حين تتبخر الأحلام في مجموعة “وداعا لأحلام الغد” للمغربية سعيدة لقراري


*الحبيب الدائم ربي


خاص ( ثقافات )
تضعنا مجموعة “وداعا لأحلام الغد” للقاصة سعيدة لقراري، رأسا، في أقصى التخوم وأقساها، ليس لأن الذي وقع (أو يقع) لا يمكن تفاديه وحسب، وإنما لأن ما قد يقع، استقبالا، وحسَب منطوق العنوان ومفهومه، وباعتبار الـ”ما سيكون” البلاغي، هو محسوم فيه، بكل مستتبعاته القيامية وما بعد القيامية. فحتى الأحلام الآتية، التي عادة ما تفتح كوى للآمال، ُمنيتْ بالإجهاض، ماضيا وحاضرا واستقبالا، حيث “ثـُمّ لا ثـُمّ”، حسب التعبير البليغ المنسوب لحنين بن إسحق العبادي(ق 9م).مادامت الأعطاب عميقة والغمم عامة وطامة. وتجسيداتها الحية لا تستدعي حجاجا أو لجاجا. إذ يكفي تأمل واقعنا، المريض، للوقوف على أن الانحراف في الأشجار لا في الظلال وحدها، بل في نهّابي الغابات وحطابيها. بمعنى أن القيامة قامت، هنا والآن، وأن تجاهلها ليس سوى عناد يؤكد هذا المعطى الرهيب دون أن ينفيه. من ثم تصبح الكتابة لدى سعيد لقراري بمثابة مرثية حزينة وشهادة تدين الذين عبثوا بالغابة ونهبوها زاعمين أن خلف أشجارهم الوهمية غابات مزعومة..الغابة هنا استعارة، منا نحن، فيما الخراب حقيقة من الكاتبة. والواقع أن الكاتبة لا تكنّي هكذا بل تفضح الخلل بصريح العبارة، وتأسى لما آل إليه حالُ واقعنا الذي أوغل في نفق بلا منافذ. ولها على ذلك أمثلة بليغة صاغتها في إحدى عشرة قصة ومسردية، تأتي نواتها، أو بيت القص فيها، الذي تحمل المجموعة عنوانه، في المرتبة الثالثة ضمن الأضمومة. نواة في خمس لوحات قاتمات تم ترقيمها هجائيا هكذا( أ، ب، ج، د، ه): المتعلّم (أي الصبي المساعد)، طفلة المحطة، نجمة، على باب الله، السقطة الأخيرة،.. إنه تنويع للغمة، يلتقي فيه تشغيل الأطفال القاصرين، وإهمالهم وتوظيفهم في التسول والممارسات المهينة، بالمقاساة التي يحياها الكبار بدورهم، سيما النساء المنذورات للهشاشة. فقدَر الطفل “دريس”- دونما تفصيح- أن يشتغل في محل نجارة عند “لمعلم المختار” غليظ القلب، وسوء حظ “طفلة المحطة” أوقعها في يد أمرأة وظفتها في التسول، كانت الأم قد سافرت طلبا للرزق وائتمنتها عليها. أما “نجمة” فقد أفل نجمها منذ اللحظة التي فصلها فيها أبواها، تحت ضغط الفاقة، عن الدراسة وشغلاها خادمة عند أسرة ميسورة ما تفتأ تكرر على مسامعها بقسوة” باراكا من نعاس جايَ تخدمي ماشي تنعسي…”(ص.27) حتى انطفأت “وصارت جثة خالية من الحياة”، بينما “رحيمو” البائعة المتجولة التي لا متسع لها “كي تلوم قدرها أو تشتكي” فإن أيامها مشدودة، أبدا، إلى عربتها الصغيرة التي تعد فيها وجبات شعبية لزبائن هم ، في الغالب، من طينتها، فتارة تصيبها ، من فرط الإجهاد، ضربات شمس، أو تجدها “وهي تدب خائبة بين البرك”(ص.30)، والزوجة العزلاء، ذات الزوج المهمِل العربيد، والأم لطفلين، التي “لم تجد مفرا من مصارعة زمن هائج ترمي بها أمواجه على رف الرضا بالمكتاب”(ص.31) ظلت “تستيقظ فجر كل يوم” للالتحاق بعملها الشاق إلى أن جاء يوم ستخونها فيه”قدماها، وتسقط فوق الإسفلت المغشوش” فتدوسها عجلتا “بيكوب” فتصرخ زميلاتها في المأساة “ماتت الله يرحمها”(ص.32).
هذه العينة الدالة والضاجة بالأسى ، تلتقي مع باقي شخوص المجموعة وسرّادها في كونها جميعا “مخلوقات ضعيفة تحترق في عراء الحياة، متحدية شرطها القاسي حد الحافة” وفقا لما سجله الأستاذ عبد العاطي الزياني في كلمته التقديمية(ص.9)، وأغلب هؤلاء نسوة يعشن الذكريات بمرارة (قصة رحيل، قصة المرحوم، قصة نبض متآكل)أو ينتظرن السراب(قصة نحو الشاطئ، وقصة نشيد نحو الآتي، وقصة الرقص مع الغائب، وقصة رنة نهاية) أو يركبن مغامرات أكبر من ممكناتهن البشرية(قصة عودة).

والواقع أن الرؤية المأساوية التي ترين على نصوص” وداعا أحلام الغد” لا تنطلق من يأس وإنما من تقديرات واقعية للفجيعة، ولربما هي تقويم للخسارات في حدها الأدنى الذي هو، والحال هذه، الأعلى. لكنها(أي الرؤية) لا تعدم بصيص آمال مشوبة بالشكوك. آمال الغرقى في يم الحياة حتى حين لا أمل. نلمس هذا في بعض خواتم المحكيات، من ذلك ” لم يخلق القبح صدفة في حياتنا، فكلما اشتدت بشاعته توضحت ملامح الجمال وتجلت”(ص.10)، ” تفاصيل انسابت رقراقة على صفحات ذاكرته، يشتعل على متنها فرحا حينا ويخمد وجعا تارة أخرى”(ص.34)، “لكن كلما اطلعت على آلام البعض….أزدادُ يقينا أن عليّ أن أتشبث بحياتي أكثر”(ص.41)، “تبدأ وطأة الخوف في التلاشي، والحافلة تدخل المحطة بركابها سالمين. نهنئ بعضنا بالوصول ونسارع إلى النزول ليتوجه كل واحد منا إلى وجهته”(ص.58).

والكاتبة وهي تحوك متخيلاتها بما يلزم من دقة ووضوح، وبعيدا عن التردد، لا تنسى أن ترصّف للجَمال سُبلا، بيانا وبديعا، وصوغا فنيا يضفي على قسوة المحكي قتامة لذيذة، ووقعا نافذا يشعر القارئ بأن الأمر لا يتعلق بحكايات تُروى للتسلية وإنما بلوحات من نار ورماد يسطّر وقائعَها “معذبو الأرض” الذين لاحلم يطفئ لوعتهم. فكما تفصح اللغة أحيانا فإنها تومئ، أحيانا أخرى. وكما تتخذ المسردية صفة تحبيك قصصي، طورا، فإنها تغدو قريبة من المرافعة والنجوى، لكنها تظل، في المحصلة، مشدودة إلى ناظم أطروحي موحَّد ينتصر فيه الخطاب إلى”قضايا المرأة العادلة” وإلى القيم المثلى عموما.

.بيْد أن مايميز الكتابة لدى سعيدة الأستاذة لقراري هو كونها تلامس، إلى جانب قضايا اجتماعية أخرى، قضية المرأة لا من زاوية الانشغال بخصوصية الجسد الأنثوي الذي صار سجنا للعديد من الكاتبات المغربيات، ولربما عمّق من أزمة خطابهن، وإنما تضع يدها على مكامن الجرح حيث يلعب التمايز الجنوسي مبررا لدعم اختلال موازين القوى بين الرجل والمرأة في مجتمع ذكوري وتسويغ الظلم بمنطق لا يستقيم. لهذا فإن خطابها يتسم بقدر كبير من الموضوعية، حتى أن التسريد لديها، وفي عمومه(ماعدا قصة “عودة” التي تحكى بضمير المتكلمة) يجري بضمير الغائب(ة)، ولو أن هذا الآخر الغائب(ة) هو “أنا” بمعنى من المعاني.

ومجمل القول أن الكاتبة لقراري تقدم في مجموعتها “وداعا أحلام الغد” نصوصا حرّيفة بـ”حقائقها” الصادمة في مجتمع يسوده الجور وانتفاء العدالة، لكنها(أي النصوص) على قدر محترم من الفنية والجمال.

– سعيدة لقراري، وداعا أحلام الغد، قصص، مراكش، 2015.

شاهد أيضاً

أقنعةُ الهُوية والتّيه قراءة في «قناع بلون السّماء»

أقنعةُ الهُوية والتّيه قراءة في «قناع بلون السّماء» واسيني الأعرج   على الرغم من الضباب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *