*جان مونتينو /ترجمة: حسونة المصباحي
هيغل يفتن، ويُزْعج في نفس الوقت. وفكره التّجريدي عادة ما يُقَلّص إلى بعض الصّيغ التي تُكرّر بحسب الرّغبات مثل هذه: «كلّ ما واقعيّ، هو عقلانيّ». وهذه أيضا: «ليس هناك شيء عظيم لا يتمّ من دون شغف، وَوَجْد». وهذه الثالثة: «الشّعوب السّعيدة لا تاريخ لها». كما يمكن أن تُخْتصر فلسفته إلى بعض النصوص البارعة الأسلوب مثل: «ديالكتيك السيّد والعبد» الذي كان بمثابة «جسر الحمير» الحقيقيّ للأنتلّيجنسيا الفرنسيّة منذ أن جعل منه ألكسندر كوجيف في الثلاثينيات من القرن الماضي، نموذجا للفكر الهيغلي، أو شكلا من أشكال التّوقّع الإقطاعيّ للصّراع الطبقيّ. كما تمّ اختصار جدله الشهير إلى تأكيد الشيء ونقيضه في نفس الوقت، أي إلى «قضيّة – نقيض القضيّة – التّحصيلة».
أن لا نكترث بمثل هذه المصطلحات العامّة، لا يكفي لكي نرفع الشكّ الذي يضغط على الفكر الهيغلي، والذي كان غوته الذي كان يعتزّ بـ (عزيزه هيغل) يشكّله على النّحو التّالي: «نحن نستعين به إذا نحن لم نقم فقط باستعمال مثل هذه الفنون غالب الأحيان، ومثل هذه البراعات الفكريّة لكي نجعل من الخطأ صوابا، ومن الصّواب خطأ». ولكن هل كان هيغل فيلسوف الغموض، ومفكّر التّجديد، والمبهم، والبعيد عن الواقع؟
علينا أن نفتح أيّ مؤلّف من مؤلّفاته التي صدرت عندما كان لا يزال على قيد الحياة، والتي كانت قليلة على أيّة حال، مثل «فينومينولوجيا الرّوح»، و«علم المنطق ومبادئ فلسفة القانون»، وسوف يكون من الصّعب علينا ألاّ نجعل هيغل من المفكّرين المُحَيّرين، والغريبين عن الإدراك السّليم الذي يكون القطّ قطّا بالنسبة له.
هيغل الإنسان
لنبدأ بهيغل الإنسان. كانت حياته حياة أستاذ جامعيّ ارتقى جميع الدرجات. وهو ابن موظّف صغير من مقاطعة «فورتنبارغ». وبعد حصوله على منحة دراسيّة، انتسب إلى معهد اللّاهوت في مدينة «توبنغن»، وهو معهد مختصّ في تكوين رجال دين بروتستنتييّن، طيّعين، ليصبح في النهاية أستاذ كرسيّ في جامعة برلين المرموقة، وذلك عام 1818. وفي 1829، أصبح عميدا للجامعة. غير أن هذه المسيرة لم تكن سهلة، وسريعة. فقد كان على هيغل أن ينتظر بلوغه سنّ الأربعين لكي يحصل على شيء ممّا كان يبتغيه من مجد، وشهرة. فاللّهجة التي كان يتكلّم بها، وهي لهجة منطقة «الشواب» الواقعة جنوب غربيّ ألمانيا، وفكره الصّعب، والعسير على الفهم، المغلّف أحيانا بهالة لاهوتيّة، لم يسمحا له بصعود سهل، ومريح. إلى جانب هذا، وبسبب حذره الشّديد، كان يبدو مشكوكا في أمره بالنسبة للمحافظين، والتّقدّميين في نفس الوقت.
وكانت مقتضيات الحياة قد قادت هيغل إلى امتهان وظائف متواضعة كمربّ لدى العائلات الغنيّة في كلّ من «بارن»، و«فرانكفورت». بعدها تمكّن من أن يصبح أستاذا مساعدا للفلسفة في جامعة «إيينا». وفي تلك الفترة، عاش حياة البورجوازيّ، لكن من دون ترف. وكان عليه أن يعمل صحافيّا في «بامبارغ»، ثمّ مديرا لمعهد «نورمبارغ» بعد أن تمّ غلق جامعة«إيينا» بسبب الحرب. وخلال السّنوات التي أمضاها في «نورمبارغ»، انشغل بكتابة مؤلّفه المرموق «علم المنطق»، وتزوّج من ماري فون توشير. وبعد الأربعين عرف المجد، والشّهرة خصوصا بعد أن عيّن أستاذا للفلسفة في جامعة «هايدلبارغ» (1816)، ثمّ في جامعة برلين (1818)، حيث أصبح فيلسوفا رسميّا للمملكة البروسيّة. لذلك يمكن القول إن هيغل ظلّ لوقت طويل «يجذب الشّيطان من ذيله» كما يقال. باختصار يمكن القول إن حياة صاحب «فينومينولوجيا الرّوح» كانت بعيدة عن ما نسمّيه «التّاريخ الكبير» على مستوى الظّاهر على الأقل. ومن الجانب الدّقيق، والمحض للسّيرة الذّاتيّة، كانت حياة هيغل حياة رجل يطمح إلى أن يصبح موظّفا، وأن يتزوّج، وأن يحصل على الاستقرار الضّروريّ للتّطوّر الفكريّ.
المفاهيم الهيغليّة
للمفارقة يمكن القول إنّ فكر هذا الرجل، أي هيغل، الباحث عن الاستقرار، وعن التقدير بحسب المفاهيم البورجوازيّة، يتمثّل لنا كمحاولة للمسك بالواقع، وتحليله في حركيّته، وفي التّناقضات المتّصلة به. وإذا ما كان الواقع «هذه المفْسَقَة التي لا يكون فيها عضو واحد ليس منتشيا»، هو أساسا صيرورة، وحركة، ونزاع، وتمزّق، فكيف لنا أن نمسك به في إطار اللّغة العامّة التي تتميّز بثبات بمعانيها. وإذا ما كانت اللّغة، مثل المنطق الكلاسيكيّ في إطار آخر، تنزع إلى «تجميد»، و«تثبيت» الواقع، فإنه يتعيّن علينا أن نعيد للّغة سيولتها حتّى تتمكّن من أن تعبّر بشكل أفضل عن حاجتها. لذلك علينا أن نتعامل بكلّ حذر مع القاموس الهيغليّ، إذ أن جميع المفاهيم الكلاسيكيّة التي يستعملها مثل (الوجود، العدم، العقل، المطلق، الماهية، الموضوع، المفهوم، الرّوح، الإدراك، الوعي….) لا يمكن أن نأخذها في معانيها التقليديّة، وإنّما أيضا في معانيها «النظريّة»، أي وكأنّها تسميات تحيل إلى سيرورات في حالة حركة مرتبطة ببعضها البعض. مثلا، كلّ واحد منّا يعرف أن الوجود يتعارض مع العدم. غير أن هيغل يضيف بأن هذا التّعارض لا يمكننا أن نأخذه فقط كتعارض خارجيّ، ذلك أن الوجود، والعدم ليسا كلبيْ مرمر يواجه كلّ واحد منهما الاخر. إنّ الحقيقة «النّظريّة» للوجود والعدم، هي علاقتهما، وبمعنى آخر هي مرور كلّ واحد منهما نحو الآخر. أن تأخذ الوجود، والعدم في مفهومهما النّظري، هذا يعني أنّه يتحتّم علينا أن ندرك كيف يتولّد انطلاقا من تعارضهما مع المقولة الثالثة للصّيرورة، وبمعنى آخر المرور من العدم إلى الوجود – التّجلّي والظّهور، ومن الوجود إلى العدم – الزّوال والغياب، وهي كلّها لحظات «نظريّة» للانتشار العقلاني للمعارضة الأوّليّة. إنّ الوجود ليس فقط هويّته لذاته في تعارضه الجامد للعدم، وإنّما هو حركة تجاوز لذاته من خلال استبطان ما يتعارض معه. وهذا ما يدوّخ العقل! غير أنّ ما هو حقيقيّ بالنسبة للوجود، وبالنسبة للعدم، هو أيضا حقيقيّ بالنسبة للحقائق الأكثر موضوعيّة. وبحسب المفاهيم الهيغليّة، فإنّ الزّهرة ليست فقط زهرة، وإنّما هي كذلك بحسب وجودها، نقض، وتفنيد للبرعم الذي جاءت منه، والذي لا بدّ ان يختفي فيها. ولكن يمكن أن يتمّ تجاوز الزّهرة، وأن تكتمل بالثّمرة التي ترمي بها إلى العدم. إنّ مجموع هذه اللّحظات التي يجمعها العقل، ويمسك بها من جديد هو أيضا حقيقة كلّ واحدة منها في هويّتها، وفي تناقضها: حقيقة الزّهرة في برعمها، وحقيقة الزّهرة في ذروة تفتّحها، وحقيقة الزّهرة في ذبولها، والتي لم يتبقّ لها غير أن تختفي لتترك مكانها للثّمرة. وكلّ هذه لحظات متعارضة، وضروريّة للضّرورة العضويّة التي تتحكّم في النّبتة. وما هو حقيقيّ بالنسبّة للزّهور، هو أيضا حقيقيّ على مستوى آخر، وبطريقة أخرى بالنسبة لإنتاجات العقل، والثقافة (الفن، الدّين، الفلسفة، وأيضا القانون، والنّظم السياسيّة، والحركة العامّة للتّاريخ الإنساني).