيابه اللامرئية شفتيه، مازجاً لعابه بالدم والصديد، ينتظر قربانه بلذة الإنسان مشتهياً لحم الإنسان، محدقاً بعين الإنتقام .. ممن؟.. عذراً فهذا الذي لا أعرفه حتى الآن …
شبح الذكريات يسير متكئاً على بوابات الزمن الملطخة بالدموع الملونة.. الى مقبرة الماضي، لعل فيها من يكلمه..
أنشب مخالبه في جسد العراء، سمع صرخات الصمت تتنافر في الفضاء عمياء، تبغي الفرار من الهواء الذي صار عاصفة هوجاء من السياط التي تلهب ظهرها.. كل يريد الهرب .. كل يجهل الطريق.. فجأة لمع بريق مظلم بين دائرتين زجاجيتين، لم يكن لها بد سوى اختراقهما ..
– لا بد من الفراق ..
– كيف وأنت تزعم حبها؟
– ولهذا أقول: لا بدّ من الفراق..
– وهي .. ألم تفكر بها؟
– هي امرأة، عقلها في قلبها الذي يتساقط مع الدموع، ولست مستعداً لأمزج عقلي بقلبها ..
– إنه الجنون ..
– نعم انه الجنون، ولو كنت عاقلاً لما طرقت بابها..
– والحل ..
– الفراق
الصمت يمتد بيننا، وهو يحاول أن يبحث عن طريقة يبقيني بها، لأقطع صمته:
– اسمع .. اسمع .. خشخشة الإبتسامات التي تكنسها الشياطين.. إنهم يضحكون.. يبحثون.. لا سلة للمهملات.. كل سلال الزمن امتلأت بالقاذورات ..
– ماذا نعمل بها ؟
قال ذلك أحد الشياطين وهو يوقد عود الثقاب بسكارته ..
– نصنع أخرى .
– لا
صرخ شيطان آخر قابع في إحدى زوايا الأيام، سائراً بينهم:
– أنسيتم كم رمينا منها ؟.. وحين غفلنا عادوا جميعاً..
– وهل يصلح العطّار ما أفسد.. الشيطان ..
– لم يصلحوها.. ولكنهم أعادوها ..
– ما تعني ؟
– نحرقها ..
قال ذلك مقهقهاً وهو يرمي عليها عود الثقاب …….
انني أراهم.. نعم .. أراهم، برغم اختفائهم خلف نور الشمس، ولكن.. لا حول لي ولا قوة ..آه .. صرخت منتفضاً من مكاني ..
– ما بك ؟
– ابتساماتي التي تحترق ..
– ما بها؟
– تكويني ..
لا أعرف أي لون اتخذ وجهي.. فرائصي ترتعد .. أتلفّت يميناً وشمالاً، كأنني أتقي شيئاً ما..
– انظر .. انظر .. النار تتصاعد .. السماء تحترق .. النهار يعدو مذعوراً ليختبئ خلف الليل ويستر عورته .. قم .. قم ..
– الى أين؟
– نهرب ..
جريت كالمجنون، أسقط هذا الكرسي وذاك، محطماً سدود الضاحكين في المقهى، وأنا أصرخ:
– أحموا الأطفال من الإبتسامات … أحموا الأطفال من الإبتسامات..
خمس سنوات مضت من دون أن أعرف عنها شيئاً، لست أدري إن كانت هي تعرف عني شيئاً، أو سمعت أنني اليوم أدعى بالمجنون .. لست مجنوناً ..كل ما في الأمر هو أنني عرفت الحقيقة.. الحقيقة التي حالت بيني وبينها.. بيني وبين عقلي .. تساقطت نظراته ممزقة فوق جثث الأوراق…… لم تمض ثوانٍ حتى جاء صاحب المقهى ليفتح المروحة …