خاص- ثقافات
*د. موسى برهومة
هزيمة “داعش” عسكرياً، لا تعني دحره فكرياً وثقافياً. فالتنظيم أسّس، والأصحّ أنه استنهض وبعث ما يمكن اعتباره اتجاهاً فكرياً يقوم على التزمّت الديني والاجتماعي، وليّ عنق النصوص التأسيسية الأولى، وإضفاء طابع شرعي على العنف والوحشية وكراهية الحياة. إنه الحنين الغامض لإعادة الإنسان إلى الكهف!
“الداعشية” أو “الدعشنة” صارت نمطاً لتفكير قطاع عريض من العرب والمسلمين الذين يتبنون أفكار التنظيم الإرهابي، إما يأساً وخوفاً من المشاريع الأيديولوجية الأخرى، أو رغبة في الخلاص السريع، أو انتقاماً من الذات والمجتمع بعد هزيمتيهما معاً.
وإن شئنا التحقيب الزماني، فيصحّ أن نطلق على هذه المرحلة “الحقبة الداعشية”، لأنها اختزلت، في غضونها الكثيفة المركّبة، مراحلَ التاريخ العربي الإسلامي على وجه الخصوص، كما نهلت من الشرّ الإنساني، وبدائية الكائن في العصور الآفلة منذ فجر الخلق والحياة.
“الداعشية” في السيناريوهات المستقبلية ستبقى.. ربما تنمو أو تتقهر، لكنها لن تنمحي إلا عبر جهد تنويري مُضنٍ وطويل، يخلّص النصوص التأسيسية الأولى من هيمنة التأويلات الإسقاطية التي تنزع عن النص سياقيّته، وتفرّغه من الرحمة والخيريّة، فيغدو النصّ، وهو ينأى عن مقاصديته النبيلة، مؤيداً للتوحّش وقتل الأبرياء وإحراقهم، وتفخيخ الدنيا التي يُراد للنصّ أن يصوّرها على أنها “نار المؤمن وجنة الكافر”!
دعونا نعترف أنه من معين الترسانة الدينيّة ينهل “داعش” وقوى الظلام والتكفير. إنهم لا يقاتلون وحسب بالرشّاشات والبنادق الأوتوماتيكيّة والأحزمة الناسفة، بل وأيضاً بالنّصوص الدينيّة التي لها فعلٌ مدوّ لا يُدانيه فعل آخر. إنها الأيديولوجيا المدجّجة بالذرائع، والموّارة بالوعود، والمضاءة بقناديل الجنّة التي تلتمع من بعيد في عيون أولئك الموعودين بالحُور العِين، وأنهار الخمر والعسل، وما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر ببال.
إنّها ترسانة جعلها “إسلام داعش” منصّة لإطلاق نيران الكراهية في وجه الحياة والرفاهية والرقيّ والتمدّن والتاريخ والعراقة.. منصّة لإزهاق روح الجمال والتنوير والديمقراطية وقتل الفرح، هكذا رأينا كيف أختيرت بعناية الأماكن في “غزوة باريس” في منتصف نوفمبر 2015: ستاد رياضي، مطعم، مقهى، مسرح للموسيقى، والهدف هو الانقضاض على نمط العيش الأوروبيّ، والرفاه الذي وصله “التفكير الصليبي”!
ثمّ أليس هذا الغرب “الصليبي” الذي نتفاخر بتدميره، ويتوعّد “داعش” المنتسبين إليه بأنّ “رائحة الموت لن تفارق أنوفهم” هو الذي أنتج لنا أجمل ما في حياتنا من رفاهية ورقيّ، وسهّل الحياة، وجعلها أكثر احتمالاً، وراحت مختبراته تهزم المستحيل، وتصنع العقاقير للأمراض، وتخفّف أوجاع الروح الإنسانية بالفنون والسينما والجمال. هل تفقّد أحد أولئك الكارهين نفسه، هل نظر إلى الساعة السويسرية في معصمه، أو إلى العطر الفرنسي تحت أرنبة أذنه، أو الموبايل الأميركي أو الكمبيوتر أو “اللابتوب” الذي يَبثّ عبرَه أمواج الكراهية والتحريض على العنف. هل يتذكّر أنّ سيارته التي يتفاخر بقوتها وأناقتها صُنعت في ألمانيا، وحليب أطفاله من هولندا، وحقيبة يد ابنته، أو حذاء زوجته أو صديقته من إيطاليا..؟
“داعش” يعمل على اعتبار الإسلام مشروعاً استئصالياً، وديناً يكره الحياة، بل ويعمل، بكل إصرار، على منع الآخرين من حبّها والاستمتاع بملذاتها. وهذا ما ذكّرنا به تفجير اسطنبول في الساعات الأولى لانبلاج العام الحالي والذي قضى فيه أبرياء لا ذنب لهم سوى أنهم يعشقون الحياة.
وقد كان هذا الخطاب شائعاً في أدبيّات الخطاب السلفي والحركات الدينيّة، لكنّه الآن ينفّذ بحد الموت مسنوداً بنصّ إلهيّ يحثّ على “إقامة شرع الله في الأرض”، حيث “إنّ الدين عند الله الإسلام” كما ورد في سورة آل عمران، وبالتالي، تؤكد السورة نفسها “ومن يبتغِ غيرَ الإسلام ديناً فلن يقبل منه، وهو في الآخرة من الخاسرين”.
ومثلُ هذا الخطاب الدينيّ المقدّس، الذي يُعد بمثابة الوقود الأيديولوجي لداعش، متفشّ في عروق الثقافة الدينية العربية الإسلامية في أماكن وبلدان لا حصر لها. إنه خطاب عابر للزمان والمكان: “واقتلوهم حيث ثقفتموهم، وأخرجوهم من حيث أخرجوكم والفتنة أشد من القتل”. ثم يؤكد في الآية التي تليها من سورة البقرة: “وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله”.
وترى ذلك الوقود الداعشي متمثلاً في آية السيف في سورة التوبة: ” فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم، وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد، فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخّلوا سبيلهم إنّ الله غفور رحيم”. أو كما جاء في سورة المائدة: “إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض، ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم”. أو بحسب السورة نفسها: “قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ولا يحرّمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون”.
وإن يممّت وجهك نحو الجامع في خطبة الجمعة ستجد ملتحياً يُرغي ويزبد وهو يقذف حمم أدعيته، متبوعة بـ”آمين” مديدة، وهنا أقتبس من نص خطبة: “اللهم عليك بالصليبيين المجرمين المعتدين الحاقدين..اللهم أحصهم عدداً واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً ..اللهم إنّ الصليبيين قد قَتلوا وأفسدوا وطغوا وبغوا وتجبّروا ..اللهم اجعلهم حصيداً خامدين، وعبرة للمعتبرين، يا حيّ يا قيّوم.. اللهم عليك بمن والاهم، وبمن ساعدهم وناصرهم وظاهرهم.. اللهم مكّن المجاهدين من رقابهم.. اللهم انصر إخواننا المجاهدين في كل مكان”.
وترى هذا الخطاب الداعشيّ متفشياً في المنهاج المدرسي. فما تزال الفتاة الصغيرة في الصف الأول الابتدائي تسأل أمها: لماذا يقطعون يد السارق، ولماذا لا يحبسونه عقاباً على جريمته؟ في حين يسأل طالب في الصف الرابع أباه: لماذا لا يدخل الجنة سوى المسلمين؟ أما الطفلة ذات التسع سنوات فمكثت ليالي وهي “تهلوس” لأنّ مدرّسة التربية الإسلامية أخبرتها أنّها ستُشوى في نار جهنم، لأنها لا ترتدي الحجاب!
وعن عذاب القبر الذي يُتحف به المعلّمون طلبتهم، فحدّث ولا حرج. ولعل بعضكم يعلم عن الصورة المعلّقة على جدار إحدى المدارس الابتدائية، والمعنونة بـ”عقوبة تارك الصلاة”، وكانت لطفلتين صغيرتين ميتتيْن، الأولى (محافظة على الصلاة) مستلقية بكل وداعة على ورق أخضر ويشعّ منها النّور، والثانية (تاركة الصلاة) متفحّمة مشوّهة، ملطخة بالدماء، ملتفة أفعى عليها، ومحاطة بحجارة سوداء من سجّيل.
لقد خاب ظن فوكوياما وهو يدلّل على “نهاية للتاريخ”، بالقضاء على الأفكار الأيديولوجيّة، وتخلُّص التاريخ الإنسانيّ من إرثها الثقيل، في أعقاب انهيار الاتحاد السوفياتيّ والمنظومة الاشتراكيّة، لكنّ نار الأيديولوجيا لم تخمد أبداً، إذ لم يتسنّ هزيمة الأيديولوجيا الشيوعيّة إلا من خلال أيديولوجيا إسلاميّة قادها مقاتلو الجهاد السلفي الذين دعمتهم الولايات المتحدة والغرب، والعرب أيضاً، في أفغانستان.
المستقبلُ، إن شئنا استقراء سيناريوهاته، مفخّخ بالأيديولوجيا التي تتغذّى على النصوص الدينيّة وترفدها تأويليّاً في الوقت ذاته.
ولعل ما يذهب إليه المتخصصون الضالعون في شؤون الاستراتيجيا والعسكرتاريا من ضرورة قصم ظهر “الإرهاب الديني” بالطائرات والصواريخ والترسانات الحديثة المتطورة والجهود الاستخباراتية، لا يُجدي نفعاً على المدى الطويل، إذ ثمة ما يستدعي اللجوء إلى أدوات أخرى أكثر جدوى لجهة تعميق قيم فكرية في تربة الواقع العربي الإسلامي تقوم على العلم والعقلانية وتوطين مبادىء التفكير النقدي في مناهج التربية التأسيسية وفي المدارس والمعاهد والجامعات، وفي وسائل الإعلام، وغيرها من حقول التواصل الاجتماعي والإنساني.
ولنزع الفتيل المدمّر لتلك الأيديولوجيا، يتعيّن تفكيك النصّ أولاً، وترشيد المصفوفة الفقهية الثاوية فيه لمصلحة إنتاج فهم جديد للدين يُراعي مقاصديّة الشريعة، كما ظهّرها الإمام الشاطبيّ، وينتصر للحياة ومعطياتها، ويقدّس الإنسان الذي استخلف من أجل إعمار الأرض، وتأثيثها بالعدل والخير والسّلام.
لقد أضحى الفهم القسري المتعسّف للدين عبئاً على الدين نفسه. لذا صار من الضروري أن يدرك المرء أهمية أن ينبثق سجال جديد متعافٍ من الأوهام والأنماط الجاهزة والقوالب البلاستيكية باتجاه “الثورة الدينية” التي تنبثق من فهم خلّاق للدين، بعدما نظر الناس إليه منذ القدم باعتباره خلاصاً وحلاً، فإذا هو مشكلة ومأزق!
والمقصود بالتأويل أو “الثورة الدينية” هو وضع النصوص التأسيسية في أفق التحولات الحضارية التي تحافظ على حقوق الإنسان، ولا تتصادم مع ما حققته البشرية من مكاسب مدنيّة يتعين على الدين، أيّ دين، أن يصونها ويعزّزها.
إن “داعش” الإرهابي يستخدم ما تقادم من النصوص الدينية، ويعمل على إخراجها من حيّزها الزماني، وإسقاطها بشكل حرفي على واقع تبدّل كثيراً، وما عاد منطق النصوص ذاتها يستجيب لعملية الإسقاط. فما كان ممكناً قبل ألف عام لم يعد كذلك الآن، فللتقادم فعله الحاسم في هذا الشأن، وليس من الحكمة أن تظل عربة التاريخ تسير بالمحرك ذاته الذي رُكّب لها أول مرة!
وفي سياق متصل، علينا الإقرار بأنّ التزمت يكافحه الانفتاح، وتقاومه الفنون، وتحاصره المهرجانات التي يتعانق فيها الغناء مع الموسيقى والرقص، كما يخنق التزمتَ تعميقُ تدريس الفلسفة وتعميمها، وإحياء علوم المنطق والتفكير النقدي.
والحقّ الحقّ أقول لكم، إن ما يُخيفني ليس تنظيم داعش وأخواته من عصابات الإرهاب، بل من أولئك الإرهابيين المضمَرين الذين يعيشون بيننا ويتنفّسون هواءنا، وربما يشاطروننا جلساتنا وندواتنا وحَراكنا اليومي. فالقبول الذي يلقاه “داعش” من هؤلاء الدهماء الذين لا يُستهان بتأثيرهم أو بكثرتهم التي تتناسل كالفطر البريّ، يتمثل في الرضى العاطفيّ، والتقبّل الوجداني، وربما العقلي أيضاً لما يقترفه هذا التنظيم من توحش. وهؤلاء الدهماء تجد منهم المتعلم المتخرج من جامعات مرموقة، وتجد أيضاً غير المتعلّم، لكنّ ما يجمع الفريقين أنّ لديهما طاقة جبّارة على التبرير، بما يحرف الأشياء عن قواعدها، ويمنحها أسماء غير أسمائها الحقيقية.
مع هؤلاء تبدو مهمة محاربة الفكر الداعشي محفوفة ربما بالعنت الشديد، إذ يتعيّن استئصال الذهنية التي تتماهى مع الشر وتتواطأ معه، وهذا أمر له جذوره السحيقة في قيعان اللاوعي الجماعي، ما يعني ضرورة تنقيح الذاكرة من رواسب العنف الكثيفة التي تنظر إلى الحياة باعتبارها ممراً نحو مستقرّ نهائيّ وخلّبيّ تغمره المحفّزات الحسيّة التي جعلها المخيال الديني ملاذاً سَرمدياً يستحق أن يرتكب “البشر” من أجل الانضمام إليه، الفظاعات والشرور.
ندعو، ونحن نعاين سيناريوهات المستقبل، إلى تأويل عصري للنصوص الدينية، مع أن ثمة من يعتقد (د. أحمد برقاوي) بأنّ الحوار اللاهوتي مع الإسلاموية حوار عقيم، فالاختلاف حول قتل المرتد والأسير انطلاقاً من قول اللاهوت، بقاءٌ في حقل اللاهوت، وليس انتقالاً إلى حقل الحق والحرية.
وهناك من يقارب المسألة من زاوية روحانية مشبعة بالتصوف (د. عبد الجبار الرفاعي)، إذ يعتقد أنّ المنبع العميق الذي ينهل منه الاستبداد في تراثنا، هو الرؤية الكونية في الإلهيات التقليدية؛ المبنية على مفاهيم العبودية، وترسيخها للتصوّر الرأسي للعالم، الذي يؤسّس لشبكة من مقولات التركيع والخضوع، وتكريس التسلط في المجتمع، إذ تكون العلاقات في المجتمع علاقات عمودية، وليست أفقية، بمعنى أنّ تصور العلاقة بين الله والإنسان دائماً يتخذ نمطاً عمودياً، يكون فيه الإنسان خانعاً ذليلاً، فيما يبدو الإله قهّاراً متكبراً؛ يبطش ويعذّب وينتقم.
وحين تكون صورة الله، كما تتجلى في اللاهوت التقليدي، هي صورة السيد المتعالي المخيف المرعب، المتمرّس في البطش والتنكيل والعقاب والعذاب، فإنّ ذلك يدفع الخوف أن يكون أرضية خصبة لنشأة وتفشي الاستبداد، ويجد ذلك تعبيره الاجتماعي في: الخوف من الحرية، الخوف من الفردية، الخوف من التفكير النقدي، الخوف من التفكير العقلاني، الخوف من الحداثة، الخوف من الاختلاف، الخوف من الخطأ، ذلك أنّ الاستبداد يبحث دائماً عن الإجماع الشعبي، ويخشى التمايزات والمغايرة.
________________
*أستاذ الإعلام – الجامعة الأمريكية بدبي
– نصّ ورقتي النقاشيّة في ندوة “مؤمنون بلا حدود” حول “سيناريوهات ما بعد داعش” التي انعقدت في عمّان في 4 آذار (مارس) 2017 بمشاركة الباحثيْن حسن أبو هنية، وعلي الرجّال، وإدارة د. سعود الشرفات.