غيبوبة

خاص- ثقافات

*محـــمــد لغـــريـــسـي

كنت غائبا عن العالم العلوي والسفلي لما اقتربت مني تلك الجوقة.صراصير صغيرة قرعاء تدب فــوق السقف الذي يشاهـدني،يداي كانتا أشبه بحذاءعسكري ثقيل،وأجسادهم الطافحة بلون الملح،تعـد الأرقام التي تبقت من تاريخي.
…..

مازلت ألتهم لساني..
مازال المخدر الطبي يتسكع في باطني وظاهري.
البابا والطبيب يتفحصان بطاقتي الوطنية.
رهط كجزر ومد،قمصان بيضاء تغمغم كطواحين هوائية،أنوف قزمية تزفر:
كانوا كلهم:
البابا ./ الوزير/ الرسام./ حضر طبيب الجنائز المتحركة/ الجزار كانت بطنه كالبالونة الملونة.
وبين الممرات الغامضة أسمع أثوابا تتألم.
آه..يا وطني..
في أقاليمـك ومدنك وكهوفك..يمـوت الناس كالبراغيث فـي قاع الهوامـش،لا أحد يقترب من أنينهم،لاأحد يقرأ كلماتهم المتقطعة،ومع ذلك أسمع زغاريد خلف الحائط..تأتي إلى فضاء عالمي،رنة بعد رنة.
————–

على الموائد:
قبب من اللحم الآدمي الكثيف،
نبيذ يشبه بكاء مسيحيا قديما،
كسكس عربي بخضاره الحمراء السبع،
عظام الموتى الضاحكين،
سـراويل المعارضين المدرجة في خليط الطماطم،
مسدسات بألوان متعددة..
….
سألني البابا:
كيف لم تشرب من نبيذنا المركزي ؟
قلت:
شبعت عيناي..
قهقهوا كقبائل قديمة،استقرت ضحكاتهم رصاصة حامية في حواسي المتجمدة،
وتناثرت أسنانهم كريش هنا وهناك…
….
بــدا لي زعيم الكنيسـة يسحـق العظم والعظم،يطحن مادة المـــخ فوق السندان،تأتي أسراب من النســور المفترسة،تبتهج بوليمتها،تفغر فمها الخرافي نحو الأشلاء،وتعوم في جوف يشبه جوفي..

————

حدثني الوزير مهددا:
-إذا اردت ان تشفى من لعنة الزعيم ،ولعنة الوطن في الوطن..
فطبق نواميس حكومتنا:
– تصـوم عن الكلام المباح أمام هيكلنا.
– تزم شفتيك..
لا تهمس في أذن زوجتك إلا بعد ان تمضي أسفل وثيقتنا الشرعية.
لاتقل أبدا..لا..لا..لا.
تلبس قبعة المريد وتبوس اليد الشريفـة.
تحضر مهرجات الركوع والسجود والولاء للرب الأكبر، قبل صياح الديكة.
….
قلت:
– أوصاني جدي الأول ألا أمجد الحيطان.
————————
تابع البابا يسألني:.
قل لنا، من تكون؟
قيل لنا أنك لا تضحك، ولا تنام..
– أليس لك في الوطن مومسات يرقصن على إيقاع العنبر والدف والموشحات؟
أليس في الضاحية:
خمارت أوسع من المساجد والكنائس.؟
ألا يبيع البقال والعطار حشيشا يحسن الأفكار..في كل زقاق وفي كل إدارة؟
لماذا تشير بأصابعك دوما نحو القمر؟
———————
لم يستســغ قاطع الأعـناق سنفونيتي،صرخ كثورغرناطة.
عشــت لحظات قاسية فعلا .
بلا شك..
سأودع مدينتي البئيسة ككسرة فاكهة يابسة/
سأغادر رواية”تولستوي”التي شجعتني على ركوب الامواج المنكسرة/
سأصافح صديقي”عبد اللطيف اللعبي” بحرقة وأرحل،/
سأحـرق كل أوهامي الجميــلة في فرن الغاز..
أوهام كنت أغــنيها ،وتغني لي وبي،
على طول الاودية القاحلة ،
صدحت..
مجدت:
أدونيـس /عشـتار/ الغـيوان /
شـي غـيفارا/ جاك ابريل /
بوب مارلي./ الشيــخ إمام/
بكل عواطفـي غنيت،
تهت في الهوامش المنسية،كانت تدغدغني خيول نيتشه عندما أغط في نعاسي،كنت أنام مبتسما،وتحت وسادتي وطن آخر..
——————-

عيني متعبة…أطرافي ثقيلة كأكياس الإسمنت،
قال الطبيب:
– فحصنا بالأشعة النووية همسك ولغطـك ،وقميصك..وعرفناك:
– أنــت مخادع.تصلـي في محراب”ابن عـربــي”نهارا،وفي العشـية تشتري القهــوة والسيجارة من دكان ماركس..
فمن انت.
أأنت يعقــوب الفارسي؟
أأنت موسى الثاني ؟
أأنت عيسى بن كليب ؟
أأنت محمــد بن إسحاق بن الزعتر؟
……
قرب الصراصير التي تدب واهنة:
أدوات جــزارة حادة.مساميــر.بنادق.حبال أطــول من الجبال.زيــت مقدسة.شجـرة يابســة ستعلق عليها كتبي وقصتي الأخيرة..
————-
في اليوم الأخير من حفلة القداس التعيسة:
تمثــل لي عمي السابع الذي مات قبل صرخة ولادتي،واقفا كضوء منارة هناك.
عانقني سيدي بحرقة،وهو يتصبب عرقا .
قلت :
– ماذا حدث يا عمي..؟
أجاب:
-أوشكت غربان وغربان أن تقـطف صرختك الجميلة …
سألت:
-أما زلت حيا..أدب وأسعى كقطتنا ؟
رد علي باشا:
– لا تخف..
لقـد أكل شيطان القداس أمعاءهم.

_________
*كاتب مغربي

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *