نسخة أخرى من أغنيتها المفضلة

عبدالعزيز سعد المطيري*

“لزيوس، إله الحكمة، قانون مخادع؛
مَن يريد أنْ يتعلم، عليه أنْ يعاني،
وحتى في منامنا،
يسقط ذلك الألم الذي لا يُنسى،
قطرة بقطرة في القلب،
وضد رغبتنا، مكرهين على ذلك،
تحلّ بنا الحكمة،
بكرم من الآلهة،
كرمٌ كهذا كريه وبشع”
~ آسخيليوس
كانت تدور في عقل هالة، حين استيقظت من النوم مبكراً في أحد صباحات الأحد الهادئة، كلمات تلك الأغنية التي حسبت أنها نسيتها منذ أمدٍ بعيد، وأنها لن تتذكرها مرة أخرى. كانت الساعة تشير إلى السابعة صباحاً، وكان من المفترض أنْ تغزو الشمس غرفتها الوسيعة عبر النافذة، لولا أنها كانت متدثّرة بسحب كانون الأول، ليسري ذلك النور الرمادي في بقاع مدينة نيو هافن، ونحو الغرفة ذات الحيطان البيض ليمليها بلونه. وهالة، في وسط سريرها الضخم، تنظر ساهمة للسقف، وكانت تشعر حينها، ولأول مرة، بذلك الشعور الغريب من الخدر والرغبة.
كانت لا تزال متسمرة في وضعيتها تلك، بعينين فاغرتين، والأغنية تصخب في عقلها بلا توقف، دون أن تحاول التخلص من ذلك الشعور الغريب الذي كان يسري في جسدها رغم انزعاجها منه. بعد برهة من الزمن، بدأت التفكر بالذي دفع عقلها الباطن، والذي عادةً لا تؤمن بوجوده، بأن ينبش في سجلّات منسية قابعة في قبوٍ ما من أقبيتها العديدة، والذي دفنها الوقت في محاولةٍ منه حماية سيدته من الأذية، ويخرج تلك الأسطوانة، نافضاً عنها الغبار، ويشغّلها، لتصدح في عقلها.

“في عينيكِ دعوة ملحة،
في ابتسامتكِ شيء مثير للغاية،
شيءٌ ما في قلبي قال لي بأنني يجب أنْ أحصل عليكِ،
غريبان في الليل، شخصان وحيدان”

عيناها الواسعتان تكادان أنْ تتلألآ. تتخيل عقلها الباطن بهيئة فرويد، جالساً بمعطفه الأبيض إلى جانب جرامافونٍ قديم، في صندوقه أسطوانة أغنية تدور، وفرويد، ذلك البغيض، يهزّ رأسه طرباً بلحيته البيضاء الكثة، ويضحك وهو ينظر نحوها.
كانت دائماً ما تقول لصديقاتها في الوطن بأنه لا يوجد في المرء شيء اسمه عقل باطن. “إنه أحد اختراعات فرويد الذي في الغالب قد اخترعها في إحدى جلسات الحشيش أو الهيروين، والذي كتب فيهن مجمل كتاباته”. قالتها في إحدى جلسات القهوة المسائية، بكل ذلك الشموخ الذي يميّز هيئتها، بين صديقاتها اللاتي وافقنها، كعادتهن عندما تتحدث بينهن.
كانت دائماً ما تشعر في تلك الجلسات بأنها حرة، دون أن تعلم لماذا؛ رائحة القهوة التركية التي تدور بفناجينها بين صديقاتها، النميمة عن العمل وحياتهن العاطفية، ضحكات نساء يطمئنّها بأنهن سيكونن معها للأبد.
“كيف لنا أن نثق في مفهوم خرافي، مثل “عقل باطن”، اخترعه شخصٌ ماجن ولم يكن بوعيه في أغلب الأحيان؟”. قالت ذلك في تلك الجلسة، وأمارات الدهشة التي افتعلتها لم يكن لها معنى، كما يعلمن ذلك صديقاتها، سوى التأكيد على كلامها.
عقلٌ يشغّل أغنية، وآخر ينشغل بها.
كانت تشعر بأنّ فرويد، كرجل تقليدي مهووس بالإيروسية، ونظرياته الغيبية عن الجسد والنفس والغرائز، هو السجّان الذي لا يزال يحبس المرأة في دائرة الفكر الأوديبي للرجل، والذي يحدّد إطار الصحة العقلية للعالم الذي تعيش فيه؛ كانت كتاباته تفيض بالكراهية ضد المرأة، ومع ذلك، كانت تجد في مجلات المرأة تلك المقالات والاختبارات القصيرة النابعة من أفكاره البغيضة، والتي تحاول أنْ “تساعد” المرأة في الانجذاب أكثر فأكثر نحو دائرة التبعية للرجل، تلك التبعية التي تُمارس، وبشكل ممنهج، في مؤسسة “الآفاق” للاستشارات الهندسية، إحدى كبرى المؤسسات التي تشرف على مشاريع ضخمة في منطقة الخليج العربي، والتي كانت تعمل هالة بها كمهندسة لأكثر من عقد.
لكن ليس لذلك كانت تكرهه فقط، بل لأفكاره الغيبية عن الإنسان، تحديداً فكرة “العقل الباطن”. كيف للمرء أن يقنع امرأة لا تؤمن سوى باللغة البرهانية التي تسيطر على هذه الحياة، بكل ماديتها، أرقامها ومعادلاتها ونظرياتها، بأن هنالك عقلاً آخر، خفي، يتحكم بتصرفات المرء وغرائزه؟
كان شعرها القسطلي المنسدل على مدى الوسادة باهتاً بفعل النور الرمادي الذي أُغرِقَتْ به الغرفة، والذي كان، مع الهدوء الذي تصخ به أرجاء شقتها المطلة على شارع يورك الهادئ، يغذيان الخدر في جلدها الحليبي. إلا أنّ الرغبة، والتي تتخذ من تلك الأغنية سلاحاً لها، كانت تقاوم. لم تكن من عادتها الاستيقاظ في هذه الفترة من الصباح. ومع هذا استيقظت غارقة بين الشراشف السوداء، ومع أسطوانة أغنية “غريبان في الليل” بصوت فرانك سيناترا تدور في عقلها.
على أن المرء عليه ألا يحكم بأنّ هالة لا تفكر سوى بتلك اللغة البرهانية، وإلا لما تأثرت بتلك الأغنية؛ فهي دائمة الهروب من عالمها المليء بالأرقام والمعادلات كلما شعرتْ بتكدّس الأرقام على صدرها، بكل الحمل الذي تحيل إليه، إلى العالم النقيض؛ عالم الشعر والمجاز، والكلمات التي لا تحيل سوى للخيال. كانت تعتقد بأنها ستجد قلبها في ذلك العالم الخرافي. قلبٌ فقدته منذ زمن بعيد، قلبٌ كانت تعتقد بأنها ستجده في الأغنية التي لا تزال تصدح في عقلها.
كانت هالة، والتي لا تزال منزعجة، قد بدأت تشعر بالثقل يغزو صدغيها، مما ينذر بنوبة صداع مزمن تستمر لساعات. لذا، وكمحاولة للهرب من جسدها، بدأت بالزحف نحو حافة السرير، لتقف، بكل ذلك الثقل في رأسها، وتدلف في الممر ببجامتها الوردية الفضفاضة نحو المطبخ في الجهة المقابلة. كانت تحتاج لكوب من القهوة حتى تخرج من حالة الشعور باللاوعي. ولا تعلم لما تذكّرت، وهي في الممر الداكن، عبارة قرأتها لالياس خوري قبل أعوام تقول بأن “جسد الإنسان تابوته”. وحينها فقط، شعرت بأنها، طوال حياتها، جثة هامدة تهوي، وتشدّ معها نحو القاع امرأة قُيّدتْ بها من دون ذنب.
“جسد الإنسان تابوته”، مفتونة بتلك العبارة كانت. كان خوري يحيل إلى أنّ المرء حين يصل سن الأربعين، تموت الرغبة بجسده، وينزلق للموت دون أنْ يموت. ولكنها، امرأة في الثانية والأربعين، تشعر بأنها انزلقتْ للموت منذ قرابة العقد، وأنّ أية مشاعر للرغبة هي أعراض جانبية لتفاعلات جسدها فقط.
لكن ما الذي دفع فرويد لإخراج أسطوانة “غريبان في الليل”؟
فيما مضى، كانت ترى بأن هذه الأغنية تجسّد أكثر ما تتمناه في هذه الحياة؛ هي وغريب، يلتقيان صدفةً في الليل، يتبادلان النظرات، ويقعان في الحب. ولا تعلم، حتى هذه اللحظة، لما كانت مفتونة بتلك الأغنية.
في طفولتها، كان والدها يجلس مستمعاً لأغاني سيناترا لساعات عديدة في غرفةٍ أثاثها موشى بالحمرة. كانت تلك وسيلته في الاسترخاء في أيام العطل. كان يستمع لها في تلك الغرفة أحياناً وهو يقرأ كتاباً، وأخرى وهو يجلس فقط مسترخياً على الأريكة، واضعاً رأسه للخلف. كان ذلك السكون يغويها، يدفعها لدخول الغرفة بكل الهدوء الذي يتمثل في ادعاء تلك الطفلة، وتتوسد الأرض لترسم في كراستها، وفيما بعد، لتقرأ كتاباً. في تلك السكينة، وجدت عالم المجاز، ولم ترغب في أنْ تغادره أبداً. ومع تقدمها بالعمر، ستكون تلك الغرفة الحمراء هي أكثر الحالات التي ستحن للعودة إليها؛ المكان، الأغاني، وتوسد الأرض بجانب أبيها.
في البداية، لم يكن والدها مرتاحاً لاقتحامها عزلته، ولكن الهدوء الذي تمارسه حين تكون في وجوده، والذي تتخلى عنه دائماً حين لا يكون في الجوار، كان مقنعاً كفايةً لأنْ يضمّها لذلك السكون. كانت تلك العزلة، والتي يتوقف فيها الزمن، هي ما دفعها لدراسة الهندسة. كانت في إحدى جلسات العزلة تلك، قد قرأت في “الموسوعة العلمية للمبتدئين” عن النظرية النسبية، وكيف للزمن أن يكون بعداً رابعاً يمكن للمرء أن يسير، أو حتى يتوقف، فيه.
كانت قد أُخِذت بتلك النظرية. “أليست قصة إسراء النبي ومعراجه خير دليل عليها؟” هكذا كانت تفكّر حينها. وبدأت تطلب من والدها أن يشتري لها كتباً تشرح لها تلك النظرية، والذي كان يزعجه قليلاً. كان سبب افتتانها بها، هي أنها كانت تشعر في تلك العزلة، بحقيقة توقف الزمن؛ تمر ساعات عديدة، في جو مليء بالسكينة، في شيء أشبه باللحظة. كان يغيظها سخرية اخوتها منها بأنّ ذلك بسبب عدم احساسها بالملل، وأنّ الزمن لا يمكنه التوقف، وأنّ آلة الزمن خرافة موجودة فقط في المسلسلات الكرتونية. ولكنها لم تعرهم أي اهتمام. وعبر النظرية النسبية، ارتطمتْ بقطة شرودنجر، وكيف يمكن لها أن تتواجد في عالمين مختلفين في ذات اللحظة؛ هالة التي تجلس في “العزلة المقدسة” كما يسمّيها والدها، وهالة التي تلعب مع اخوتها. وحينها فقط، في عمر الخامسة عشرة، أرادت، رغم أنها تعشق الأدب، أنْ تتخصص في المجال العلمي، وأنْ تصبح عالمة فيزياء كمية.
لكن للوقت ذلك الهوس بالتغيير، فبعد دخولها لجامعة الكويت، لم تجد التخصص الذي تريده، ولأنّ أمها كانت تخاف عليها كثيراً، لم تستطع الدراسة في الخارج، وأُجبرت على التخصص في الهندسة الميكانيكية، ومع الوقت، بدأت تقتنع بأنّ فكرة توقف الزمن خرافة، وأنّ المرء لا يمكنه لحظياً التواجد في عالمين مختلفين.
كان ذلك بعد وفاة والدها، حينما كانت في نهاية سنتها الدراسية الأولى، وفقدان الزمن لمعناه. وكان ذلك بداية ضمورها، ووقوفها على بوابة التقية.
كانت هالة قد خرجت من الممر الداكن، دالفةً للنور الرمادي مرة أخرى والذي يغمر غرفة المطبخ، متوجهةً نحو إحدى الخزانات العلوية في الطرف المقابل للباب. كان شعورا الخدر والرغبة قد بدآ يتسربان عن جسدها، ليحل محلهما ذلك الصداع الذي يشبه ضربات مطرقة على جدار عقلها، والأغنية لا تزال تصدح. فتحت باب الخزانة لتُخرج برطمان البن المطحون، وتفتح غطاءه لتستنشقه، محاولةً إفاقة عقلها. إلا أنها ذهبت، في شيء أشبه باللحظة، إلى جلسات القهوة المسائية مع صديقاتها في الوطن وضحكاتهن الرنانة التي لا تنتهي. وحينها، أصابها شيء من الحزن أثقل رأسها بمزيد من الصداع.
رائحةٌ وحزنٌ، وألمٌ في القلب، وآخرٌ في الرأس. لما يشعر الحزن، حين تدعوه ذكرى من اللاتي استوطن شغاف القلب، بتلك الحاجة لجلب الألم، بوجوهه المتعددة، متى ما حلّ في صدر الإنسان؟
قبل قدومها للولايات، كانت تشعر في الوطن بفقد الأشياء لمعانيها. كانت تشعر، مع زواج صديقاتها وانشغالهن مع الوقت بأسرهن، بشيء من الخيانة. كانت تعلم، حين سيتزوجن، بأنهن سيبتعدن عن بعض بحكم نمو عوائلهن وازدياد مسؤولياتهن، وستصبح المكالمات اليومية والمقابلات شبه اليومية، مع مرور الأيام عادة أسبوعية، ثم شبه شهرية. لكن، حين يتوقع المرء شيئاً من القدر، فهذا لا يعني بأنه سيتقبله.
لم تكن مشكلتها مع العلاقات الاجتماعية، فهي في مجتمع مليء بالنفاق تعرف الادّعاء. ولكن، في خضم ذلك الزيف، والعمل الذي يتّسم بعنصرية ذكورية وازدياد أعباءه التي تشعر بأنها شيء من أغلال العبودية، كانت تحتاج للرفقة الإنسانية؛ شخص ينصت لها، ويشاركها الألم ذاته الذي تفرضه الحياة. وفي ذلك الاحتياج، بدأت الأشياء تفقد معانيها. حتى القهوة التركية، لم يعد لها ذلك المذاق.
كانت هالة، في جو المطبخ المليء بالرمادية، تنظر، وهي ترمي البن في الكنكة، إلى انعكاس وجهها في الماء الذي تزداد دكنته، والتي شعرت وقتها بأنها تنظر إلى هالة أخرى في الطرف الآخر من الكنكة.
حينما أرادت الدخول في بوابة التقية، وجدت رفيقات يعيننها على ذلك. حتى أنها فكرت، بدافعٍ من حزن الفقد، والفراغ الذي تركه والدها في قلبها، في ارتداء الحجاب، وتعلن للناس بأنها تعمّدت من جديد. إلا أنّ طريق التقية شاقٌ ومتعب، وجمالها، والذي كان يشعل الرغبة في أعين الطلبة والزملاء، كان يغويها أيضاً. ومع الوقت، بدأت تتخلى عن فكرة الحجاب. كانت لا تزال تلك الطفلة الشقية، والتي عبر جمالها الساحر، تفتن الآخرين. وبذلك، ظلّت على بوابة التقية، دون أن تعرف إنْ هي ستدخل أم لا. لقد كانت ترى نفسها كما كان يرى شرودنجر قطته؛ امرأة التقية، وامرأة الرغبة، تعيشان في ذات الوعاء، في ذات اللحظة.
امرأة التناقضات. كان أول كتاب قرأته بعد حصولها على الماجستير من جامعة نيو هافن هو “المدونة الكبرى” لنورثروب فراي. كانت في فترة دراستها تلك تنتقل بين العلم والأدب؛ كلما شعرتْ بضغط الدراسة والكتب العلمية، هربتْ لمتنفّسها في الشعر والرواية. وبعد انتهاء الدراسة، أرادتْ كتاباً مختلفاً، ووجدته في كتاب فراي، والذي يجمع بين شغفيها المتناقضين.
كانت تشعر بأنّ ذلك الكتاب هو أكثر ما يفسر حياتها، وأنّه، رغم كونه كتاب نقد، يفهم شخصيتها أكثر مما كنُّ يفعلن صديقاتها؛ لغة العالم الأولى كانت مجازية، لغة الشعر والخيال، ومع الوقت، بدأتْ تلك اللغة تنحو أكثر فأكثر نحو البرهان. وكانت ترى ذلك التحول في اللغة هي معضلتها كما هي معضلة هذا العالم؛ البرهان يحاول نفي المجاز، والأخير يقاوم بدوره لكي يحيى.
امرأة التناقضات؛ المجاز والبرهان؛ الرغبة والتقية؛ الحياة والموت.
كان ماء القهوة يفور في الكنكة، نقطة التحول التي تخبر المرء بنضج القهوة واستوائها، لينبعث ذلك الأثير الذي يثيرها دوماً. وبحركة سريعة منها، كانت القهوة في الفنجان. كانت ترى بأنّ حياة الإنسان كلها تتجسد في صنع القهوة التركية، وأنّ شبابه في تلك الفورة القصيرة؛ ماء القهوة البارد يجادل الحرارة، يقاومان بعضيهما، يلتحمان حتى تلك الذروة. وأنّه متى ما تجاوز تلك الفورة، ينسدل المرء مع بقية عمره للخدر والضمور.
كانت ترى بأن الجدلية تولد من كنف التناقض. وأنها مع الوقت، تفقد الجدلية استمراريتها، وفي النهاية على الجمود أن ينتصر. هكذا انتصرت الرأسمالية على العالم كما ترى، وهكذا ستنتصر دوماً. ولذلك، كان على هالة، إن أرادت العيش، أن تتخلى عن الأغنية، وعن كل ما يشكل بناءها؛ المجاز، الرغبة، والحياة.
لكن المرء لا يستطيع العيش دون أغنية، دون رتم أو إيقاع، وعليه دائماً أن يخترع ما يتناغم مع الفراغ الذي يُخلَق في نفسه. كانت، بعد تخلّيها عن “غريبان في الليل”، بدأت تستمع للأناشيد الدينية، والتي وجدت فيها راحة غريبة حينها؛ الحديث عن الرهبة من الله، ذلك الحب الذي يتمثل في الخوف منه.
كانت تلك العلاقة الوحيدة التي يمكنها العيش فيها للأبد. علاقة دون شكّ أو ألم؛ أنْ تتخلى عن كبريائها وتسلّم نفسها له، أن تثق بهداه دائماً وتؤمن بأنه مخلصها في الحياة، وتلجأ له حين تحتاجه لتجده. علاقة تخضع فيها للطرف الآخر تماماً، دون أن تشعر بأن كيانها مهدّد دائماً. كانت تحتاج تعبئة الفراغ في ذاتها بتلك المحبة. لكن، مع الوقت، وكأي شيء لا يلامس شغاف القلب، بدأت تسأم من تلك الأناشيد، ومع تغلغل الرتابة، استسلمت هالة للخدر، وانزلقت للهاوية.
وكانت تلك قصة لجوئها للدراسة في الولايات المتحدة؛ لم يكن فقط طموحاً لديها، هذا ما يقوله المرء حين يوارب عن الإجابة الحقيقية لسؤالٍ غير مرغوب به؛ كانت تحتاج لأن تملي ذاتها بشيء ذي معنى، بأنْ تشغل عقلها، لأنْ تجعله هو من يتحكم بها، لا قلبها. وكان ذلك الهروب الكبير الخاص بها، والذي يؤديه كل امرءٍ مرةً في حياته.
أخذت هالة الفنجان من الموقد لتتوجه به، محاولة ما استطاعت الشعور بحرارته، إلى طاولة الطعام الصغيرة بجانب النافذة. لم يكن المطبخ ضمن غرفة المعيشة، إذ أن تصميم الشقة كان قديماً، وكان يعجبها ذلك؛ يشعرها بالحياة القديمة التي كانت تعيشها مع أسرتها في مضى في سفراتهم، حينما كان والدها على قيد الحياة. حينما كانت طفلة، وكانت ترغب بتوقف الزمن، وألا يتغير أبداً. كانت دائماً تحب أوراق الجدران التي خلف صور العائلة، قبل أن تُولد هي، بذلك اللون الأخضر، وزخارف زهور الزنبق التي تشابه ورق جدران العصر الفيكتوري. ولذلك، وبشيء أشبه بالالتزام لتلك الصور التي لم تعشها، كانت قد اختارت أوراق جدران مشابهة لما تحتفظه بذاكرتها، بشيء يخالف التصميم الداخلي المعاصر.
امرأة الذاكرة، مهما حاولت النسيان.
في عامها الثالث في مدينة نيو هافن، وعند عودتها ظهراً من الجامعة بسيارتها، استمعت لتلك الأغنية التي جعلتها، على غير العادة، صامتةً حتى نهاية الطريق. كانت، كامرأة تحب التفكير، تأخذ أحياناً طريقاً طويلاً لمنزلها عندما تشعر بحاجتها لذلك، عبر أشجار الريف، والتي كان فصل الخريف وقتها يكسو أشجار القيقب والزنبق على جانبي الطريق بذلك الخليط الباهر من القرمزية والصفرة، مروراً ببحيرة مالتبي بزرقتها الداكنة، حتى تصل للمدينة. كانت في بداية الدكتوراة، تُفكّر باختيار إطار نظري لرسالتها في الميكانيكا البيولوجية، حين بدأت ترايسي تشابمان عبر الراديو، بكل ذلك الصوت الشجي، أغنية “تذكّري رجل الصفيح”، لتهوي هالة في حالة من الصمت.
“من سرق تلك القطعة التي يحتاجها بشدة الكل،
تركك جسداً مجوفاً،
جلداً وعظاماً،
أي سارقٍ، أي لصّ،
من سرق قلبك، ومفتاحه”
في ذلك الطريق، في جو نيو هافن الرمادي، كانت هنالك قرمزية الأوراق الداكنة، وكان هنالك الصمت. وحينها تذكرت أغنية “غريبان في الليل” لأول مرة منذ سبع سنوات، دون أن تعرف لماذا. لتتذكر، وكنوع من العذاب، كلام الغريب، والذي لم يكن حينها غريباَ، عندما كتب لها ذات مرة إهداءً على رواية “المريض الإنجليزي”:
“يحسب المرء بأنّ في الجسد هنالك أشياء تموت مع الوقت بفعل النسيان، وأن الإهمال الذي يصيبها لا يودي إلا لفنائها. لكن جاهلاً يكون، حين لا يعي أنه بإمكان انبعاث الأشياء من قبورها، كصعود زهرة الخزامى، والتي نسيت ذات مرة، من قلب الصحراء”
أصابتها نوبة هلع جعلتها تشعر بالاختناق، وبأنّ الهواء قد اختفى ولا يمكنها استنشاقه، وضربات قلبها المتسارعة تدفع الدم للرأس حتى تبقيه حيّاً، لتُجْبَر على ركن السيارة على جانب الطريق. وحينها، شعرت هالة بذلك الألم الذي قبض على قلبها فجأة، ليعتصره، جاذباً إياه نحو الأسفل. ذلك الألم الذي كان يتخفى في شقّ منسي من شقوق القلب التي لا تحصى، والذي طمسه الخدر حينما احتاجت هالة للنسيان، وبرز، حين تحين فرصته، ليحقق انتقامه من تلك التي جعلته يُطمس لسنواتٍ عديدة.

ومع أغنية ترايسي تشابمان، وقعت هالة فريسة للذاكرة.
كانت عند نافذة المطبخ تنظر للشارع الفارغ، والذي كان بأحد جوانبه أعمال حفريات وصيانة تجبرها حين يشتغل فيها العاملون في ساعات ذروة الصباح للهرب إلى مقهى “الولاية الزرقاء” على بعد شارع، حتى لا يلازمها صداع مزمن يحرمها من نوم الليلة. وعلى الجانب الآخر، كانت هنالك سقالات لمبنى يتم ترميمه. كانت تشعر بأنّ هذه السقالات موجودة منذ أكثر من سنة، ذلك أنه قبل أشهرٍ مضت، كانت تسير في هذا الشارع عائدةً من دعوة عشاء من إحدى صديقاتها في بداية الليل، وقد مرّت تحت هذه السقالات، لتجد شخصاً غريباً يقف تحت عامود الإنارة.
كان طويلاً ويرتدي بذلة رسمية، وكان يبتسم مظهراً صفّ أسنانٍ صغيرة. كان فاتناً. وكانت عيناه الغائرتان اللتان تتخفيان في ظلال تجويفيهما تظهران بريقاً ساطعاً، جعلها، ودون أنْ تشعر، ترد بابتسامة رحبة بها شيء من الخجل. وبسرعة، حين اقتربت منه في طريقها، وهمّ في محادثتها، غطّت وجهها بالوجوم ناظرةً للأسفل، ومسرعةً في خطاها حتى تعدّته، متجهةً لمبنى منزلها.
في تلك الليلة لم تنم. كانت وقتها تكره نفسها، وتجلد نفسها دون توقف. كانت قد تذكّرت وقت اقترابها من ذلك الغريب الذي كان يغويها بابتسامته، أغنية فرانك سيناترا السعيدة التي كانت تعشقها فيما مضى، والتي أصبحت فيما بعد ذات معنى حزين لا يُحتمل.
لم تتذكر كلمات الأغنية، ولم تشتغل في عقلها، لكن مجرّد الموقف ذاته، وعناصره، جعلوها تتذكّر معناها الذي تحاول دائماً تناسيه. وفي تلك الليلة، وبين شراشفها السوداء، وأرق ليلة لا يرغب بالمغادرة، تذكّرت كلام والدها، والذي قال لها ذات مرة، بأن “الأغنية لا تصل لنا بالأذن، هي تنبع من دواخلنا”.
لكن لماذا أخرج فرويد اسطوانة “غريبان في الليل” هذا الصباح بالذات، وجعلها تصدح في عقلها؟
مرت هالة، يوم أمس، بمكتبة قريبة من منزلها تقع على بعد ثلاثة شوارع من منزلها. كانت الدنيا في بداية المساء، وكان الجو ماطراً، وشعرت هالة حينها فجأة بتلك الحاجة للتريض. تركت مكتبها المبعثر بالكتب والأوراق والأقلام الفسفورية، وارتدت معطفها الأبيض ونزلت في المطر.
لم تصطحب معها مظلة، ولم تكن لتهتم بما سيفعله المطر بشعرها، أو بجسمها إذا مرض. كانت فقط تريد أن تشعر بشيء. كانت فرحة حينها؛ برؤيتها للقطرات التي تتساقط على بشرتها التي تتجه للسماء، وفمها فاغر متذوقة بلسانها طعمه لأول مرة منذ مجيئها للولايات. كان طعمه مختلفاً عن وطنها، كما هي رائحته، إلا أنهما كانا يشعرانها بشيء من النشوة، وهي تستمع لقرقعة المطر على الأسفلت، والرصيف، وأسقف السيارات. كانت تشعر بالمطر بكلّ حواسها، كأنها عادت لطفولتها من جديد، وتحسّ بذلك الشعور المبهم لأول مرة، والذي يخبرها بأنها حية.

وكانت سعيدة بذلك.

وفي غمرة ذلك الفرح، وكأنّ الحظ حينها كان يجود بها، وجدت شيئاً من طفولتها. كانت تسير طربة على الرصيف الفارغ، والعابرون في سياراتهم ينظرون لها بشيء من الاستغراب والشفقة. لم يكن ليهمها ذلك، أو ليوقفها عن السير. لم يكن ليوقفها حينها إلا واجهة مكتبة لم تكن تعرف بوجودها البتة، ودخلتها دون تردد.
كان الجرس المعلق بالباب ينبئ بوجومٍ البائعَ الهرم بزبونة أخرى، والذي لم يكن سعيدًا لرؤيتها مبللة بالماء. فَهِمَتْ هالة نظرته، لذا قالت، وكطفلة مخطئة، “آسفة”، بكل ذلك التورّد الذي لا تزال تحتفظ به، والذي أضفى بياض معطفها حدّةً من الوضوح والجمال. هزّ رأسه بتذمر، وتركها تجول دون أنْ يحيد بنظرة الترقب والتذمر عنها. كان اسمها مكتبة “الكتب السعيدة”، وهي مختصة ببيع الكتب القديمة، وكانت هالة تجول في الممرات الضيقة المرصفة بكتب بالية وهي تشد معطفها حول جسمها، حتى لا يسقط البلل على تلك الكتب. ثم، مع إلتهائها بقراءة العناوين، بدأت تنسى نفسها، وبدأ المعطف رويداً بالتحرر. لم تكن تبحث عن عنوان محدد، كانت فقط تبحث، وكانت تجد عناوين مألوفة، سواء قرأتها أو سمعت عنها، وكانت منتشية بالفرح. كانت كلما تغلغلت في المكتبة، وجدتْ كتباً بطبعات أقدم، لتتوقف مدهوشةً عند كتاب غلافه رمادي على طرفه زخرفة شبيه بقوس قزح، كانت تبحث عنه منذ فترة طويلة، والذي فقدت الأمل في وجوده مرة أخرى، وحينها فقط، وفي غمرة ذلك الفرح، شعرت بمعنى السرنديبية الحقيقي؛ أنْ يجد المرء شيئاً ثميناً وبالصدفة البحتة.
كان الكتاب هو “الحارس في حقل الشوفان”، وكانت طبعته قديمة، مثل الطبعة التي جلبها لها والدها في نهاية الثمانينيات عندما قدم من دورة تدريبية في الولايات المتحدة متعلقة بعمله. كان عمرها حينها في السابعة عشرة، كعمر بطل الرواية هولدن. كانت تغيظها الزخرفة الشبيهة بقوس القزح التي رُسِمت على الطرف العلوي الأيسر للكتاب؛ ذلك أن ألوانها لم تكن متناسقة مع قوس القزح، وكانت ترغب بتلوين الزخرفة باللون الأسود حتى تتخلص من شعورها بالبغض، ولكن لأنها هدية من والدها، آثرت ترك الفكرة. وعندما توفي أبوها، أرادت جمع كل الهدايا التي اشتراها لها في صناديق تحتفظ بها تحت سريرها، وقد وجدت جميعها، إلا هذا الكتاب، إذ أنه ضاع، ككل الأشياء التي يلتهمها النسيان.
وفي هذا اليوم الماطر في المكتبة، كان هنالك عَقَدان مفقودان قد وُجِدا.
كانت تشعر بالندم حينما كانت تقرأه؛ فقد كانت الرواية مليئة بتلك الكلمات البذيئة التي كانت تثيرها وتشمئز منها في آن، وكانت تعلم لو أنّ والدها كان يعلم بتلك البذاءة عندما سأل البائع عن كتب تناسب المراهقين، لم تجرأ على شرائها البتة. وكانت تشعر بندم مضاعف حينما علمت بضياعه؛ ذلك أنّ مع هذا الكتاب، عاشت اللحظة الوحيدة التي رأت أباها في أصدق حالته.
كان ذلك في إحدى جلسات العزلة المقدسة مع والدها. وكانت منهمكة في قراءة الرواية، تضحك بصوت مكتوم من سخرية هولدن اللاذعة على زميله أوكلي الذي به شيء من الثخانة، حينما بدأت تصدح أغنية سيناترا “مثل أغنية حزينة” في الغرفة.
“عادةً في الصباح أكون مغموراً بشعور حلو بالانتماء،
وكل شيء جميل لأنْ يُرى،
حتى حين تمطر، أصوات الجنّة التي تغنّي،
هي موسيقى فرحة بالنسبة لي،
أحياناً أشعر بأني مثل أغنية حزينة،
كأني وحيد بدونك”
وعند نهاية ذلك الشطر، سمعت أحدهم يبكي بصوت مكلوم. أدارت رأسها نحو مصدر الصوت باستغراب، وذيل الحصان في نهاية رأسها يتدلّى حائراً. كان أبوها يجلس على مقعده المعتاد بيجامته العربية البيضاء، يملأ وجهه بيده اليمنى، بينما اليسرى تطبق على نظارته.
“بابا؟”
كان سيناترا يكمل بصوته الهادئ الرخيم شجونه غير مبالياً.
“أعلم بأن الحياة تستمر بالمضي على نحو تام،
وكل شيء بالضبط كما يجب أن يكون،
لكن هنالك أوقاتا حين يشعر قلبي بشيء من الإنفطار،
وأن أي مكان آخر هو ما أرغب أن أكون فيه،
كان أبوها يزيد من وتيرة بكائه، مرتفعاً صوته رويداً كأنه يتحرر من الحواجز التي تقيده شيئاً فشيئاً. وهالة، دون أنْ تفهم ما يجري، كانت تقف حائرة، والصمت يطبق فمها.
“آه، وفي وقت الليل، أعلم بأن ذلك هو الوقت المناسب،
لأن أحضنك بشدة، وأقول بأني أحبك جداً،
لأن يكون لدي شخص يهتم معي، شخص يمكنني أن أتشارك معه،
ولذلك أريدك أن تعلمي،
أحياناً أشعر بأني مثل أغنية حزينة،
كأني وحيد بدونك، وحيد بدونك”
كان أبوها مع تكرار سيناترا لعبارته الأخيرة، قد انخرط مجهشاً في بكاء هستيري. وهالة الحائرة، لا تعرف ما يجب فعله. كانت تود البكاء، حقيقةً كانت ترغب بأن تشاركه بذلك، لكن لم يكن هنالك أي حزنٍ في جسدها، فتّشت عنه جيداً، ولم تجده. لم تعرف الحزن جيداً حينها، ولذلك، وقفت تنظر إليه بشيء من البلادة لبرهة من الوقت، حتى انتهى من نوبة البكاء.

“بابا، ماذا بك؟”
لم يجبها، فقط ارتدى نظارته، والتفت للمنضدة بجانبه ليأخذ كتابه الذي كان يقرأه وينشغل به، وكأن شيئاً لم يكن. لم يقم حتى بمسح الدمع الذي كان يترقرق أسفل مقلتيه، عند تلك التجاعيد التي دائماً ما تخافها. حينها فقط، كرهت تلك الأغنية. كرهتها لأنها حزينة، وكرهتها لأنها أبكت أباها.
وبعدها بأيام قليلة سمعتْ أغنية “غريبان في الليل”، ووقعتْ في غرامها لحظتها.
كانت هالة تجلس على مقعد طاولة الطعام تستند بوجهها على يديها المشبوكتين، تتأمل الشارع الهادئ، منتظرة القهوة لأن تبرد قليلاً. كان الشارع خالٍ من الحركة. وكان مطر الليلة الماضية يملأ التجوفات في الإسفلت والرصيف. كانت تنظر لتلك المسطحات المائية التي تعكس سيارات ومباني وسماء رمادية، بشيء من الابتسام. كانت تتخيّل، بشيء من الطفولية، أنّ ذلك الإنعكاس ما هو إلا بوابة لعالم آخر موازٍ. عالم موجود في الأسفل. وكانت، بشقاوة عقل طفلة، تتسلّى ريثما تكون القهوة مناسبة للشرب. كانت ترى بأن المجاز والبرهان يتعايشان معاً في تلك اللحظة، دون أي رغبة في الصدام. وعبر ذلك الإنعكاس، بدأت تلمح انعكاس وجهها الأبيض في تلك الرمادية.
كانت قد سهت قليلاً وهي تنظر لانعكاس وجهها على زجاج النافذة. كانت، كأي امرأة جميلة، لا تستطيع مقاومة تأمل جمالها متى ما لاح في انعكاس زجاج أو مرايا عابرة. كان النور الرمادي الذي يملأ الشارع، والسماء الداكنة، تلونان انعكاس وجهها ببياضٍ شاحب. بياض، يخالف ما كانت تسميه أمها، والتي لا تتحدث عنها كثيراً، ببياض “سنووايت”، “بياض الثلج”. بدأت ترتشف قهوتها، بكل تلك المرارة التي كانت تتلاعب بلسانها، شاعرة بتلك الأبواب التي بدأت تُفتَح في داخل أروقة عقلها، وهي تتأمل وجهها الآخر، وقد لاحت عليه ابتسامة. وحينها فقط، وبشيء أشبه بالإفاقة، تذكرت ما جعل فرويد يشغّل تلك الأغنية التي نستها.
في المساء، عند عودتها لمنزلها من المكتبة، تجاوزت مكتبها المبعثر بالدراسة، وراحت لغرفة المعيشة تلتهم كتابها القديم الجديد. كانت تنهال عليها صوراً مبعثرة من ذاكرتها المتخيلة. وكانت سعيدة بذلك. إلا أنّ السعادة، بالنسبة لها، قطار نادر المجيء لمحطتها، وإذا جاء وحلّ فيها، فإنه لا يتوقف إلا عندما يرتطم بحاجز ويتحطّم؛ فعندما وصلت لمنتصف الرواية، ورؤيتها لهشاشة لامبالاة هولدن التي تخفي خلفها ذلك الألم، حلّ بها ذلك الشعور الحزين الذي يجثم على صدر المرء مع الوحدة والهدوء والليل.
كانت “الحارس في حقل الشوفان” هي الحاجز الذي حطّم شعورها الآني بالسعادة. كانت قد بدأت تستكشف الرواية مرة أخرى، وكأنها تقرأها من جديد؛ رواية تُروى على لسان هولدن كولفيلد، المراهق المرهف الذي فقد أخاه، والذي يقف على حافة البراءة والنضج، الصدق والزيف، الطهارة والرغبة. وكان في موقعه المعقّد ذاك، يتذبذب بين تلك العوالم، دون القدرة على العيش في إحداها أبداً.
كانت مع تغلغلها في الرواية، ورؤيتها لتصادم هولدن مع محيطه، وحساسيته، والألم الذي يشعر به مع تفاعله مع أي شيء، تشعر بشيء من الألفة الجاثمة؛ لكي يحمي هولدن نفسه، ويهرب من ذلك العذاب، والألم الذي لا تكف الحياة عن بعثرته في صدره، قرّر أن يغلق مناطق الشعور لديه، ويُسلّم نفسه للخدر.
كانت الرواية، وكل المعاني التي تحيل إليها، المفتاح الذي فتح صندوق الباندورا القابع بداخلها، وأطلق كل الآلام التي بقيتْ حبيسة القاع لسنين طويلة؛ كانت قد بدأت تتذكر مشاهد من طفولتها ومراهقتها لم تعتقد بأنها موجودة أبداً، وكانت ذكرياتها المنسية مع أبيها قد بُعِثت للحياة مرة أخرى، والغريب، الذي كرهته بشدة فيما بعد، كان الوحيد الحاضر وبقوة، مع ذكر هولدن لخيباته العاطفية.
كانت تؤمن بأن هنالك نوعين من الحب يعايشهما المرء في حياته؛ الحب الأول والحب الحقيقي. الأول هو الذي يخدش لب القلب، والأخير يسكنه. ولم تبح بهذا لأحدٍ سوى لذلك الغريب، والذي أجاب بتلك اليقينية:
– أبداً. الحب واحد، ويأتي مرةً في قلب الإنسان؛ القلب مثل الزهرة، يتفتّح في فترة قصيرة من حياته، ثمّ يذبل ويموت. إذا لم يجد قلب الإنسان الحب في ذروة شبابه، أعني في العشرينيات من عمره، فإنه لن يجده أبداً. ما يحدث بعدها علاقات عابرة ونزوات، يعتقد المرء أحياناً بأنها حب وهي ليست كذلك.
كانت حانقة حينها. كانت في الإثنين والثلاثين سنة، عازبة، وغريبها، وهو يقف أمامها كآمر محطة، قد أشار، بكل بلادة، برحيل القطار عنها، ووجوب انتظارها على المقاعد حتى نهاية الأبدية.
ومع هولدن كولفيلد، تفتّقت الذكريات، والتحمت العلامات بالعلامات.
كانت هالة وهي تضع يدها على وجنتها، تتأمل جمال وجهها في انعكاس الزجاج، وقد لحظتْ لأول مرة حدّة وضوح تلك الخطوط أسفل مقلتيها. كانت حادةً كصدعٍ في الزجاج، وشعرت بعودة ارتفاع صوت أغنية ” غريبان في الليل” في أروقة عقلها. الآن، في خضم تلك الأغنية، تتذكر ما قاله لها والدها ذات مرة، عندما تذمّرت من تكرار استماعها لأغاني سيناترا الحزينة في “العزلة المقدسة”.
– “الحياة، يا بنيتي، ليست سوى أغنية حزينة، تكرّر نفسها بأشكالٍ مختلفة ودون توقف”.
وتتذكر الآن بأنها كانت رافضة لما قاله لها والدها، وكانت تحاول في ذاتها أن تُثبت عكسه، وتقول له “أنت مخطئ، بابا”، متشبّثةً بأغنيتها المفضلة. هي تعلم الآن بأنّ فرويد يرقص فرحاً في عقلها، يمد لسانه هازئاً، ثم يكمل رقصه. لم تعره اهتماماً، كانت تتأمل ذلك الصدع، وقد شعرتْ بقبضة أليمة على قلبها. ولأول مرة، منذ سنوات طويلة، شعرتْ بقشعريرة تسري في سائر جسدها، واندفاع قوي لمشاعر مخلوطة نحو وجهها الذي بدأت أماراته تختلج، وعلمتْ في غمرة ذلك، وقد حسبتْ أنها نسيتْ ذلك الإحساس أبداً، أنها على وشك البكاء، لتنخرط، في ذلك النور الرمادي، والسكون الذي يلتفّ به، في نحيب طويل.

_______

*مجلة نزوى /العدد 86

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *