السؤال الوجوديّ الوحيد: التّنويع رقم 1

خاص- ثقافات

*عمرو أديب

ما زال الوقتُ هو العدوَّ الأوّل، ما زال – منذ بدء الوعيِ الحيويّ – يتبخترُ على تعبِ البشريّةِ و قلقِها و حنينِها.
( تتساءلُ: كيف تجرّأ جان بول سارتر و أعلنَ للعالم فلسفةَ الحريّة؟ كيف صرّح – بعد أن صرفَ النادلَ – و الثّقةُ تملؤُهُ: ” يوجدُ الإنسانُ أولًا و من ثمّ يختار ما يريدُ أن يكونه. نحن أحرار. “..؟ كيف آمن بالقشرة المخيّة البشريّة إلى هذه الدرجة؟
في نفسِ الوقتِ – و بتلقيمٍ من قلقك الوجوديّ – تتساءلُ كيف لم يختنق كلود ليڤي شتراوس قبل أن يهمِسَ في أذنِ الإنسانيّة: ” إننا محكومون بالبنية “.. كيف استطاع أن يصدح بانتهاء التاريخ و وفاة الوهم البشري.. هكذا.. بإصرارٍ يقينيٍّ و دون أيّةِ شفقة؟ )
الوقتُ يمضي،
سارتر يصيحُ بك: nous sommes libres.. و الوقتُ يمضي. تتأمّلُ شُبّاك غرفتك: لو ولدتَ قبل مئة عامٍ لكان بإمكانك التحديقُ في البحر مباشرةً من هنا. لكنّ البحر الآن بعيدٌ جدًّا عن عينيك، فالأبنية الكثيرة تحجبُ أيّة إطلالةٍ لزرقته.
حرٌّ؟ حسنًا.. لكن متى؟؟ لو كنتَ ستعيشُ ألف سنةٍ لربما فاض بك الوقتُ و ارتكبتَ كلّ الأشياء و كنت كل الأشخاص. لكنّ عمرك قصيرٌ و ” البنية تحكمك “.
– البنيةُ وهمٌ مصدرُ قوّته إيمانك بحقيقته، تمرّد عليه و انسلخ عنه. كن حرًّا.
الوقتُ يمضي،
شتراوس يضحكُ من جملة سارتر الأخيرة و يخاطبك ساخرًا:
– تعلمُ أنّك لن تفعلَ شيئًا من ذلك.
– أعلم لكن ما الحلّ؟
– تعلم أنه لا يوجد حل.
– أعلم لكن ما الحلّ؟
– تعلم أنه لا يوجد حل.
و هكذا.. تستمر بالإلحاح عليه بسؤالك الأزليّ حتى تُغميك عدميّة جوابه الثابت: لا يوجد حلّ.
الوقتُ يمضي،
” ما الحلّ؟ ” لعلّه السّؤالُ الأولُ الذي أفرزه مُضيّ الوقت، السّؤالُ الذي خطر لآدم و لحوّاء بنفس اللحظة بعد مرور أول ساعةٍ لهما على الأرض: ” أوه، و الآن.. ما الحلّ؟ ” فبدأا ينجزان بعض الأعمال المؤقتة بانتظار الحل. تلك الأعمال تدرّجت من فكرة لزوم البحث عن شيءٍ ما يُسكتُ الجوع المباغتَ إلى الهاتف الذكيّ الذي لا تستطيع الاستغناء عنه اليوم.
عبر كل تلك السنوات، كان آدم ينجز أعمالًا مؤقتةً بانتظار الحل، و كان الوقتُ يمضي، ثقيلًا حينًا.. خفيفًا حينًا.. لكنه يمضي.. بثباتٍ غير عابئٍ بأيّة فكرة أخرى.
” الناس أحرارٌ تُقلِقهم مسؤوليّاتهم المترتبة على خياراتهم “.. حسنًا مسيو جان، هلّا أخبرتني ماذا كان بوسع آدم أن يختار؟
– آدم تجسيدٌ لفكرة الماهية المُسبَقة.. أنت لست آدم، أنت حرّ.
شتراوس يضحك بشراسة:
– أنت فعلًا لست آدم، أنت أنت، أنت بكل جيانتك و عصبوناتك و غددك و سيرتك الأنثروبولوجية.. أنت.
و الوقتُ.. يمضي.
لديك فترةُ حياةٍ محدودةٌ، يمرّ فيها الوقتُ دون أن يعير وعيك أدنى اهتمام. في الكثير من المواضع عليك أن تختار مرةً واحدةً و إلى الأبد.. و مركَبةُ الوقتِ تمضي بك ببرودٍ لا يكترثُ لرغبتك المسكينةِ بالعودة أو لندمك، ف.. ما الحل؟
غير أنّك ستتوقّفُ – بينما الوقتُ بالطبع يمضي – كثيرًا و ستطرح على وجودك أسئلةً عديدةً و ستتوصل لنتائج مرعبة؛
لماذا أحببتَ الصّبيّةَ التي رأيتَ حقيبتها تقع على الرّصيف حين كنتَ تحدّق من نافذة الحافلة، و لم تحبّ التي كانت جالسةً في نفس الحافلة و عيناها مُثبّتتان على هاتفها؟ لماذا اخترتَ أن تسافر و تركتَ البلاد بأهلها و ذكرياتك؟ لماذا اعتمدتَ هذه المهنة بالذات و لم تفكّر بأن تكون أستاذًا للكيمياء في جامعةٍ ما؟
هنالك عددٌ لا يُحصى من الحيواتِ التي كان يمكن أن تعيشها.. ستشتاقها كلّها، و عددٌ مشابهٌ من الأشخاص الذين كان يمكن أن تكونهم.. ستحنّ إليهم واحدًا واحدًا و ستندم أشدّ الندم لأنك لم تكن كلَّ واحدٍ منهم على حدة.
و لكنّ الوقتَ يمضي.. إلى الأمام دومًا، بسرعةٍ مذهلةٍ و بحيادٍ أكثر إذهالًا، و العودةُ و لو لمرةٍ واحدةٍ مستحيلةٌ تمامًا، فَ.. ما الحلّ؟

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *