أولاد أحمد *
1 ـ إيقـاع
بَمَ كتبَ الأوائلُ قصائدَهم؟
– بالجزَرِ المبتلّ.
وبأي من أغصانِ الغابة نسخ الرّسُلُ أسفارَهم؟
– بريش العصافير المذبوحة.
وبماذا تكتب أنتَ؟
– بأصابع قدميّ…
أدقّ بهما على التُّراب الطريّ، دون نظام مُسْبَقٍ، مثل حصان جامحِ. وبمجرّدِ أن يستقيمَ إيقاع، أو تتشكّل أجنحةً لصورةِ،
تسقط الحروف على الورقة،
وتتوزّع على البياض، كما يتوزّعُ الجنودُ
الأميّون في صحاري الشّرق الوسيط.
وهل تنقط الحروفَ بدقّة؟
– كلاّ !
فالتنقيطُ حركةُ عقاب، تتمُّ من أعلى إلى أسفل،
وأنا
أخافُ أن أسْقطَ بعد نقطة.
وأخاف أكثرَ من القيامِ بعدَ كلّ نقطة، فلا أجدُ ما
أفعلهُ بقيامي:
أنا
الأفقيّ
السّعيدُ
بكثرةِ خيولي
المقتولةِ أمامي !.
2 ـ نكد النصّ
لم نسْتقِمْ، على هذه الهيئة المتهالكة، لكي نكتبَ لهم شعرًا.
ومع ذلك فهمْ لا ينفكّونَ ينعتُوننا بـ «الشّعراء» ليطالبونا – بعد ذلك – بـ «حقّهم» في أن نُنْتِجَ لهم نصوصا لذيذة، يستعينون بها على قضاء حاجاتهم.
وإرضاء لنرجسيتنا – نحن المحْرومينَ من جميع امتيازات النّاس العاديين – فقد توفّقوا
إلى حيلةِ جدّ مرهفة مفادُها:
أنّ اللّذة التي نُنْتِجها لهم، في مزارع آلامنا، هي وحدَها الكفيلةُ بتخْليدِنا بعد موتنا.
يريدون – إذا – أن يلتذّوا بنا مرّتين:
مرّة… حين نكون معهم
ومرّة… حين نكون قد كنّا
فماذا هيّأوا لنا، مقابلَ خدماتِنا، عدَا هذا الجحيم السّفلي؟ !
أوَ ليسوا جديرين، مستقْبلاً، بنصوص نكدةِ راقيةِ، ترُدّهم رأسًا إلى حالات الكتابة الأولى التي يسْتكْثرونها علينا لأسبابِ أخلاقيّة تافهة…
نسميها:
أسبابا أخلاقيّةً تافهةً.. ونمُرُّ….
3 ـ الكذب
ليس بسبب كونه لا يحْسنُ الإلقاءَ يبدو ذاكَ الشّاعرُ صوتًا حزينًا وجسدًا مرحًا.
أو جسدًا حزينا وصوتًا مرِحًا.
بل صوتًا وجسدًا لا تناسق بين نبراتها وإيقاعِهما.
أو فلنقلْ:
مزَقا وأشلاء ولُقطاً، ملفّقة من عدّة أجساد، يَحارُ في إثبات هويّتها حتّى جنرالاتُ الجيوش الميّتة.
وحتّى القليل من الصّور الجميلة التي توفّق إلى المسكِ بقرنيْها، فقد كانت أوْلى بشاعرٍ آخر غيره، يكفي أن تخرج مبحُوحةً من بين شفتيْهِ، حتّى نصدّقها ونهتزّ لها وسط الحضْرة.
وهو لا يكذب بسبب كوننا نعرفُ الطّقس الخارجي لقصيدته…
فقد يكون ميْتًا…
وقد نكونُ لا نعرفهُ… أصلا.
هو يكذبُ، فقط، لأنّ روحهُ ترفضُ تأثيثَ جسده في اللّحظة المناسبة:
اللّحظة ذاتها
التي يحاول فيها أن يكون صادقًا
بجيْش من الكلمات البرّانية العاهرة
وبسطْل من الدّموع المسروقةِ من… مياهِ النّهر !
4 ـ المكان
عندما تستبدّ به الوحدة…
ولا يرى أحدًا غيره في صمتِ المقهى،
يُفكّرُ الشّاعرُ – بحزم – في العودة إلى بيته.
يطلبُ قهوة سادسةً.
وبجديّة، مبالغ في صرامتِها، يجزمُ أنّها ستكون
القهوة الأخيرة.
يحدثُ أن يذكّرَ نفسَه بأنّه لا معنى للتّرتيب إذا لم تكن القهوة الأخيرةَ
أخيرةً بالفعل.
لكنّه لم يحدث له أبدا أن صاحَ مذعورًا:
– آه.. لو كان البيتُ موجودًا قبل العودة إليه !
مثلما فعل في تلك الليلة الحزينة حين اكتشف، في الرابعة صباحًا،
أنه اكْترى
بيتًا
لا يمشي
وزاد: فتصور أنه خُدِعَ !
٭ شاعر من تونس