محمد الباهلي
كثرت في الفترة الأخيرة المطالب بتجديد الخطاب الديني، خاصة بعد أن سادت العالم الإسلامي حالة من الجمود والضعف واستجدت على هذا الخطاب تحديات كثيرة، سواء أكانت داخلية أم خارجية، وأهمها استغلال الدين لتحقيق مكاسب سياسية أو اتخاذه كغطاء لممارسة العنف والتطرف كما تفعل بعض الجماعات والحركات مثل «القاعدة» و«داعش». وقد عقدت من أجل مناقشة هذا الموضوع مؤتمرات وندوات وكتبت العديد من الدراسات والمقالات.
والسؤال هنا هو: هل هناك بالفعل حاجة إلى رؤية فلسفية جديدة لهذا الخطاب؟ وما هي ملامح هذه الرؤية المطلوبة في واقعنا المعاصر؟
لقد اتفق الكثيرون على أن هذا الخطاب يعيش في مأزق فلسفي، يشخصه أهل الاختصاص في مسألة «الفقر الإبداعي»، ومن ثم فالجهد الحالي يفترض أن يفضي إلى رؤية فلسفية جديدة تعيد لهذا الخطاب حيويته ونشاطه وروحه الحقيقية وتجسد وجوده الحقيقي في حركة الحياة التي نعيشها وفي حركة النهوض التي ننشدها للانخراط في مضمار التنافس العالمي.
وعلى ضوء ذلك، فإنه لا سبيل للخروج بالخطاب الديني من المأزق الذي هو فيه إلا بإيجاد رؤية فلسفية تضيف حالة من الإبداع المنشط لحركة الحياة في المجتمع، والذي يعمل على تزويده بروح ثرية تجعله في نشاط متميز ومتطور ومستمر في ضوء ما بلغه العقل المسلم في وقت سابق من قدرة على الإبداع والتميز المعرفي والعلمي والفكري والفلسفي، بحيث يصبح هذا الخطاب قادراً على تلبية احتياجات الأمة والاستجابة لمشكلاتها.
لكن على أن لا يمس هذا التجديد الثوابت التي نص عليها الدين الإسلامي، أو يعبث بهوية الأمة. فالتجديد الذي نراه هو ذلك الذي يقترب من الصورة العامة كما حددها الشيخ محمد زكي، الأمين العام للجنة العليا للدعوة الإسلامية بالأزهر الشريف، في مجلة «أكتوبر» (17 – 05 – 2015) عندما قال: «أن نجعل من مفهومنا لمراد الله من خلق الله في كل زمان ومكان إعماراً للأرض يسع كل مناحي الحياة تجديداً وتطويراً وإبداعاً، تحقيقاً لسعادة الإنسان أياً كان هذا الإنسان وعبادة الله الواحد القهار بأن نحسن الفهم عن الله ثم نبلغ مراد الله من خلقه حسبما أراده الله عزل وجل دون تزيد منا أو تنقيص».
وسبق للكاتب الكبير عباس محمود العقاد، رحمه الله، أن اقترب هو الآخر من تلك الصورة عندما حاول تحديد ملامح النهوض الإسلامي المنشود، في كتابه «التفكير فريضة إسلامية»، فأراد أن يدلنا على الصورة المثلى للانطلاق بالخطاب الإسلامي من المأزق الفلسفي الذي يعيشه والارتقاء به إلى المستوى الذي نريد أن يصل إليه، حيث أعتبر أن «التفكير الاجتهادي» هو المنقذ من هذا المأزق وهو الأساس لهذا التجديد، عندما قال: «إن من خصائص العقل أن يتأمل فيما يدركه ويقبله على وجوهه ويستخرج منه بواطنه وأسراره ويبني عليها نتائجه وأحكامه، وهذه الخصائص في جملتها تجمعها ملكة الحكم وتتصل بها ملكة الحكمة». ثم يكمل معالم الصورة بقوله: «إن العقل الذي يخاطبه الإسلام هو العقل الذي يعصم الضمير ويدرك الحقائق ويميز بين الأمور ويوازن بين الأضداد ويتبصر ويتدبر ويحسن الادكار والرؤية، وهو العقل الذي يقابله الجمود والخراب. فالدين الإسلامي دين لا يعرف الكهانة ولا يفرض على الإنسان قرباناً لمتسلط أو صاحب قداسة مطاعة.. لن يتجه الخطاب إذن إلا إلى عقل الإنسان، حراً طليقاً من سلطان الهياكل والمحاريب».
الاتحاد