قصص عن التحولات

*أمير تاج السر

خلال الفترة الطويلة التي قضيتها منغمسا في مسألة الكتابة الإبداعية، إما شاعرا للأغنيات أو شاعرا عاديا، لما يمكن أن يسمى شعر التفعيلة، أو كاتبا للروايات في النهاية، صادفني كثير من القصص التي يمكن أن تشكل محاور عدة للكتابة، ويمكن مناقشتها بكل جدية. محاور عن الكتب التي تستحق القراءة فعلا، والكتب التي تستحق أن يحتفظ بها في رف حيوي في مكتبة، والتي لا ينبغى أن تلقى عليها أي نظرة.
كانت القراءة عملا سلسا في زمن ما، والقارئ الفذ يظل قارئا فذا حتى النهاية، بدون أي فكرة، أو حلم أو طموح أن يصبح هو كاتبا أو شاعرا أو أي شيء له علاقة بالإبداع، وأذكر أن والدي ومعظم أبناء جيله، كانوا قراء شغوفين، يطالعون الكتب بجميع أشكالها، ويحفظون الشعر القومي، ويرددونه بكثير من المحبة، لكن لا أذكر أن أحدا منهم تمدد إلى أكثر من قارئ، والذين كانوا مبدعين منهم، كانوا في الأصل مبدعين منذ الصغر، وزادتهم قراءاتهم اشتعالا، وكان ثمة عسكري أذكره جيدا، كان يكتب شعرا جميلا، ويقرأه لأصدقائه من أوراق ملساء مرتبة بعناية، وكنت أتلصص لأحظى بشيء من المتعة، وآخر ربما كان يعمل قاضيا أو موظفا مدنيا، لا أذكر بالتحديد، كان يقرأ قصة من تأليفه،عن الحمى، وكيف أنها أمسكت بالحبيبة، وأرهقتها زمنا، وأرهقت الراوي الذي كان عاشقا هكذا.
في الواقع وفي هذا الزمن، تبدو الأمور وقد لحقها كثير من التغير. لم يعد المبدع هو ذلك القديم الذي كان منذ تعلمه القراءة والكتابة، وهو يحاول أن يقول شيئا. ذلك الذي يحس بارتباك ما في أوقات كثيرة، ورغبة في عدم إكمال نومه، ليدون حلما أحس به مشروع كتابة جيدا، والذي قد لا ينام ليلا أصلا، ولا ينام بعد عودته من المدرسة، من دون أن يكتب شيئا في كراسة هو يخصصها لهذه الأغراض.
كانت كرة القدم من المغريات المسيطرة على أفق التلاميذ، وما زالت سيطرتها ممتدة إلى الآن، وصاحب النكبة الإبداعية، في الغالب، لا يلعب الكرة، ولا يشجع البرازيل أو الأرجنتين، وربما لم يسمع بسقراط وبلاتيني وبيليه، إلا بعد أن شاخوا، في حين أنه سمع بوليم شكسبير وألكسندر دوماس، وقرأ لأجاثا كريستي، وهتشكوك، مبكرا جدا، قصص رعب كانت تشحنه أكثر مما تخيفه.
أردت القول إن الإبداع بشتى ألوانه وضروبه، كان يبدو في الماضي، عملا من اختصاص الجينات، الجينات نفسها التي تحدد لون الجلد: أسمر، أبيض، ولون العيون: سوداء، عسلية، خضراء، وطريقة المشي والكلام، والصوت إن كان جميلا أم أجش وأخرق، وحتى السلوك إن كان سلوك صفوة، أم سلوك مشردين. الجينات تمنح الحكايات، وهي التي تجعل عبد الجليل مثلا، يقفز من عنوان صغير لحادث عادي، في صحيفة يومية مغمورة، إلى آلاف الصفحات في رواية تكتب بعد ذلك، والقصيدة التي يتحول فيها طفل صغير، غرق في البحر، أو تاه في الصحراء، أو تعرض لقصف جوي وتمزق، إلى أسطورة قد تبقى حية إلى الأبد. إنها ببساطة شديدة، هي الميكانيزم، والقوة المحرضة. وكان الذين يكتبون قديما بلا جينات محرضة، وبناء على الثقافة والعلم وحده، مثل علماء اللغة الذين يكتبون شعرا، وعلماء الأدب واللسانيات، الذين يكتبون أعمالا سردية، يبدو إنتاجهم واضحا، وسط إنتاج الجينات، مفتعلا، وجافا وبلا أي روح، وأعرف ديوان شعر لأحد المتمكنين من الأدب وقواعده ومحسناته البلاغية، لا يشد أي قارئ للشعر ولا يطربه، ولا يمكن أن تقول بأنه ليس شعرا لأنه شعر، فقط شعر خامل، نائم، مغطى بالخشونة كلها.
الذي يحدث أن الزمن تغير جدا، والجينات المجنونة المحرضة، ما عادت سيدة لأي موقف، حتى المواقف البسيطة المهزوزة، وأصبحت الحكايات، من الممكن أن تنسج كعمل أول، في أي عمر حتى لو كان عمر الثمانين، أو التسعين، المهم أن يكون صاحب العمل مقتنعا به، ويحس بالسعادة الغامرة حين يذكر أمامه، أو يذكر بواسطته أمام الناس، ولي أصدقاء لم يكونوا متذوقين للفن، إلى أن تقاعدوا عن وظائفهم الرسمية بعد سن الستين، ليرسموا وأصبحوا بعد زمن قليل، رسامين جيدين بالفعل، كأن الوظائف الجامدة، التي تركد بالموظف في قاع الشؤون المعيشية، تعطل النشوة المقبلة، وتؤجلها زمانا، والتقيت بأشخاص أيضا بدأوا كتابة الرواية متأخرا جدا ولم يكونوا هواة، لأي حكي، لا استمعوا إليه ولا أسمعوه لأحد، وفي ورش للكتابة الإبداعية، أشرف عليها من حين لآخر، باعتبار أن الكتابة دخلت مرحلة أن يتم تعلمها، جاء متقاعدون بقصصهم المؤجلة طوال سنوات خدمتهم، وطرحوها لأول مرة وكانت بعد تنقيتها من العيوب، نصوصا ممتعة وجيدة.
شيء آخر، هو التحول الكبير للقارئ المواظب الشغوف الذي ظل يراجع الكتب بانتظام ويكتب مراجعاته التي لا تخلو من انتقاد للكتاب، تحول هو نفسه إلى كاتب في النهاية، وهذا لا بد دفعه مخزونه القرائي، إلى اعتقاد ظل يترسخ يوما بعد يوم داخله، إلى أنه يستطيع الكتابة أفضل من الذين ظل يقرأ لهم سنوات، الإحساس نفسه الذي يداهم محضر العمليات، في مستشفى يشاهد إجراء عملية الزائدة الدودية واستئصال الطحال والمصران الغليظ باستمرار، ولسنوات طويلة، بأنه يستطيع أن يجري تلك العمليات أفضل من الطبيب.
الفرق هنا أن القارئ الذي يعتقد في قدرته، يستطيع أن يكتب لأن الكتابة ليست عملا خطرا حتى لو لم يجدها، بعكس محضر العمليات الذي لن يحصل على فرصة لتحقيق حلمه في جسد إنسان.
لقد قرأت أعمالا لقراء، تحولوا لكتاب وكان بعضها ممتازا للغاية، وبعضها عاديا جدا، وأيضا أقل كثيرا من العادي، ومن بين الأقل كثيرا، عمل لقارئ كان يكتب في كل عمل يقرأه: أقل كثيرا من العادي.
__________

القدس العربي

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *