رسائل قريبة من القلب



*د. حسن مدن

ماذا نفعل برسائل ليست لنا، وقعت في أيدينا بطريق الصدفة أو الخطأ؟ هل نملك الحق الأخلاقي في فتحها وقراءة محتوياتها، والاطلاع على خصوصيات أشخاص آخرين ليس من الجائز الاطلاع عليها، خاصة وإن المرء حين يكتب رسالة لشخصٍ آخر، تربطه به علاقة خاصة، ينطلق من القناعة أن لا أحداً سوى الشخص الموجهة له الرسالة سيقرأها أو يطلع عليها، لذا تأتي الرسائل تلقائية، عفوية، متحررة من القيود التي يضعها المرء أمام نفسه حين يخاطب جماعة، لا فرداً بعينه يعرفه حق المعرفة، أو هكذا يفترض.

هذه الفكرة تشكل محور التساؤلات التي ترد في قصة قصيرة للكاتبة نادين غورديمر، من جنوب أفريقيا والحائزة على نوبل للآداب عام 1991، حين يحدث لامرأة تشتري صندوقاً لحفظ الأدوات والوثائق من محل لبيع الأشياء المستعملة، أن تجد، ولدهشتها، داخل الصندوق رزمةً من الرسائل مربوطة بشريطٍ واحد، وموجهة كلها إلى امرأة بعينها، فاحتارت ماذا تفعل بشأن هذه الرسائل، وهاتفت أصدقاءها تسأل نصيحتهم.
وبالطبع لم يكن من الممكن الأخذ بالنصيحة التي تقول: نعيدها إلى أصحابها، فالعجوز صاحب محل الخردة نفسه لا يعرف لمن يعود هذا الصندوق أصلاً، فيما قالت صديقة أخرى: أقترح أن تحرقيها! ماذا يمكنك أن تفعلي غير حرقها. لكن صديقاً آخر مغرماً بجمع الكتب نصح المرأة: «اقرئيها! بالطبع اقرئيها»!
وهذا ما فعلته المرأة بالضبط، التي قضت يوماً بكامله في قراءة ثلاثمائة وسبع رسائل هي مجموع ما في الرزمة من اوراق، لتفاجأ بذلك الدفق الهائل من العواطف والمشاعر والتفاصيل بين امرأة ورجل جمعها الذكاء والنباهة.. والحب بطبيعة الحال..!
ما قرأته المرأة في هذه الرسائل يُكذب ما تذهب إليه أغنية أجنبية راجت في الثمانينات تقول: «في الرسائل لا يقال كل شي»، نعم هناك فرق بين أن نسكب المشاعر في رسالة وبين أن تمتلئ العين وتقر برؤية من نكتب له، لكن لا وسيلة كالرسالة قادرة على حمل الشحنة العاطفية لإنسانٍ ما تجاه من يجب أو يقدر أو يحترم.
ولعل هذا قد يفسر، ولو جزئياً، ذلك القلق والتوتر الذي يصاب به كل من ينتظر رسالة يتوقع وصولها، وكيف تذهب به الظنون والأشواق مذهبها حين يتأخر وصول هذه الرسالة، المشابه لذلك القلق والتوتر الذي أصاب «كولونيل» غابرييل ماركيز في روايته «ليس لدى الكولونيل مَن يكاتبه» وهو في مسعاه اليومي إلى الميناء بانتظار قدوم السفينة التي تحمل البريد، وتأتي لكنها لا تحمل له رسالة. وحتى في عصر السفر السريع والاتصالات الهاتفية الميسرة ستظل الرسالة أكثر دفءًا وحميمية وقرباً للقلب والنفس.
مرةً نشرت إحدى المجلات العربية تحقيقاً جميلاً عن الرسائل تحت عنوان: «أدب الرسائل: تنهدات ورق الورد» . تضمَّن التحقيق وتحت عنوان فرعي: «عشاق من التاريخ» نماذج من رسائل وجهها مشاهير لزوجاتهم وحبيباتهم . وفي النصوص الكثير مما هو جميل ومعّبر وطريف وحميم .
لنقرأ مثلاً هذه الفقرة التي وردت في رسالة د . ه . لورانس إلى لوسي بورو عام 1910، يقول صاحبنا مخاطباً المرأة التي يحب: «أرجوك . لا تحبيني بهذا القدر . أخاف أن تقذفي بي إلى كل تلك القمم الشاهقات وأنا مبهور الأنفاس فأترنح وأسقط من شاهق» .
لا تقلّ جمالاً عن الرسائل المقدمة التي وضعها الكاتب سلام خياط واضع التحقيق المشار إليه، حيث يواجهنا بهذا السؤال: «ما الذي يذكره المرء وما الذي ينساه في أول رسالة أو آخر خطاب . الخط المزّوق والكتابة المتأنية . لون الورق وشفافيته، النسخ وإعادة النسخ، التمزيق وتكراره، التأنق في الكلمة، توثب القلب عند البدء والختام، ارتعاشة الأنامل، التعلق اللذيذ بانتظار الجواب».
اقرأوا أيضاً هذه الفقرة الجميلة لتجدوا أن كل ما فيها صحيح، ولتروا أنه ما من أحد منا نجا في وقت من الأوقات من مشاعر مشابهة كتلك التي يصفها هذا الكاتب: «الرسائل الشخصية لا تقرأ من عنوانها كما يقرأ الكتاب ولا من آخر سطورها كما تقرأ الصحيفة . تلك الرسائل سرها في النقطة وعلامة التعجب وإشارة الاستفهام، والمحو والحك والشطب والإيحاء واختلاجة الحروف عند التوقيع . بلاغة الرسائل الشخصية متأتية مما هو مكتوب بين السطور» .
الرسائل وعاء للتدفق الوجداني، وهناك جنس من الأدب ذاع طويلاً هو أدب الرسائل الذي يكاد ينقرض اليوم أمام أشكال التواصل الجديدة بين العشاق والمحبين والأصدقاء . فعوض الرسائل الطويلة، صار بوسع كلمتين أو ثلاث في رسالة على الهاتف النقال أن تؤدي الدور الذي أدته الرسائل سابقاً .
كما أن البريد الإلكتروني الذي يكاد يكون فورياً في إيصال الرسائل اليومي بين الناس، وشيئاً فشيئاً يتناقص دور ساعي البريد وصندوق البريد، فقد باتت شاشة الكمبيوتر الصغيرة في المنزل أو في المكتب هي نافذتنا الموصلة إلى معرفة ماذا قال لنا الناس الذين يشتاقون إلينا .
هل كفت «تنهدات ورق الورد» عن أن تكون؟ لعل التنهدات لم تكف . . كل ما في الأمر أنها اتخذت لنفسها شكلاً جديداً يناسب إيقاع العصر الراهن .
يحكى أن الكاتب المعروف أنطون تشيخوف، سافر إلى ألمانيا بناء على نصيحة الأطباء. وهناك سكن في مبنى قبالة مكتب البريد في إحدى المدن، ومن غرفته المطلة على المبنى، كان يلاحظ كيف أن الناس يأتون من مختلف الجهات حاملين أفكارهم المودعة في الرسائل، وكان تشيخوف يهتف من أعماقه: «هذا رائع»!.
حقا! لو جمعنا ما في رسائل الناس من مشاعر وأشواق وأشجان، من نجوى ومن شكوى، من فرح ومن حزن، ألن نحصل على كمية هائلة من التفاصيل تلخص دهشة تشيخوف ، وتتيح المقارنة بين أشكال تجلي المشاعر وصور التعبير عنها. لم يطل الامر بالنسبة لتشيخوف، فسرعان ما أسلم الروح في تلك المدينة، ولكنه لو عاش أكثر لربما كان أتحف العالم بنص مسرحي او قصصي من وحي هذا التأمل الشاعري، الميل والمهيب.
لا اظن ان كاتبا ارتقى دراميا بحكاية الرسائل كما فعل سعد الله ونوس في مسرحيته «راس المملوك جابر»، فالوزير البغدادي المتواطئ مع الاعداء المتربصين بالمدينة أقنع المملوك السجين بأنه لو حمل الرسالة الغادرة للغزاة القادمين والتي تكشف لهم أحوال التململ في بغداد وتقدم لهم مفاتيح الاسرار العسكرية لنال ما يريد من متع، فكان أن أمر بحلق شعر المملوك، وكتبت الرسالة على طريقة الوشم فوق جلدة راسه، وانتهى نص الرسالة بالأمر الرهيب: قطع راس المملوك جابر بعد قراءة الرسالة، لكي يدفن السر بموته فلا يعرف عنه احد.
بعد ان نما شعر راس المملوك مرة اخرى، انطلق الى حيث ارسل برسالته المدونة تحت شعر رأسه، ولتسقط المدينة في ايدي الغزاة، فيما كان عنق المملوك قد طار بمجرد الفراغ من قراءة الرسالة.
في زمن الخيانات : ما اجدر الكثيرين بتأمل حكاية الرسالة المسمومة هذه، والتأمل في مصير المملوك الخائن نفسه.
________
*(عُمان)

شاهد أيضاً

العتبات والفكر الهندسي في رواية “المهندس” للأردني سامر المجالي

(ثقافات) العتبات والفكر الهندسي في رواية «المهندس» للأردني سامر المجالي موسى أبو رياش   المتعة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *