رسائل الحب: “الكُتّاب عراة إلا من أرواحهم”

*محمد الخضيري

يتعرّى الكتاب في رسائلهم، كما كتب كافكا.  ويبكون ويركعون ويخونون، ويبدون الشبق والحاجة إلى جسد الحبيب. في هذه المقاطع من رسائل كتاب نستكشف الرسائل التي كانت مرآة لأرواح كُتّابٍ عبروا القرن العشرين.

 

الرسائل مرآة الروح.  تكشف ما لا يكشفه الشفاهي ولا لغة الجسد. تكتب أحيانا بهدوء، وتختار الكلمات بعناية وأخرى بتسرع. في اليأس أو الملل، أو الرغبة وبحبر الخيانة. رسائل الحب، وخصوصا رسائل الكُتّاب، نساء ورجالا، تكشف الكثير عنهم. عن انبهارهم باحتمال أن يوجدوا إلى جانب الآخر المشتهى، عن شغفهم بالتفاصيل حين تتجاوز الأشياءُ دلالاتها، وتفتح أفقا جديدا لسيمياء الوجوه، والشجر والبنايات، ليس بوصف السيمياء مدرسة بحثية تدرس الإشارات والأنظمة اللغوية والعلامات فقط، بل في المعنى القديم في اللغة العربية للكلمة: السيمياء سحر. أما الرسائل فتمائمه.

أحبيني ولو قليلاً !

في رسائل  الحب  تصير الأشياء الصغيرة  ذات أهمية بالغة، تطفو وتكبر لتحجب العالم.  ها هو رومان غاري، الكاتب الفرنسي، يكتب إلى محبوبته كريستيل في العام  1937.
كريستيل، أيتها البعيدة، حصانك جذاب وسيظل  دوما على مكتبي، قرب صورتك.

 و “Gösta Berling سيظل الكتاب الذي أضعه قرب سريري.  وعيناك هما الأكثر زرقة على هذه الأرض وشعرك أشقر من شعر غوستا. لا يمكن أن أنساها، يا كريستيل الصغيرة. لا يمكن أن أنسى أي شيء.

 أحبيني، هل تقبلين؟ ولو بعض الشيء.  على أية حال، اكذبي علي، أخبريني أنك تحبينني، حتى ولو لم يكن الأمر حقيقيا.  إنها الواحدة صباحا. لقد سبحت لتوي.  دخلت إلى الماء هناك حيث… تعرفين هناك.  سبحت بعيدا. بعيدا جدا. وخفت.  فكرت فيك، كل الوقت.”

هناك حيث…” علامة الحذف تقول كل شيء.  بياض الرسالة يقول كل شيء. “هناك…” يصب النهر الذي قد لا يتكرر.

هذا الاستجداء للحب كأنه خرج من زمن المراهقة الأبدي. ذلك  الذي يعبر عنه جيدا بول إيلوار في رسالة ترجع إلى العام 1930 إلى زوجته غالا، التي التقاها في سن 17 . نجده المراهق نفسه وهو يتوجس من تركها له لترتبط بسلفادور دالي.

على الرغم من أن الشاعر شارك في الحرب العالمية الأولى، واخترق عوالم أدبية جديدة، كالدادائية والسوريالية، وندد بالاستعمار والتحق بالحزب الشيوعي وعانى السل، لكن هذه الأمور كلها لا تضاهي ضراوة الحب المهزوم. يعترف لها في واحدة من رسائله:

 “ كل شيء متجهم، كل شيء فظيع.  فكرة  الموت  تختلط أكثر فأكثر في ذهني بالحب.  أظنك مفقودة.  لماذا أنت بعيدة جدا؟  منذ 17 عاما وأنا أحبك وما زلت أبلغ 17 عاما.  لم أصنع بعد أي شيء ولا أرى مستقبلا كما كنتُ في  سن 17.  فكرة الشقاء ولدت اليوم مع حبي لك، دون خلاص.  كما في السابق لا أعرف أن أحصي كل ما علي فعله للحفاظ عليك، لكي تكوني لي، لتحبيني كليا”.

إنه الخوف من الفقدان. لكن هناك أيضا اكتشافات، والوداعة،  وحلم الشباب الذي لم يشتد عوده. كما الحال مع  راينر ماريا ريلكه وهو  يكتب لمحبوبته لو أندرياس سالومي (التي سيهيم بحبها نيتشه، وفرويد أيضا). إنه يبلغ بالكاد 22 عاما في العام  1879، ومولع بهذه الصبية التي ستصير ملهمته، ويغمرها بالكثير من الرسائل:

   “يوما ما، بعد سنوات، ستفهمين ما تمثلينه لي.  ماذا تمثل عين الماء في الجبل للعطشان.  إن كان العطشان طيبا وممتنا، فلن يشرب الماء الشفاف ويستمد منه الطاقة والحيوية ليرحل تحت شمس أخرى، بل برعاية عين الماء، وقريبا منها ليسمع شدوها، سيبني كوخا (…)   لم أرك مرة دون أن تراودني الرغبة في الصلاة لك.  لم أسمعك دون الرغبة في الإيمان بك.  لم أنتظر دون الرغبة في التألم من أجلك.  لم أرغب فيك يوما دون أن أحس أنني مخول بالركوع أمامك.”

دعني أرتشف جسدك

الإيمان، الذي يعبر عنه ريلكه، يتحول من المعنى الروحي إلى الدنيوي في رسائل كتاب إلى آخرين. إنها الرغبة في جسد الآخر المفتاح إلى الحب. كثيرة هي الرسائل التي شغلها الشغف به. وعبر فيها الكُتّاب عن حبهم وشوقهم  الجارف إلى الآخر من خلال الشبق.  فيقال الحب بالجسد لتفصح عنه الكلمات. ولعل أكثر هذه الرسائل انفجارا، وتعبيرا صريحا عن الحب الجسدي، تلك التي تبادلها هنري ميلر وأناييس نين.

ها هي أناييس نين تكتب لهنري ميلر بعد رحيله عن باريس لأيام، في العام 1932:

 “هنري، هنري، هنري، أحبك، أحبك، أحبك. كنت غيورة من جان رونو  الذي امتلكك لوحده في الأيام الأخيرة، وينام في كليشي.  هذا المساء، كل شيء يؤلم، ليس فقط الفراق، لكن هذه الرغبة في جسدك وروحك، هذه الرغبة التي تكبر كل يوم، وتهزني أكثر فأكثر. لا أعرف ما الذي أكتبه.  أحس بأنني أضمك إلي، كما لم أضمك من قبل، بشدة أكبر، بحزن أكبر، ويأس أكبر، وعشق أكبر. أنا راكعة أمامك. أهبك نفسي، وهذا لا يكفي لا يكفي. أعشقك“.

وها هو يجيبها في واحدة من رسائله الثملة بالرغبة، ” حين أفكر في الطريقة التي تلتصقين فيها بي”. ثم تصير هذه النار، في رسالة أخرى يكتبها ميلر، جمرة نائمة تحت العشب المحترق، في هذا العلاقة بين الكاتبين العشيقين، اللذين يرعيان سرهما بعيدا عن قرينيهما: ” ها قد عدت والعشق يحترق ببطء داخلي، كبخار النبيذ المغلي. لا برغبة الجسد، لكن بجوع إليك، جوع نهم. في الجرائد، أقرأ مقالات عن جرائم القتل والانتحارات وأفهمها جيدا. أحسبني قاتلا، وانتحاريا.  أحس أنه من العار ألا أفعل شيئا، وأقضي الوقت، وأتعامل مع الأمر بفلسفة، وأن أكون متعقلا. أين هو الزمن الذي كان يتصارع فيه الرجال، ويقتلون، ويموتون من أجل قفاز، أو نظرة؟”

الرغبة الشبقية تذهب إلى الحلم أيضا، فتخطها الرسالة. هكذا يصير الحلم امتدادا لواقع يعرفه الواحد جيدا. كما هذه الرسالة من إيلوار إلى غالا :

حبي العزيز، حبي الوديع: 

 ما زلت مضطجعا اليوم.  لقد حلمت بحلم رائع. واحد من الأحلام الصباحية التي تترك لك الأحاسيس الجسدية التي تتخللها كل حِصّةِ الرغبة بعد الاستيقاظ – والرغبة التي نجرجرها، بعدها، يقظين، تشبه كثيرا  لذة الحلم.  كنت مستلقيا على سرير (…) وجئت لتنامي إلى جانبي، مغرمة، وقبَّلْتِ شفتي ببطء، تحت فستانك داعبت نهديك الرشيقين والحيّين للغاية ببطء  … “.

وهذا الحلم ذاته ما سيلهم غيوم أبولينير في رسائله إلى حبيبته لو.  فها هو في رسالة تعود إلى العام 1915  يرسم لها طائرة هنا، و”يهذي” في مقطع ويكتب قصيدة طويلة، هناك :

  “ أتأمل غيابك وصمتك/ لكنك ترتبطين بي بألف رابط سري/ مخيالي الملكي يذكي ملايين نجومه/  إلى ألوهتك اللماعة بالمتع/  لا !  لا أرغب في أن أغلق خلال التأمل/  الأبواب التسعة للحواس

في عز الحرب العالمية الأولى كتب أبولينير رسالته… وفي نهاية  الحرب العالمية الثانية  نلتقي مارغريت دوراس وهي تكتب لزوجها، روبير أونتلم، الذي كان سجينا في معتقل نازي، حين تكتشف أنه ما يزال حيا:

روبير،

أنت حي. أنت حي.  لا أعرف  من أين أعود أنا أيضا. كم من الوقت قضيتُه في هذا الجحيم؟  ولن أعرف أبدا من أين تعود (…)  كن حذرا.  لا يجب أن تأكل كثيرا. ولا تشرب الكحول، ولا قطرة. الجو جميل. يعم السلام. وأنت حي.  ما أجمل هذا اليوم يا روبير (…) ما أفتخر به هو أنني كنت سأموت بموتك.  لن تعلم أبدا. أبدا.  حينما تصلون اتصل بي على الهاتف (قبل أن تصل). (…) أعتقد أنني لم أعد أقوى على الانتظار…”

وفي المسافات أيضاً..

كثيرة  هي العلاقات  في الأدب الغربي  التي نشأت  في غفلة من الآخرين في أماكن مختلفة،  وتلتها المسافات، أو  الفراق. سيمون دي بوفوار، الشهيرة بعلاقتها مع سارتر، اشتهرت بعلاقاتها المتعددة مع الرجال والنساء على حد سواء. ولربما من أكثر علاقاتها  قوة وفورة في كتابة الرسائل، تلك التي عاشتها مع الروائي الأميركي  نيلسون ألغرين (صدرت في كتاب “رسائل إلى نيلسون ألغرين”):

انطلق التاكسي، ومر أمام متجر متعهد الجنازات راغو، أمام مطعم البيتزا حيث كنت سعيدة للغاية باحتساء نبيذ (كيانتي) والابتسام لك أمام العديد من المتاجر والشوارع الغريبة التي كانت ما تزال في شيكاغو. وصلت إلى المطار قبل الوقت، جلست وأغمضت عيني.  لحظة بعدها، جاء شخص مع علبة وقال لي: ( ميس دو بوفوار، يبدو أن لديك أصدقاء هنا، هذه من أجلك). رأيت الأزهار البيضاء الفواحة الجميلة، ووضعتها في قلبي. لم أبك. اتصلت بك.  صوتك المحبوب، والقريب جدا، البعيد جدا.  حين انتهى الاتصال انكسر شيء ما بداخلي، وسيظل أخرس، باردا وميتا، إلى اليوم المبارك الذي ستقبلني فيه مجددا. من الصعب الكتابة لأنه لا يمكنني أن أمنع نفسي من البكاء. أحبك“.

لكنها سيمون دو بوفوار نفسها هي التي ستخبره  بالتزامها وخوضها العلاقة مع سارتر إلى النهاية:  “إن استطعت التخلي عن حياتي مع سارتر، سأكون مخلوقة قذرة،  وخائنة، وأنانية.”

لكن هل كتابة الرسائل سهلة إلى هذا الحد؟ هناك فرانز كافكا، الذي أحب كثيرات لكنه خاف دوما من العبور إلى الضفة الأخرى وجوابه الغريب. رغم أنه حرر آلاف الرسائل، (نشرت في كتب)، إلى خطيباته المختلفات، فها هو يكتب إلى خطيبته ميلينا، بأنه يكره كتابة الرسائل، التي تولد منها  أشباح!

السهولة الكبيرة لتبادل الرسائل أدخلت إلى العالم –  حسب رأي نظريٍّ صرف – انفصالاً مريعاً للأرواح: إنها تجارة مع الأشباح، ليس فقط مع المرسل إليه لكن مع شبحك أيضا، يكبر في اليد التي تكتب، في الرسالة التي تحررها، وبشكل أكبر في بقية الرسائل التي تليها، حيث تعزز الواحدة الأخرى ويمكن أن تستدعيها للشهادة (…)  أن تكتب رسالة معناه أن تتعرى أمام الأشباح. وتنتظر هي هذه اللحظة بجشع.  القبل المكتوبة لا تصل إلى وجهتها، الأشباح ترتوي منها في الطريق.  بفضل هذا الغداء الشهي، تتضاعف بشكل مذهل (…)   قصة الرسالة هذه حثتني على كتابة أخرى، والآن بما أن الأمر حدث، كيف لا أكتب إليك أنت أيضا، سيدتي ميلينا، وأنت أكثر شخص في العالم أحب مراسلته(..) لكنني لا أود في هذه الرسالة الحديث عن أي شيء غير الأشباح التي تحاصر طاولتي بشهوة.”

ولطرد أشباح الحب، يكفي العودة إلى الماء.  لنصغ إلى  رومان غاري، وهو يختم رسالته إلى كريستيل:  الجو حار جدا.  لا أستطيع النوم. سأركب قاربا إلى الأزرق الكبير وأقضي الليلة في البحر.”

 

(كل مقاطع الرسائل من ترجمة الكاتب عن الفرنسية)

 ____
*ضفة ثالثة

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *