ما بين الأنطولوجية والنص: جاك دريدا وتفكيك الخطاب اللَّاهوتي

*نجيب جورج عوض

رؤية دريدا التفكيكيَّة عن اللـغة والمعنى:

يبدأ طرح دريدا النقدي للأنطولوجيَّة بعملية تـفكيك جادَّة لتاريخ تطوُّر الميتافيزيقيا في الغرب. هدف دريدا الأساسي من تـفكيك تاريخ الميتافيزيقيا هو تحدي مفهوم “الكلانيَّة” (totality) الذي يفترض وجود مبادئ قاعديَّة كلانيَّة يمكن وصفها بالحقائق المرجعيَّة الكونيَّة التي تقاس على أساسها أيَّة معرفة عقليَّة أو أيّ اختبار وجودي. بشكل أكثر تحديداً، يريد دريدا أن يقوّض أسس التوتاليتاريَّة المعرفيَّة الناتجة عن افتراض وجود مصدر أساسي مرجعي تـنبع منه كلُّ الحقائـق (arche). بهذا التـقويض يرفض دريدا التمسُّك الحداثوي بفكرة “الكلانيَّة” التي تختصر برأيه كلَّ الظواهر في معادلة أبستميَّة مرجعيَّة واحدة ووحيدة. كما أنَّه برفضه لفكرة المصدر الأولي (arche) ينفي دريدا وجود كائن مرجعي واحد يتحكَّم بالمعنى أو يخلقه ويعطيه للآخرين. بدلاَ عن “الكلانيَّة” و”المصدر الأولي”، يُقدّم دريدا فكرة جديدة تتمثل في مصطلح “الاختلاف” (differance). يدلُّ هذا المصطلح بالنسبة إلى دريدا على معنيين: يدلُّ أوَّلاً على اختلاف في المكان (differe) ويدلُّ ثـانية على تأجيل زمني (defer)، أي على نوع من التعبير عن حالة تأجيل حضور شيء ما زمنياً. يبغي دريدا من خلال هذين المعنيين لمصطلح الاختلاف أن يشير إلى عامل اللغة الأساسي في فهم الحقيقة وتـفسيرها، والذي يهمله تاريخ الميتافيزيقيَّة الغربيَّة تماماً حتى هذه اللحظة. بهذه الطريقة يفكّك دريدا تاريخ الفلسفة الغربيَّة بأكمله، انطلاقـاً من قـناعة بأنَّه لا يمكن حصر الحقيقة في قوالب معرفيَّة فوقيَّة أو ماورائيَّة المصدر، كما ادَّعت الفلسفة، فأيّ حقيقة ذات معنى تتجسَّد “في”، ولكن أيضاً في “ما وراء” علامات اللغة التي نستخدمها في الحاضر. المعنى مفتوح دوماً على اللَّانهاية، لأنَّه لا يملك أصلاً مصدراً مرجعياً يخلقه أبدياً (arche)، وليس للمعنى أيّ كينونة أو جوهر ذاتي (ousia) كي يـُخلَق منه، كما أنَّه لا يتَّجه نحو أيَّة نهاية جامدة محدَّدة (parousioa). لا يمكن اختـزال المعنى أو تحديده بأيّ إطارٍ محدود البنيان يمكن أن نستخلصه مباشرةً من أيّ بناءٍ لغوي نقرّره مسبقاً.

من هنا، يخلص دريدا إلى أنَّ الطبيعة الحقيقيَّة لـ”حضور” و”لتأجيل حضور” المعنى لا يمكن إدراكها إلا من خلال التماس تـفكيك وتـقويض أيّ شكل كلياني للغة. فصفات الحضور وتأجيل الحضور لا تتحقَّق إلا من خلال قـبول حقيقة أنَّ ما تكـشفه وتخفيه اللغة ما هو إلا اللغة نفسها وليس أيّ مصدر خارجي. لا يعني “الإخفاء” تـنحية شيء ما جانباً أو حجبه عن الأنظار، ولا تعني نفياً للانفتاح على الآتي. “الإخفاء” هنا يعني أنَّ قـوَّة اللغة التوضيحيَّة هي عينها قـوَّة اللغة الإخفائيّة وقـدرتها على تأجيل المعنى إلى المستقبل (difference).[1]

لا يوجد إذاً طريقة كتابة محدَّدة مسبقاً وفقاً لـقاعدة ثـابتة لاستقصاء المعنى. الكتابة نوع من “الخلق” وليست مجرَّد تعبير عن معنى ما. ليست الكتابة، بالنسبة إلى دريدا، “حالـة تكيـُّف اختباريَّة للكاتب” الذي يرمز هنا إلى المصدر أو الخالق المسيطر، وإنَّما هي سيرورة تحفيز للعديد من المعاني المتساوية في الأهميَّة. هذا المجموع من المعاني في سيرورة الخطاب اللغوي هو علامة على قـوَّة القول الصرفة التي تجعل من عمل الله الكلاسيكي (الذي يمثـل هنا فكرة المصدر وفكرة الجوهر وفكرة المآل الأخير) يبدو هزيلاً جداً.[2] بدلاً عن اعتـقاد ليبنتز (Liebniz) بوجود كتاب طبيعي واحد، ووجود “كتاب مقدَّس أرضي واحد” يحتوي على كلّ المعاني الممكنة، يؤمن دريدا بوجود عدد لا نهائي من الكتب، وبأنَّ وجود هذا العدد من مصادر الحقيقة كان ومازال وسيبقى هو الحقيقة للأبد. لهذا يقول دريدا إنَّنا لا نستطيع أن نجعل المعنى يسبق الكتابة أبداً، فالمعنى يكمن في الكتابة بحدّ ذاتها ولا يكمن في مصدر يعلو عليها.[3] لا يوجد معنى مـُصمَّم مسبقاً بصورة معيَّنة من قبل مصدر خارجي. المعنى لا يوجد لا قبل ولا بعد عمليَّة الكتابة.[4] المعنى هو صنيعة فعل الكتابة نفسه. إنَّه السيرورة التبادليَّة المفتوحة على اللَّانهاية بين الكتابة والـقراءة. اللغة لم تعد هنا مجرَّد مؤشّر، والمعنى لم يعد ذاك البُعد المعرفي الذي ندركه بواسطة تحوُّله من مؤشّر إلى ذاك الذي يشار إليه. اللغة لعبة، فعل مليء بالمفاجآت، بالكرب وحتى بالخطر.[5]

يؤمن دريدا بأنَّ إنكار قدرة اللغة على تأكيد حضورها وتعريف نفسها بنفسها وإخضاعها بدلاً عن ذلك إلى فكر (logos) أولي مطلق يوظف اللغة للإشارة إلى نفسه بواسطتها هو مشكلة جديـَّة.[6] بكلمات أخرى، من غير المناسب أن نتمسَّك بالفصل الأرسطوطالي الميتافيزيقي بين اللغة المحكيَّة واللغة المكتوبة.[7]ترتبط اللغة بشكل أكثر عضويَّة بعمل الكتابة من ارتباطها بالفكر المجرَّد. وهذا الارتباط يجعل اللغة تتجاوز في طبيعتها أيَّ محتوى، أو أيَّ إطار ميتافيزيقي معيَّن وأحادي. ارتباط اللغة بالكتابة يعطي اللغة تلك الـقدرة التجاوزيَّة، لأنَّ الكتابة نفسها تـتجاوز عند دريدا عمليَّة استخدام الحروف ورَصف الكلمات والجمل. كلمة “كتابة” يمكن أن تـُطلَق برأي دريدا على كلّ أنواع التعبير الكلامي، سواء التعبير الحروفي أو سواء بأدوات تتجاوز التعبير الصوتي عنها.[8]

دريدا ونـقد مفهوم الكائن الأنطولوجي – اللَّاهوتي:

هذا الربط بين اللغة والكتابة كبديل عن ربط اللغة بالتـفكير هو ما يمهّد لموقف دريدا التـفكيكي تجاه أيّ افتراضٍ لوجود علامات معرفيَّة مصدرها حقيقة مصدريَّة تجعل من اللغة مؤشراً ثانوياً يدلُّ على حقيقة أنطولوجيَّة أو أنطو-ثيولوجيَّة أو ميتافيزيقيَّة.[9] خلافاً للاعتقاد الأرسطي واللاهوتي، ينكر دريدا اعتماداً على مماهاته بين اللغة المحكيَّة والمكتوبة من حيث المعنى ومصدريَّته (المعنى هو النص وهو اللغة عينهما، وليس ما يدلان عليه) ينكر وجود مدلولٍ عليه أعظمي يعترف بوجوده الجميع. لأنَّ اللغة ليست ظاهرة كونيَّة بل نسبيَّة وسياقيَّة، ولأنَّ ما تدلُّ عليه ليس كونيَّاً بالنسبة إلى الجميع، لذلك فإنَّ التـفريق الميتافيزيقي اللاهوتي-الأنطولوجي بين الدالّ والمدلول عليه هو تـفريق إشكالي، برأي دريدا، إذ يُـنتج فهماً خاطئاً عن قيمة اللغة ومركزيَّتها. هذا التـفريق اللاهوتي-الأنطولوجي يقصر دور اللغة على عمليَّة الإشارة إلى الفائق والمتسامي، دون أن يأخذ بعين الاعتبار دور اللغة في الإشارة إلى الملموس والواقعي. المطلوب إذاً، برأي دريدا، هو فهم متوازن نرى فيه أنَّ للعلامة اللغويَّة الدالة وللألوهة المدلول عليها لحظة الوجود نفسها، ومصدر النـشوء، نفسه، وأنَّ للعلامة الدالة عمراً لاهوتيَّاً تدلُّ عليه أبديَّة دلالتها، إلا أنَّ تَـكَـشُّف تلك العلامة الدالة التاريخي مـُشار إليه أيضاً.[10]

في ضوء تلك الموازاة الشرطيَّة بين الدالّ اللغوي والمدلول عليه الماورائي يمكن أن ندرك أهميَّة مفهوم “الاختلاف” عند دريدا. بالنسبة إلى دريدا مفهوم “الاختلاف” هو الذي يدلُّ على أنَّ أيَّ شرحٍ أو تواصلٍ لغوي مكتوب أو محكي لا يدلُّ على ماهيَّة الأشـياء (what-ness) ولا يتحدث عن أيَّة كينونة تكمن وراء اللغة أو تـشكِّل مصدرها البدئي. مفهوم الاختلاف يشير فقط إلى ديناميكيَّة وعمق وتـنوُّع معاني اللغة في أيِّ نص مكتوب. فمعنى أيِّ نص لا يكمن في أيَّة حقيقة حاضرة يمكن لنا أن نتحدَّث عنها مباشرة من خلال النص، وإنَّما يكمن في تجاوز اللغة نفسها لأيّ نوع من أنواع الإشارة إلى كينونة أو ذات أو أي سؤال ماهوي محدَّد. عندما نقول “هذا يختلف عن ذاك” لا نـشير بتـلك العبارة إلى كائن أو إلى ذات لها ماهيِّة محدَّدة بأيّ شكل من الأشكال. الاختلاف يعني أنَّ أيَّ معنى ممكن لا يصدر عن وجود حضوري أو غيابي لأيّ مدلولٍ يشار إليه على أنَّه كائن.

من هنا نفهم لاهوتيَّاً سبب تـشديد دريدا على أنَّ مفهوم “المعنى كاختلاف يتجاوز الحضور الآني” يختـلف كمفهوم عن أيّ طرحٍ لاهوتي عن الله ككائن مطلق مرجعي وما ورائي يتجاوز أيَّ حضور ويسمو فوق أيّ معنى، ذاك الطرح اللاهوتي الذي يسمّيه اللاهوتيُّون عادةً الخطاب السلبي أو التـنزيهي عن الله (Apophetic Theology). فكرة “الاختلاف” تمثـل لدريدا في الواقع مصطلحاً فلسفياً نافياً بشدة لوجود مثل هذا الكائن المطلق بالدرجة الأولى. فكرة “الاختلاف” برأي دريدا لا تخضع إلى أيّ طرح أنطولوجي-لاهوتي عن كائنٍ علوي مرجعي، بل إنَّها تعيد صياغة الطرح المذكور، تطويه تحت جناحيها ومن ثمَّ تتجاوزه دون رجعة.[11] أيُّ بحثٍ عن كائنٍ قـائمٍ بذاته يلعب دور المصدر البدئي المطلـق للحقيقة، مثـل الله، يصبح مرفوضاً انطلاقـاً من فهم الاختلاف على أنَّه مجرَّد تعبير عن انفتاح اللغة على طيف واسعٍ من المعاني المتضمّنة في اللغة نفسها وليس في مصدرٍ وراءها، عوضاً عن فهم فكرة الاختلاف كتعبير عن فرقٍ أنطولوجي بين دالٍّ ومدلولٍ عليه يتجاوز الوسيط الدالّ نفسه في لا محدوديَّة كينونته. فكرة “المصدر البدئي” (arche) بحدّ ذاتها تخضع للنقد والتساؤل من قبل دريدا على أساس اقتـناعه بأنَّ تـفسير أيّ نصٍ هو عمليَّة استراتيجيَّة، وتـنطوي على مغامرة بحدّ ذاتها، وليس لأنَّها تتعلق بكائنٍ وراءها. عمليَّة التـفسير ذاتها مسألة استراتيجيَّة بسبب عدم وجود أيّ حقيقة ما ورائيَّة خلف حقل الكتابة يمكن أن يحكم لاهوتياً الحقل بكليَّته. وعمليَّة التـفـسير أيضاً مغامرة لأنَّها لا تـقوم على استراتيجيَّة موجَّهة نحو نهاية محدَّدة ومعروفة مسبقاً وفقاً لهدف أعظمي (telos) له صلاحيَّة تعديل عمليَّة الكتابة بما يتلائم معه.[12] أيّ معنى ممكن يكمن في الواقـع فينا نحن الـقراء، في ما نكتـشفه وفي ما نـشعر أنَّه محجوب في النص، أو أنَّ النص يلمِّح إليه بطريقة تـتجاوز ما نتوقعه أو نتصوَّره في الحاضر.

المعنى عند دريدا مثـل الغرفة العديمة الجدران والعديمة المخارج أو المداخل. المعنى فضاء مفتوح يتألف من مجموعة من العلامات المكتوبة ومن قارئ دون أن يكون هناك سياق محدَّد يتحكَّم بهذا الفضاء أو يشكّله، ودون أن يكون له أيضاً هدف أو نهاية ينتهي عندها. “الاختلاف” إذاً هو المصطلح الذي يُراد أن يُعبـَّر به عن هذا النفي لوجود أيَّة علاقـة بين ذاتٍ وكائن ٍموضوعي قـائمٍ بذاته خارجها، يراد به التعبير عن نفي أيٍ من تلك المصطلحات الأنطولوجيَّة الخاصة بالكينونة والماهويَّة.[13] هذا يعني أنَّ علامات الكتابة أو علامات النص ليست وسائط ثـانويَّة لكائنٍ أنطولوجي مطلق يتكـشـَّف عبرها، فوجود مثل هذا الكائن المزعوم، إن كان موجوداً، سيعيق برأي دريدا انفتاح وغنى اختلاف المعنى في النص. من الأنسب لذلك، كما يدَّعي، ألَّا نعامل علامات اللغة كمؤشرٍ إلى مُـشارٍ إليه، بل بالأحرى كفروقات صوتيَّة وفكريَّة تخلق معانيها بنفسها دون أن يخلقها أيُّ مصدرٍ آخر لها.[14]

عوضاً عن الاعتـقاد اللَّاهوتي الراسخ بأنَّ النصوص الدينَّية وبنيانها اللغوي مجرَّد أدوات تعبيريَّة عن معنى يكمن في مدلول عليه، إلهي قائم بذاته، وذي كينونة حيَّة وموجودة في ذاتها، يقودنا دريدا إلى مفهومٍ جديدٍ للغة، بما فيها اللغة الدينيَّة، يقول إنَّ معناها يكمن فيها ذاتها ولا يتعلق بأي شيءٍ ولا يشير إلى أي حقيقةٍ خارجها. اللغة هي بداية ونهاية ذاتها. لا يوجد حقيقة أساسيَّة تـشير إليها اللغة. ولا يوجد فرقٌ فعليٌّ بين عناصر اللغة وعناصر الفكر العقلي، فنحن نفكّر لغويَّاً ونخلق الأفكار لغويَّاً ولا نستخدم اللغة كي تُعبِّر عمَّا هو مـُفكَّر فيه مسبقاً. بكلمات لاهوتيَّة؛ اللغة الدينيَّة عن الله هي الله ذاته، فهي تخلقه وتعطي لكلمة “الله” المعنى وتـقرّر من خلال هذا المعنى ماهيَّة هذا الإله. اللغة الدينيَّة لا تعبِّر عن الله إذاً بل تخلـقه. دريدا يؤكد هذا بقوله إنَّه لا “كائن” ممكناً بدون اللغة، ولا “كائن” موضوعيَّاً يمكن أن نفهمه فلسفياً ونعطي لوجوده معنى بدون اللغة.[15] “الكائن” عند دريدا مجرَّد صيغة لغويَّة محدودة باللغة التي تتحدث عنها، ولا تُعبـّر عن أيَّة حقيقة موضوعيَّة كونيَّة وضروريَّة.

مـلاحظات ختـاميَّة:

لن أخوض في هذا المقال في مسألة تـفنيد مفهوم دريدا الفلسفي عن الأنطولوجيَّة ومعنى الكينونة في علاقتهما باللاهوت ومفهوم الله، فهذا يحتاج لدراسة أخرى متكاملة. ما أردت أن أقـدّمه هنا هو عرض لأطروحة دريدا التـفكيكيَّة حول فلسفة اللغة ومفهوم “المعنى” وتبعات مثل تلك الأطروحة على اللاهوت ومفهوم الله الأنطولوجي. لا بدَّ أن نعترف بأنَّ تأثير دريدا على اللاهوت الما بعد-حداثوي أمرٌ لا يمكن إنكاره، خاصَّةً حين ندرك أنَّ العديد من اللاهوتيين الغربيين قد تبـنَّوا مؤخَّراً طروحات دريدا، وهم يحاولون أن يبينوا أنَّ الـقواسم المشتركة كثيرة بين علم اللاهوت وبين ما بعد-الحداثـة، على قـاعدة إعادة تـفسير العقائد اللاهوتيَّة المسيحيَّة انطلاقـاً من قراءتها كنصوص تاريخيَّة ذات تركيبة لغويَّة تحتاج إلى تـفكيك في ضوء مفهوم دريدا عن اللغة وعن المعنى.[16]

ممَّا لا شكَّ فيه أنَّ مفهوم دريدا عن المعنى الذي يبدأ وينتهي في النص، ومفهومه عن الكينونة التي تـنبع من النص ولا توجد خارجه تهدّد بتحويل اللَّاهوت إلى مجرَّد نصوص تخلق الله بدل أن تـفسِّر وجوده وعمله، بأنْ تحوّل الله ذاتـه إلى مجرَّد معـنى لغوي صرف، بدل أن يكون شخصاً ذا كيانٍ وذاتٍ ووجود تـنبع من ماهيَّته عينها. من الممكن جداً لعملية اختصار الحقيقة الإلهيَّة إلى مجرَّد تعبير عن حالة وجوديَّة أو حالة مفاهيميَّة تُعبـِّر عن فكرة العطاء أو فكرة إدراك حضور الآخر، واختلافه أن تحوّل الله نفسه إلى مجرَّد “حالة” أو شرط للوصول إلى حقيقة بدل أن يكون حقيقةً قائمة بذاتها تواجهنا من الخارج، وتتحاور معنا كذات تتـفاعل مع ذات أخرى.

يصيب كيفن فنهوزر في قـوله إنَّ علاقة اللاهوت بفلسفة ما بعد-الحداثـة مازالت في مراحلها الأولى، ولم يتوضـَّح بعد إن كانت العلاقـة بينهما ستكون علاقـة تبعيَّة من اللاهوت لـشروط ما بعد-الحداثـة، أو أنَّها ستكون علاقـة يكون فيها اللاهوت شرطاً لتحقيق طروحات ما بعد-الحداثـة.[17]إلا أنَّه ممَّا لا شكَّ فيه أيضاً أنَّ أيَّ خيارٍ ستميل إليه علاقـة اللاهوت بما بعد-الحداثـة سيتـشكَّل في ضوء الموقف اللاهوتي من فلسفة دريدا الرائدة في رسم ملامح ما بعد-الحداثـة، بالـقدر الذي سيتـشكَّل فيه هذا الخيار في ضوء الموقف الما بعد-حداثوي لأتباع دريدا من اللاهوت الأنطولوجي. في كلتا الحالتين نستطيع أن نقول إنَّه بالرغم من موت أحد أشهر الفلاسفة الما بعد-حداثويين، جاك دريدا، إلا أنَّ كتاباته وطروحاته ستجعله يتكلم بـعدُ لعقودٍ قادمة.

مسرد المصادر والمراجع

–       Aristotle, De Interpretatione، J.L. Ackrill (trans.), (Oxford: Clarendon Press, 1963), Ch.1, I6a.3

–       Derrida, Margins of Philosophy, Alan Bass (trans.) (Brighton: The Harvester Press,

–       Derrida, of Grammatology, Gayatri c. Spivak (trans.) (Baltimore & London: The John Hopkins University Press, 1976).

–       Jacques Derrida, Writing and Difference, Alan Bass (trans.), (London & Henley: Routledge & Kegan Paul, 1981).

–       Kevin J. Vanhoozer, ed., The Cambridge Companion to Postmodern Theology, Cambridge: Cambridge University Press, 2003

–       VanHoozer, theology and the Condition of Postmodernity: a Report on Knowledge of God in The Cambridge Companion to Postmodern Theology.


[1]. Jacques Derrida, Writing and Difference, Alan Bass (trans.), (London & Henley: Routledge & Kegan Paul, 1981), p. 6.

[2]. Ibid. p. 9.

[3]. Ibid, p. 10.

“أن تكتب يعني أن تدرك أنَّ ما لم يظهر في الكتابة ليس له مكان تواجد آخر، وأنَّه لا ينتظرنا كأنَّه وصف موجود في فهم سماوي إلهي. يتوجب على المعنى أن يقال أو أن يـُكتَب كي يحضر وكي يصبح معنى حقاً من خلال تأجيل هذا الحضور”. (ص 11)

[4]. Ibid. p. 11.

[5]ـ من غير المفاجئ أنَّ ملهم دريدا هنا هو نيتشه الذي يتحدث عن الكتابة كـ”فعل ترقيص القلم”، شىي يقول أيضاً إنَّ الأفكار القيّمة هي فقط تلك التي تأتيك وأنت تمشي. (المصدر نفسه، ص 29).

[6]. Derrida, Of Grammatology, Gayatri c. Spivak (trans.), (Baltimore & London: The John Hopkins University Press, 1976), p. 6.

“تتعرَّض اللغة بحدّ ذاتها للخطر في وجودها ذاته، تصبح عاجزة، تحت رحمة وتهديد اللامحدودية، مـُعادة إلى محدوديتها في تلك اللحظة التي تختفي فيها حدودها ولا تعود قائمة بذاتها، بل خاضعة ومضمونة بفضل مدلول عليه محدود يتجاوزها”.

[7]. Aristotle, De Interpretatione, J.L. Ackrill (trans.), (Oxford: Clarendon Press, 1963), Ch.1, I6a.3, p. 43.

يعتبر أرسطو أنَّ الأصوات المحكيَّة رموز لمشاعر في النفس، وأنَّ العلامات المكتوبة رموز للأصوات المحكيَّة. وكما أنَّ العلامات المكتوبة تختلف بين شخص وآخر، كذلك تختلف الأصوات المحكيَّة، مع أنَّ تلك الأصوات هي في الدرجة الأولى علامات شعوريَّة في النفس، تتشابه عند الجميع.

[8]. Ibid. p. 9.

[9]. Ibid. p. 10.

[10]. Ibid. p. 14.

[11]. Derrida, Margins of Philosophy, Alan Bass (trans.), (Brighton: The Harvester Press, 1982), p. 6.

[12]. Ibid. p. 7.

[13]. Ibid. p. 9.

[14]. Ibid. p. 11.

[15]. Ibid. p. 196.

[16]ـ يمكن في هذا الإطار الاطلاع على الكتاب الهام:

Kevin J. Vanhoozer, ed.The Cambridge Companion to Postmodern Theology, Cambridge: Cambridge University Press, 2003.

[17]. VanHoozer, “Theology and the Condition of Postmodernity: a Report on Knowledge (of God)”, in the Cambridge Companion to Postmodern Theology, pp. 3-25. 
_______
*مؤمنون بلا حدود

شاهد أيضاً

يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت

(ثقافات) يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت حسن حصاري منْ يمُدُّ لي صوْتا غيرَ صوْتي الغائِب؟ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *