يفقد الوسط الثقافي والفكري العالمي برحيل الناقد الفرنسي – البلغاريّ الأصل تزفيتان تودوروف (1939 – 2017)، إحدى القامات النقدية والفكرية العالية التي مارست تأثيراً كبيراً في النقد والنظرية وتاريخ أنظمة الفكر على مدار نصف قرن. وعلى رغم التحوّل الذي طرأ على مسيرة تودوروف العلمية والمعرفية، إذ هجر في بداية الثمانينات تصوراته البنيوية والشكلانية ليقرأ الأفكار والمضامين والعلاقات الإنسانية من منظور أقرب إلى دراسة تاريخ أنظمة الفكر، ظلّ تأثيره واضحاً في التيارات النقدية والنظرية المختلفة والمتعارضة. وذلك في فرنسا كما في أميركا ودول أخرى، بما فيها عالمنا العربي الذي احتضن تصورات تودوروف في التحليل السردي، ثم هلل لتحوله نحو قراءة علاقات الأنا والآخر، وأثر الكولونيالية والأفكار التوتاليتارية في تشكيل الذهنيات وطرق تفكير البشر في أنفسهم وفي الآخرين.
جاء تودوروف من بلغاريا إلى فرنسا عام 1963 ولم يكن قد بلغ حينها الرابعة والعشرين (من مواليد صوفيا عام 1939). وقد تعرف في أروقة السوربون (التي لم تكن تعترف بموضوع «النظرية الأدبية» بوصفه حقلاً من حقول دراسة الإنسانيات)، إلى جيرار جينيت الذي اقترح عليه أن يتابع دروس رولان بارت في مدرسة الدراسات العليا للعلوم الاجتماعية. وأهَّله قربه من بارت في منتصف الستينات أن يساهم في الكتابة لمجلة Communications الشهيرة. ومن بين مقالاته البارزة تلك (1964)، مقالة بعنوان «وصف الدلالة في الأدب»، درس فيها مستويات التحليل البنيوي المختلفة، مشدداً على أنّ الشكل في التحليل البنيوي يفوق من حيث الأهمية دراسة المحتوى.
ومن ثم أتبع تودوروف الشاب تلك المقالة بمقالة ثانية نشرها في المجلة نفسها عام 1966 بعنوان «أنماط السرد الأدبي». ونحن نقع في تلك المقالة على التأثيرات الأولى لعمل الشكلانيين الروس في مسيرة تودوروف النقدية. وهو يكرّر فيها بأنّ «وصف العمل الأدبي يهدف إلى التعرف إلى معنى عناصره الأدبية»، وأنّ «وظيفة الناقد هي تأويل هذه العناصر». لكنّ حجر الأساس في تفكير تودوروف في هذه المرحلة يتمثل في ربطه بين كشوفات الشكلانيين الروس، الذين تأمل عملهم في كتابه «نظرية الأدب: نصوص الشكلانيين الروس» (أصدره عام 1965)، وعمل اللساني السويسري فردينان دي سوسير، حيث يشير في مقالته المذكورة إلى أن المعنى ذو طبيعة «علائقية»، كما أن معنى عمل أدبي بعينه يشتقّ من علاقته بأعمال أدبية أخرى في التاريخ الأدبي. ويشير تودوروف، في ضربه للأمثلة، إلى أن معنى رواية فلوبير «مدام بوفاري» يتحدّد حين نقابلها بالميراث الرومانسي الذي سبقها، إذ لا طائل من البحث عن معنى نهائي للعمل الأدبي خارج هذا السياق من العلاقة بين النصوص.
كتب أساسية
في السنوات اللاحقة، أصدر تودوروف عدداً من الكتب الأساسية التي تتراوح عناوينها بين «مقدمة في الشعرية» و «شعرية النثر» و «نظريات الرمز» و «الرمزية والتأويل» وصولاً إلى كتابه المفصلي: «العجائبي: مقاربة بنيوية لنوع أدبي». كما أنه أسس عام 1970، بالاشتراك مع المنظّر البنيوي جيرار جينيت والناقدة النسوية هيلين سيكسو، مجلة «بويتيك» (الشعريات) التي أحدثت تأثيراً كبيراً في حقل الدراسات الأدبية في فرنسا. وهو في كل كتبه السابقة كان يؤمن بأنّ «على التحليل البنيوي للسرد أن يتخذ من التحليل اللساني نموذجاً له» يحاكيه ويحاول تتبع خطواته.
ولم يكن المضمون، أو المحتوى بلغة نقاد الواقعية، يحتل جانباً ذا بال من تفكير تودوروف. وفي كتابه «العجائبي…» يحدد ثلاثة مظاهر أساسية للعمل الأدبي هي: المظهر اللفظي (أي وحدات الجمل التي تكوّن النص)، والمظهر النحوي (أي العلاقات التي تقوم بين العناصر البنيوية للعمل)، والمظهر الدلالي (أي ثيمات النص أو محتواه). ولكن من بين هذه المظاهر كلّها، يركّز على المظهر النحوي لاعتقاده بوجود «نحو كوني» عابر للغات يمكننا تتبعه في النصوص كلها بغضّ النظر عن لغات كتابتها. ومن ثمّ فإنّ تودوروف يطلق على بحثه عن «نحوية النصوص السردية» عنوان «علم السرد» Narratology، محاولاً إيجاد أسس عامة ترتكز عليها «نظرية الأنواع». وهو يجادل، بلغة سوسيرية واضحة، بأن ما يميز نوعاً أدبياً عن آخر هو اختلافه عن الأنواع الأخرى ذات العلاقة.
في السنوات الأولى من الثمانينات، بدأ تودوروف رحلة جديدة في عمله الثقافي متفحصاً الأفكار والمفاهيم باحثاً في الحوادث ومنعطفات التاريخ عن المعاني وصيغ الوجود التي تحكم الفعل البشري وتقرر طبيعة العلاقات التي تقوم بين الأعراق والثقافات والأفراد. ولعلّ كتابيه «غزو أميركا: سؤال الآخر» (1982)، و «نحن والآخرون» (1989)، كشفا عن هذا التحول الأساسي في مسيرته كناقد ومنظر ومؤرخ للأفكار.
في «غزو أميركا: سؤال الآخر»، يحلل تودوروف الوثائق الخاصة باكتشاف كولومبوس أميركا عام 1492 ليكشف عن العلاقات بين الأوروبيين والهنود الحمر، بين الذات والآخر، والهوية والاختلاف. ويؤكد أن كولومبوس نظر إلى الآخر بعين ثقافته (ومن ضمنها ثقافته الدينية) وتحيزات هذه الثقافة، إذ رأى في الهنود مجرّد كائنات ذات طبيعة بهيمية تصلح لأن تكون عبيداً للأوروبيين.
لكنّ الأطروحة الأساسية للكتاب تتمثل في الكشف عن الدور الكبير الذي لعبته العلامات وتأويل هذه العلامات ــ اللغة وأشكال التواصل ــ في العلاقة بين الإسبان وشعب الآزِتيك في زمن الغزو. ويجادل تودوروف في هذا السياق أن هيرناندو كورتيز استطاع التغلب على الآزتيك لاستفادته من معرفة ثقافتهم وعاداتهم وتقاليدهم ورؤيتهم الدينية للعالم، التي تحصَّل عليها من خلال القراءة والملاحظة.
أما في كتابه التالي «نحن والآخرون» فإنه يتفحص ثيمات من نوع: العِرق، والأمة، والكوني، والعجيب، في كتابات عدد من الكتاب الفرنسيين مثل كلود ليفي شتراوس، ومونتين، وغوبينو، ورينان، وتوكفيل، وشاتوبريان، وأنطونان آرتو، وآخرين. وما يلفت انتباهه في مواقف الكتّاب الفرنسيين هو تأرجحهم بين الموقف المركزي العرقي (حيث يعامَل الآخر بوصفه مجرد موضوع)، والنسبية في النظر إلى الآخر (بوصفه كل شيء أو لا شيء على الإطلاق!).
يبدو من سياق ما قلته سابقاً حول أفكار تودوروف ومنجزه النقدي والمعرفي أن ثمة قطعاً في مسيرته المعرفية، لكن المدقق سيجد أن هناك خيطاً واضحاً يتطور في عمله ويوجهه نحو الانتقال من التحليل الشكلي ــ البنيوي إلى حقل مغاير تماماً يهتم بالمعنى وأنظمة الخطاب والأفكار الكبرى، مما يجعله يقف في مواجهة جماعات ما بعد الحداثة التي تمقت الحديث عما تسميه «الحكايات الكبرى» للتاريخ وتفضل عليها «الحكايات الصغيرة» للأفراد والجماعات. يمكن النظر إلى تحولات تودوروف من منظور تأثير ميشال فوكو على الكثير من النقاد ومنظري الأدب في الربع الأخير من القرن العشرين إلى ما يسمى «تاريخ أنظمة الفكر»، وهو حقل من حقول المعرفة الإنسانية يعالج أشكال الممارسات المختلفة بوصفها خطابات تكشف عن قوانين ومعايير تحكم تصرف البشر وتتمتع بمنطقها الداخلي بعيداً عن رغبات الأفراد ورغباتهم الشخصية. ويستفيد المهتمون بـهذا الحقل المعرفي من أنواع النصوص جميعها، أدبيةً كانت أم غيرَ أدبية، ويركزون على فكرة «الأرشيف» الذي يعثرون فيه على المادة التي يرتكز عليها خطابهم وتنصبّ عليها تحليلاتهم. وقد يكون هذا المناخ الذي أوجده فوكو وحواريوه، في كل ركن من أركان الكرة الأرضية، هو الذي دفع تزفيتان تودوروف لينتقل من حقل الدراسات الأدبية وعالم الشكلانيين والبنيويين إلى مجال دراسات الخطابات وتحولات الأفكار بعد أن كان لا يرى في النصوص سوى الدوال وقوانين اللغة والشكل والنوع الأدبي.
محاورة باختين
لكن هذا التطور في فكر تودوروف ينتمي أيضاً إلى جذوره الأوروبية الشرقية وإلى تأثيرات الفيلسوف والمنظر الأدبي الروسي ميخائيل باختين الذي كان لتودوروف الفضل في نقل بعض أعماله المجهولة إلى اللغة الفرنسية ومن ثم إلى اللغة الإنكليزية. وقد لاحظت عندما ترجمت كتابه «ميخائيل باختين: المبدأ الحواري»، في بداية تسعينيات القرن الماضي، أن عدداً من الأفكار الرئيسية التي يطورها تودوروف في كتاباته اللاحقة تنتسب في الحقيقة إلى حواره الممتع مع المنظر الروسي، ورغبته في أن يكون وسيطاً بين فكر باختين وقارئه.
في كتابه «ميخائيل باختين: المبدأ الحواري» (صدر بالفرنسية عام 1981، ويمكن القارئ أن يراجع ترجمتي لهذا الكتاب الصادرة في طبعتها الرابعة عن دار رؤية في القاهرة 2012)، وهو مقدمة طويلة وضعها تودوروف لترجمته عدداً كبيراً من النصوص المجهولة لباختين التي لم يكن القارئ الأوروبي الغربي قد تعرف إليها من قبل، يعرض تودوروف أفكار باختين ويستعلم عن مصادره الأساسية، ولكنه لا يقيم حواراً معه. إنه يعطيه حق الكلام، من خلال الاقتباس والتضمين، لكي يقدمه للقارئ الأوروبي الغربي دون تدخل حقيقي. وما يهمنا في سياق استعراض تطور فكر تودوروف نفسه هو التشديد على الدور الذي لعبه ميخائيل باختين في تحولات الناقد الفرنسي، البلغاري الأصل، من التحليل البنيوي الصارم، الذي يهتم بالعلامات اللغوية والسياقات الداخلية للنصوص، إلى الاهتمام بما يتجاوز دائرة هذا التحليل: من المعنى والعلاقات الإنسانية والخطابات والحوارية وعلاقة الذات بالآخر، والتنوع الإنساني.
ففي كتاب «المبدأ الحواري» يعثر تودوروف على ملهمه الحقيقي الذي يمثل حلقة وصل بين كتابات تودوروف، المتأثرة بالشكلانيين الروس، وكتاباته التالية التي تهتم بشواغل البشر اليومية وأشكال العلاقات التي تنشأ بينهم. وقد كان باختين نفسه امتداداً لمنجز الشكلانيين الروس وعدواً عنيداً لهم، ما يجعل استلهام تودوروف لعمله ذا طبيعة إشكالية معقدة.
___
*الحياة