جماليات الجمهور الممسرح

*محمد العباس

بقدر ما نطرب لأداء أم كلثوم الغنائي، نبتهج بهتافات عاشق أغانيها الحاج سعيد الطحان (عظمة على عظمة يا ست)، وننجذب بقوة أكبر لصورة المحب الواله التي يتلبّسها بمجرد سماع صوت الست المدّوخة لحواسه، تماماً كما نأنس بانفعالات وصيحات المعجبين بتلاوة الشيخ محمود الشحات، ضمن حالة من حالات المفاعلة، التي تعتمدها فنون الأداء المسرحي، لتعزيز فكرة التواصل الدرامي، حيث يتمسرح الفضاء العام من خلال التشارك الضمني ما بين المؤدي والمتلقي، وهو مشهد مألوف يمكن ملاحظته في استثارات صباح فخري للجمهور، وكذلك في الأغنية البحرية الخليجية التي يتصاعد فيها صياح المتلقين (عاشوا) إلى جانب منظومة من الهمهمات التي تشكل وقوداً انفعالياً للفنان وللمستمعين، الذين يتحولون إلى كورال تصعيدي للغناء، وكل ذلك مشروط بوجود المؤدي الذين يتقن توليد ما يُعرف مسرحياً بمهارات السرور.
هناك ميثاق ضمني ما بين المطرب والجمهور، يعتمد في المقام الأول على دراية الجمهور بالقدرات التطريبية الاستثنائية للمطرب، مقابل إتقان المطرب لكثافة لحظة الجمهور الشعورية التي يمكن اختراقها، أي تبادل حالة التعاطف بمقتضى خبرات غنائية متراكمة، وهي عملية سيكولوجية صرفة عنوانها العلمي (التوحُّد)، ويتم بموجبها استدماج الجمهور عقلياً ووجدانياً وأدائياً داخل المدار الذي اختلقه الفنان، حيث يمكن التمثيل هنا بأغنية (سوزانا) لكريس دي بورغ، التي يُشرك الجمهور في أدق تفاصيلها لتتحول إلى حالة طافحة بديمقراطية الفرح.
هذا هو ما يفسر اشتداد الحماس وتعالي الصيحات بمجرد انطلاق الشارة الموسيقية لأي أغنية معبأة في ذاكرة الجمهور، كما يحدث مثلاً مع نقرات القانون الأولى لأغنية «أنت عمري»، أو عند التقاء ذائقة الجمهور بمقطع مختزن بوجدانهم، كما في أغنية «على بابي واقف قمرين» التي يشحن فيها ملحم بركات جمهوره بفرح هستيري، خصوصاً عندما يوجه الميكرفون باتجاههم ليستدخل أصواتهم في سياق الأغنية، بموجب ميثاق ذوقي له تاريخه، يعتمد على معرفة المتلقين باللحن الخاص للأغنية، وعلى قدرة المطرب في الآن نفسه على تخليق أفق توقع هيجاني لحظة نطقه بمطلع الأغنية، أو عند تلوينه لمقطع ببحة صوتية هي بمثابة العقد مع جمهوره، أو حتى من خلال المباغتة المتوقعة التي يجترحها خالد الملا بالخروج على النص.
وكما أن خصائص إطراب الجمهور لا تتأتى إلا لفنان يحظى بكاريزما استثنائية أشبه ما تكون بالموهبة الربانية، كتلك التي يتمتع بها بوب مارلي مثلاً، كذلك لا يمكن لأي جمهور أن يقيم ذلك الجسر من التواصل الفرائحي مع الفنان، فالمطرب يحتاج إلى سمة خاصة تحقق له فرط الإعجاب من قبل الجمهور، والجمهور بدوره يحتاج إلى مهارات حسّية وتواصلية خارج إطار وأفق الاستقبال العادي، وذلك هو ما يؤهلهم لأن يكونوا جزءاً لا يتجزأ من النص الغنائي، بكل عناصره المفرداتية والأدائية واللحنية والغنائية والإيقاعية، حيث يتناوب هو والجمهور على توليد نوبات الإبهاج، إذ لا يتجرأ المعجب على مقاطعة المطرب بالهتاف أثناء الغناء، بل ينتظر لحظة انتهائية من أداء مقطع ما ليطلق صيحات الإعجاب، احتراماً للفنان وكذلك لإسماع صوته للجمهور، وأحياناً، كما في الأغنية البحرية الخليجية، يتدخل الجمهور لتصخيب صوت المؤدي، وإشعال المسرح، خصوصاً عندما يكون الغناء في حفلة مسرحية مفتوحة على طريقة الجلسات.
كذلك التصفيق الإيقاعي لا يقدم عليه الجمهور في كل مفاصل الأغنية، لأنه بمثابة آلة موسيقية لها ميقاتها في الحضور داخل السياق الغنائي، بما هو أداء فني على درجة من الحرفية والحساسية الشعورية، ويعتمد بالدرجة الأولى على المهارات الموسيقية للمصفقين، كما يختزن قدراتهم على توليد العدوى الانفعالية، التي تجعل من الحاضرين أو المشاهدين من خلال الشاشات يندمجون لاشعورياً داخل الحالة المتخلّقة بحماس الجمهور، وذلك وفق قاعدة التوحد أيضاً، حيث تتوسع دائرة العدوى الشعورية لتلامس كل من يتقاطع مع الأغنية، ويتحول كل ذلك إلى مشهد ممسرح له مواصفات الكرنفال الشعبي، حيث تختفي الضوابط البروتوكولية، وتتبدد الاحترازات الفنية الصارمة، لصالح البهجة المنفلتة من عقالها.
الاستثارة الجماعية إذن ليست من مهمات ولا من عنديات المطرب فقط، بل هي نتاج تواطؤ ضمني بين المطرب وشريحة من محبيه، الذين يمتلكون مهارات التصعيد الدرامي، ولهم جاذبية غير اعتيادية، والأهم أن هذه الفئة تعي الفرق الكبير بين الوجود الحقيقي للذات داخل الطقس الأدائي للأغنية، وبين تمثيل ذلك الوجود، من خلال انفعالات زائفة، حيث يبدو المفتون بالمطرب وكأنه داخل غيبوبة ينقاد فيها لما يمليه المطرب على حواسه، وهذا هو ما يفسر الصورة التي يبدو عليها من الانفلات وعدم الاتزان، فهو محمول على عاطفة مشبوبة، من خلال تواصله اللامرئي واللاملموس مع ضربات داخلية، أشبه ما تكون بالتواصل اللاسلكي مع مشاعر المطرب وفحوى الأغنية وإيقاعاتها، وكأن قد خضع لفعل إيقاعي تحت شعوري.
هذا الصنف من الجمهور لا يقر المحاكاة الباردة للأغنية، لأنه مشبوب العاطفة، ولذلك يحاكي الفعل الأدائي بصيحات تنم عن الإعجاب والانسجام، ويتجاوز ذلك أحياناً إلى التعبير عن انفعاله بإشارات لالفظية كالرقص واستظهار ملامح الحزن والفرح والتأثر على الوجه، المعبّر عنها بالتنهيدات والتأوهات، فهو كائن ممسرح في كل حضوراته، ولديه من الذخيرة الدرامية ومن الحرقة الشعورية ما يكفي لتأكيد وجوده داخل ذلك السياق الانفعالي المتواطأ عليه مع المطرب، حيث يبدو وكأنه يتألم بالفعل، كإنسان جريح، أو كمن يتخلى عن لغته ليثبت اندماجه بطقس الأغنية، من خلال عبارات غير مفهومة أشبه ما تكون بلثغات وتمتمات الإنسان البدائي، حيث يمكن قراءة كل تلك التمثيلات التعبيرية من خلال تأمل لغة جسده، التي يحاول عبرها إثبات رقتّه الشعورية.
هذا التآزر الشعوري لا يتأتى إلا في المسارح المكشوفة، حيث عفوية الأداء والتلقي المباشر للأغنية، وعند فحص أي أغنية مؤداة في حفلة مباشرة مع الجمهور وتأملها كاسطوانة مغناة في أستوديو سيتبين الفرق، وذلك بسبب حضور أو غياب الجمهور، ولذلك لجأت الفرق الغنائية ومؤسسات الإنتاج إلى استحضار ذلك الطقس الجاذب حتى في الأستوديو، كما يبدو ذلك على درجة من الوضوح والإبهاج في أغنية «لولا المحبة» لنوال الكويتية المحقونة بهمهات كورالية معدّة سلفاً كجزء من المفاعلة، وكذلك في الأغنية العراقية الحديثة المزدحمة بأصوات بشرية تطلق الآهات والتمتمات لتعزز سياق الأغنية، وأيضاً في أغاني فرقة ميامي التي تتخللها كلمات تصعيدية مثل، «خوش، هلا، إلعب، طير» وهكذا.
يميل الجمهور عادة إلى الأغاني التي توحي بالدوخة، أو تلك التي تختزن طاقة هستيرية، لأنها تهب المطرب والجمهور قوة سحرية، وهذا هو ما يُلاحظ في الغناء الصوفي الذي تنعدم فيه الحواجز ما بين المؤدي الرئيسي والكورال والجمهور، حيث تتحول الوصلة الغنائية إلى طقس احتفالي قوامه الغناء الجماعي، واستنفار كافة الحواس والأعضاء الجسدية، التي تصل بالجميع إلى حد الغشية. كما يتشكل ذلك الطقس أيضاً في شعائرية اللطميات، التي تعتمد على صيحات انفعالية حنونة تتجاوز الترنيم إلى ضرب الصدر بانتظام، فيما يبدو أداءً تنفيسياً، وهو الأمر الذي يفسر حالة الاسترخاء التدريجي، بعد نوبات الإنشاد الديني الجماعي أو حفلات الهارد روك الصاخبة، التي تتولد منها إشارات ذكورية يقدح أول علاماتها المطرب على المسرح،
لا يختلف كثيراً الجمهور الذي يحضر جلسات الذكر عن جمهور الحفلات الغنائية، فعبارات الرضا والاستحسان والإعجاب الجماهيري التي نسمعها ما بين آية وآية في تلاوة الشيخ عبدالباسط عبدالصمد، لها المنزع النفسي والفني والموضوعي نفسه للهتاف والتصفيق والصفير، الذي يملأ الفراغ ما بين كوبليه وآخر لأم كلثوم، بسبب قدرتهما على استدماج الجمهور، إلى الدرجة التي لم نعد نتخيل سماع أي منهما من دون تلك الهسهسة الورائية المصاحبة، ومن دون ذلك الهذيان الكلامي العفوي الذي يرفع مستوى التواصل الدرامي، لأن ذلك التداخل هو سر الانسجام البنيوي ما بين المؤدي وجمهوره الممسرح.
____________

*القدس العربي

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *