في لحظة تماهٍ مع “الحقيقة” قد يتجرد البطل االلوكاشي(نسبة لجورج لوكاش) من شرطه الإنساني متوهما أنه الملاك وما عداه كائنات سوّيت من صلصال وطين. فيخوض حربا دونكيشوتية لاستعادة قيم أصيلة في مجتمع غير أصيل، لكنه لايبالي إن هو استعمل في هذه الحرب أساليب غير أصيلة. يتساوى في ذلك القادة مع الدهماء، و جبابرة التاريخ بأبطال الروايات. فستالين، مثلا ومع مراعاة الفارق، لم يكن في مسعاه ليختلف عن بطل “اللص والكلاب” لنجيب محفوظ، فكلاهما بطل إشكالي يوقعه بحثه الأناني عن اليوتوبيا إلى السقوط في المستنقع. من هذا المنطلق سعت أعمال روائية إلى التحذير من هذه المفارقات التاريخية التي تتحول فيها الأحلام واليوتوبيات إلى كوابيس مرعبة. ولاشك أن رواية”مزرعة البهائم”(1945) للكاتب الإنجليزي جورج أورويل نبهت إلى هذا المأزق الذي جعل من ستالين الثوري يتحول إلى متسلط جبّار، كما تحوّل مقاومون للاستعمار إلى مستعمِرين جددا، لبلدانهم، أكثر دموية وفسادا، أو كما تحوّل مثقفون وشِعاريون من الطور الثقافي إلى الطور البهيمي، في مسار معكوس جدير بلمهاة. لا يتعلق الأمر هناك باستيحاء أورويلي(نسبة إلى جورج أورويل) اعتباطي وإنما هناك من المؤشرات، في رواية “هوت ماروك” للمبدع ياسين عدنان، ما يرجح هذا المفترض ويقويه من الناحية التناصية على الأقل، سيما وأنه منصوص عليه في سنخ النص، إذ نجد السارد وهو يتحدث عن شخصية رحال العوينة يقول:”لأن أحدا لم يشرح له أن الأمر يتعلق برواية جورج أورويل الشهيرة”1984″، حيث الأخ الأكبر يراقب الجميع”(ص.171)كما نجد فصلا من الرواية معنونا بـ”الكوميديا الحيوانية”، وهي، في الواقع، كناية على ما يشبه التراجيديا الموازية لـ”كوميديا” دانتي الإلهية: مع ما يوحي به هذا التقابل من تناقض بين الإلهي(الأسمى) وبين الحيواني(الأدنى) .
وفي تساوق مع هذا الهم الأطروحي المشرّح لتردي القيم والراصد لاستشراء الفساد في العباد والبلاد تأتي رواية “هوت ماروك” للكاتب والشاعر المغربي ياسين عدنان. ولعل “الكلبية” ، بما هي فلسفية في الحياة، من جهة، وتوصيف بهيمي، من جهة أخرى، هي أحد المداخل الممكنة لفهم وقراءة مسلكية شخوص هذه الرواية الحافلة بالأحداث والمواقف والمفاجآت. الراصدة لسيرورة ملتهبة من تاريخ المغرب الحديث والراهن. المشرّحة لمراحل حارقة من تاريخ المغرب، بين عهدين مغربيين سياسيين مختلفين لكل منهما خصوصيته ونيرانه الحامية، لكنهما يتقاسمان النزوع الحيواني ذاته كنقيض موضوعي للمسلك الثقافي والحضاري. ولأنها رواية تاريخية، بمعنى أو آخر، فإن أول ما يلفت فيها هو ضخامة حجمها(460 صفحة) قياسا إلى سَعَة المتون الروائية المغربية التي ظلت، في أغلبها، تميل إلى القِصَر لاعتبارات قد يكون مشكل النشر أحدها. ولاشك أن موضوع الرواية، ولتشعباته، كان يفرض هذا الحجم. ينضاف إلى ذلك عنوانها الخلاسي (هوت ماروك) في صيغته الـ “إنجليسية”(إنجليزية فرنسية) Anglo-française: تقول إحدى شخصيات الرواية(قمر الدين) تعليقا على هذا العنوان” هاذوك بعدا غالطين ف اسم الموقع ديالهم. مخلطين الفرنسية بالإنجليزية. خاصهم يديروا “هوت موروكو” . لأن “هوت” كلمة إنجليزية، تعني الساخن.”هوتميل” مثلا؟ تعني البريد الساخن. والمغرب الساخن بالإنجليزية هي “هوت موروكو” ماشي “هوت ماروك”(ص. 309) . وهذا التلفظ الترددي code switchingليس جديدا على تجربة الكاتب،إذ سبق أن وسمَ ديوانا له بـ “مانيكان”(2000)، ونظن أن مقصديته من ذلك بعيدة عن أي نزوع تغريبي وإنما أملتها رؤية تروم المصاقبة بين دوال المحكي ومدلولاته. أي لتغدو عتبة العنوان متصادية مع فحوى النص. خاصة وأن كلمة “الأنغلوفرنسي” المزجية لا تدل على المزاوجة بين لسانين، وحسب، وإنما تفيد، وانسجاما مع روح الكلبية، سلالة من كلاب الصيد السلوقية الهجينة من دماء إنجليزية فرنسية، حتى صار اللفظ اصطلاحا “كلبيا” بالأساس. من ثم سوف تكون سيرة “رحال العوينة” وللاسم هنا دلالته السيميائية، إلى جانب سير شخوص الرواية معقدة ودرامية، مادامت تحركها طبائع أقرب إلى الحيوانية منها إلى الأوادم بل ولا تدرك ما حولها إلا من خلال تمثل حيواني، فهو لم يكن “يفهم لماذا يشبهه البعض بالقرد، ولا كيف ينعته آخرون بالجرذ”(ص.19)ولو أنه”يتوفر بالمناسبة على حاسة شم سنجابية، وذاكرة لها نفس القوة”(ص.19)، ويتمثل الآخرين بـ”منطق الطير” والحيوان، فوالدته حليمة بجعة ووالده عبد السلام سرعوف، وعمه عياد سنجاب، أما زميلته في الدراسة وزوجته المستقبلية حسنية فكانت، في البدء، تتداخل فيها “رشاقة الظبي ودقة ساقي النعامة وسير الذئب ومرونة جسم الثعلب”(ص.43)، وهي حين تزوره في المنام تتبدى له “على هيئة حصان” أو “في إهاب غزال”، لكنها ستغدو مع الوقت مجرد قنفذة. بينما”الأستاذ المخلوفي فيل حقيقي”(ص.37) والرفاق في الفصائل و الحلقيات هم مزرعة حيوان: مراد الجرذ والمختار الجربوع وعتيقة البقرة وعزيز السلوقي وأحمد الضبع(ص51) ورواد مقهى الأنترنت وكتابها أيضا مجرد حيوانات: اليزيد الكلب، ميمي النمس، والنادلة أسماء لبؤة، والأفريكانو الزرافة، حتى لكأنهم جميعا موجهون بغرائزهم. ورغم أنهم، في أغلبهم، متعلمون، إلا أن تصرفاتهم تكشف “بهيميتهم، لافرق في ذلك بين أستاذ جامعي وطالب، ولا بين فقيه ومريد، ولا بين غني و فقير، أذكرا كان أم أنثى. تجمعهم مدينة مراكش، هم الوافدون أو المقيمون، وتفرقهم المصالح الضيقة والأهواء، فيكيدون لبعضهم البعض كيدا، بالخديعة والإشاعة. وكلهم انتهازي ميكيافيلي: فهذا أستاذ فاشل (بوشعيب المخلوفي) وذانك طالبان(رحال وحسنية)، تحت إشرافه، منتحلان، وذاك مناضل تقدمي برتبة مخبر، وتانك طالبتان(فدوى وسميرة) باحثتان تمتهنان التعري أمام الكاميرا للأجانب، وذاك(أبوقتادة) حالم بـ”إمارة” يفتي فيها بهواه، وآخر(عماد القطيفة) بزناس يسعى إلى الحصول على مقعد في البرلمان ويجر وراءه فضائح وشناعات، وذاك(عياد) “فاعل خير” يأوي أخاه(عبدالسلام) القادم من الآفاق(الرحامنة) في بيته(بمراكش) وعينه على زوجة أخيه(حليمة)، وهلم بهيميات. حتى أن التكنولوجيا، التي يفترض فيها أن ترتقي بما هو إنساني في الأشخاص، لم تزدهم إلا انحدارا يضعهم في صف العجماوات أو أدنى. فبعدما كانوا يتربصون ببعضهم بالشعارات والوشايات والخربشات على جدران المراحيض والمجالس الخاصة وهم تلاميذ وطلاب، صارت الشبكة العنكبوتية، بعد التخرج، مرحاضهم للنيل من سواهم بأحط الطرق والأساليب. يحدث هذا بنفس روائي من تشظيات كثيرة متناغمة ومتكاملة “عن المغرب وتحولاته” وأعطابه وغممه، وعما تعرضت و تتعرض له مدينة مراكش، كما يشار على ظهر الغلاف الخارجي، “من ترييف واغتيال للأشجار. عن الجامعة وحراكها الطلابي، عن مضار الأنترنت وقطّاع طرقها الرقمية. عن أحوال الناس وطبائع البشر. عن السياسة والصحافة”. هي، إذن، رواية ماسماه عبد الله العروي “التاريخ الراهن” للمغرب، ولو أنها تخييل ينحو إلى الترخص في استعادة الوقائع لكنه ينقل روحها بالحذافير. لهذا تبدو الشخوص ذرائع لتمثيل ماجرى وجعله شاخصا كما هو،مع حفظ الأسماء إلا في ما ندر. واقع ينحكي من خلال سيرة “رحال العوينة”،و اسمه يحيل على “البص ; والبصيص”، وهو، إذا ما استعملنا أسماء الهوام،”بُغاث” (طائر شرير) لايستنسر إلا في الأحلام أو وراء الحاسوب، بأسماء مستعارة. إذ اجتمعت فيه كل المساوئ، من جبن ولؤم وقلة مروءة. إنه نموذج لسيرورة خاطئة ومعقدة لرهط من المغاربة لم يزدهم التعلم إلا دناءة ووضاعة، لكنهم في المقابل صاروا يتحكمون في الواقع ويكيفون الرأي العام، بل ويساهمون، افتراضيا، في تشكيل هذا الواقع والوعي به، على غرار “أخ أكبر” بخلفية حيوانية. لنتأمل هذه المقاطع: “لكن في مملكة رحال العوينة، لامجال لسلة المهملات. إثر مغادرة آخر زبون بعد منتصف الليل يأخذ رحال بضع دقائق، قد تمتذ لتتجاوز الساعة، يفحص فيها الأجهزة، يتفقدها واحدا واحدا، ينبش في أحشائها ويهتك أسرار من آووا إلى أفيائها الرقمية من الرواد. . . هذه مجهودات إضافية يقوم بها رحال قبل الإغلاق، وإلا فإنه أول من فتح لكل أعضاء النادي حساباتهم الإلكترونية أول مرة. وذاكرته السنجابية تخزّن أسماء ولوجهم جميعا، حقيقية ومستعارة، وتحفظ كلمات السر. رٌفِعت الحجب وكُشِفت الأسرار. . . إيه يارحال . تراهم يتحركون أمامك مثل الكراكيز. لا يعرفون أنهم جميعا في جيبك.”(ص.ص.172-173) .
وإذا كان بالوسع تفهم دواعي الأنظمة الشمولية في التجسس على مواطنيها قصد الاستفراد بالسلطة وامتيازاتها، فإنه ليس من المفهوم في عوالم “هوت ماروك” أن يجد “المواطنون” أنفسهم ضالتهم في تعقّب بعضهم والكيد لهم لمجرد نزوات حيوانية محض، كمؤشر على “نهاية القيم” والمبادئ، بل ونهاية “الإنساني” فيهم، وفوق هذا فإنه إذا كان قد أتى حين من الدهر على “المغرب الساخن” أن يكون الصراع على السلطة والمال قد يصل إلى التصفيات الجسدية وفق قواعد أغلبها واضح ومنطقي، ولو أنه غير مبرَّر، فإن الوضع اليوم قد اختلطت فيه قواعد اللعب وأضحى مألوفا أن يتم وأد الأصدقاء والخصوم والتنكيل بهم، إلى درجة التدمير الذاتي، لا لشيء إلا لتحقيق نزعة حيوانية محض .
لقد اكتفينا، هنا، بالتوقف عند جزئية بسيطة، لكنها دالة، ضمن رواية “هوت ماروك” الغنية بالقضايا والرسائل والممكنات الفنية. لنؤكد، وبأسف شديد، أن كل ما في هذه الرواية “حقيقي” إلا الوقائع فهي متخيلة. يقدمها الكاتب ياسين عدنان، من منظور قيامي ، يبتغي عبره التحذير من المنحى العبثي الذي بتنا نسقط فيه نتيجة فشل السياسات المتعاقبة في فتح آفاق للمستقبل ترتقي بإنسانية الإنسان بدل جره إلى الحضيض .
___________