شيءٌ ما

خاص- ثقافات

*نسيبة عطاء الله

في ذلك اليوم نسيتُ نظّارَتي،

لأوّل مرّة في حياتي أنسى نظّارتي!

اكتشفتُ غيابَها حين وقفتُ أتأمل حديقة المدينة من السّور المُطِلِّ عليها. كان المكان غائما كالسّماء الذي تظلّله، خاليا سوى من أشباحٍ يُشبهونَه، واثنين يقفان على يساري أطلتُ النّظر إليهما لأرى إذا كان الوقوف بمقربة منهما آمنا. فتحت عينيّ جيّدا حتى أميّز صورتهما من بين الضّباب والموتِ الذين كانا مخيِّمَيْن!

أدمعت عيناي من الهواء البارد وعُريِهِما الفاضح، فابتعدتُ بهما إلى الأشجارِ التي لا أملك أكثر من النّظر إليها لأن الحدائق في هذا الوطن مستحيلة على فتاة وحيدة في وقت كذاك.

كنتُ أرمّم بقلبي الأشياء التالفة، وأَدهن مقاعد الحديقة الصّدئة حين سمعت أحد الشابين يقول بنبرة مرتاحة: ” (charmante)..! هذا الوجه ليس بريئا كما يبدو لك، أنظر إلى عينيها إنّها ساحرة من زمن آخر.. وتبدو…. كلبوة! اللّبوة وجهها بريء البراءة التي تفترس وتُقطِّع يا صاحْبي”

دقَّ جرس الكلام في رأسي فالتفتُّ إلى المتحدُّث، أستطلع أيَّهُ منهما؛

كان يرتدي معطفا أسود، تركه مفتوحا، ووشاحا أزرق بخطوط سوداء، يُشبه صاحبَ الظّل الطويل، تماما! كان يُغطّي كل الأجسام خلفه ما مكنّني من معرفته، رمقني بنظرة زرقاءَ طويلة -تحسستُ معها الأمواجَ في ذلك البَرد الصّاعِق- ثم قال لصديقه: “أيّها الدّافئ أَرْواحْ نْروحو مْنّا”.. حينَها قررتُ الانصراف، فليس المكان للنّساء على كلّ حال. في المسافة نحوه لم أُزح عينيّ عن قطرة مطر كانت عالقة في جبينه تخيلتُ أنّي فقعتُها بأُنمُلتي. فأنا كم أحبّ أن أتخيل إصلاح الأشياء بذهني والعبث بها دون لمسِها!

 عندما أوشكتُ أن أتجاوزَهُ قال: ” في أَوَجِّ الرُّموشِ، طاعنةٌ في القُزَحْ”!

لم يكن في عادتي أن أعير أهميةً لما أسمعه من غزَل، لكن لم يسبق لي أن سمعت غزلا بهذا الحجم فالتفتُّ لأتفحّص مدى مطابقةِ دهشة النّص بصاحبه، فبعض الكلام أجمل من قائليه.

كانَ في أوَجِّ الهيبةِ، طاعِنا في البَحر!.. تردّدتُ قليلا لكنّي سألتُه: “هل أنت شاعر؟”

طال صمته فهممتُ بالذّهاب، ولَمّا استدرتُ قال: ” أنا عابر”.

 أردتُ أن أنظر إليه وقتها لكني كنت غيمةَ بكبرياءٍ شديد، لم تُضعِف جدارَ صمودي الخيباتُ الكبيرة بعد، لكنّ ثقبا ما انفتح في قلبي وقذف شيئا ما!

لو كنتُ أعرِفُ أنّه الموت؟

بكتفيّ رأيتُ صديقه ينغز ذراعَه ويدفعه نحوي، وبأنوثتي سمعته يقول له “عْطيها نيمْرو التّلفون”

 ابتسمتُ لأنّه لم يفعل فلطالما آمنتُ بأن للقدَر جِسما سِريّا يقف حائلا في الوقت حين ينزل الحُبُّ بين قلبين أحدهما عابرٌ والآخر شاعر. ابتسمتُ لأنه حاذاه ولم يتجاوزه

ولأني كنت أقوى مما ظننت. مضيتُ وأنا أفكر في ذلك الشيء الذي تمزّقَ داخلي أمام سماءٍ رأيتُ النّارَ في زُرقتِها. شيءٌ ما كان يوحي بالدّم فيهما..

– أنا على عكس من يضعون النّظارات الطبيّة لديَّ فائض في النّظر. فكّرتُ في هذا.. وقلت ربما هو “أحمر”! فالأرواح لها ألوان أيضا.

كنت أريد أن أغوص أكثر وأقرأ أكثر. فبلا زجاجٍ الأشياءُ تنفصل عن بعضها أراها تتفكّك وتبتعد وتأخذ أشكالها كما تقع في وضوحِها بينها دون كَدماتِ الظّاهر! نظرتُ إلى ظهر يدي اليسرى وإلى عروقها البارزة: -هي ليست خضراء، هي تلمع تماما، ذهبية جدا جدا إلى حَدِّ الفِضّة، هي على شكل A على شكل شيء ما!

 أشياء.. أشياء تبدو ولا تبدو.. تبتعد وتقترب.. تشبه أحلامي قليلا.. أخطائي كثيرا.. إلا نفسَها ونفسي. هكذا أرى حينَ لا ألبَسُ نظّارتي.

ذات يوم بعد أكثر من عام..

كعادتي كنت أسبح في العالم الذي يقع خلف زجاج نافذة السيّارة. كانت نظّارتي مكسورة! لهذا بدا الكون المتحرِّكُ ناقصا من اتّساعه وانتفاخه فتراكُم الزجاج يجعلني أستمتع بالتّمويه وأتخيل.. فقط أتخيل ما يقعُ خلف الجبال وفي باطنها، فوق أغصان الأشجار السّحرية، الأجنحةَ التي تُخفيها الغُيوم، الأسواق التي تحت الأرض، الأرواحَ التي تسبح مع ذرّات الغبار والهواء. والهُمومَ التي يحملُها النَاس فوق رؤوسهم. لكن بلا نظارتي أرى ذلك جَلِيّا، كأنه يحدث في عينيَّ فأخاف.. أخافُ من شيء ما…!

عند مُفترق الطُّرقِ الفاصل بين الشّمال والجنوب نادتني أمّي..

-حياة أنظري إنّه عمُّك… ثمّ أردفت: -ماذا يفعل هنا؟

كان عليّ أن أنفُضَ تلك الكائناتِ مِن بصيرتي في لحظةٍ واحدة، لكن السّيارة كانت تسير بمقدار عشر قفزات في اللّحظة الواحدة، وعمّي الذي كان يرتدي بدلة عسكريّة، تعرّفتُ في لقائنا الأوّل على شعره التُّرابيّ، على كتفيهِ وبدلته السّوداء التي بقيتُ معلقةً فيها وهي تبتعد.. تبتعد.. تبتعد جِدًّا!

عمّي أصبح شجرةً ثم فسيلةً ثم تحفة، ثم بُقعة ثمّ لا شيء..

لهذا كنت سأبكي لولا أربكني تباطؤ السيارة قليلا.. كثيرا ..

توقفّتْ السّيارة ودُموعي أيضا. شيءٌ ما جعلني أُنزِل الزّجاجَ وأَنزِل مِن نفْسي.. مَشَيت دون أن أتحرّكَ من مقعدي واخترقتُ تلك الحشود. دعستُ على الدّماء. شيء ما هناك يشبه حبّا -كان سيصل لو أنّه سافر على حِصان- لَهُ جُثَّةٌ أعرِفُها.

شيءٌ ما ضرب روحي على رُكبتيها فهوَيتُ في غفلة الأقدام المُتراجِعَةِ إلى الخلف. يداي “أنا” امتدّتا إلى الأمام وقَبَضَتا الإسفلت اللّزجَ بينما كلّهم يمنعون بعضهم عن ذلك! عينان في أَوَجّ المَوج طاعنتان في البحرِ كانتا تطيران نحو الغيبِ، تبلعان الشواطئ، تُكسّران الصّخور، تنظران نحوي عابرتين الثُّقبَ القديم. وأنا أنفصم في صمتٍ، أرحَلُ مِنّي..

 ظنّوا شهيقي هلعا لكنّه حُبٌّ تكسَّرتْ صفائحه في دمي وخنقتني شظاياه. وهم يبلّلونني بالماء. وأنا أختفي عن عينيه. وهم يَخُضّونني كما يَجدر بي أن أفعل به، كُلُّ ما أردتُه “نظّارتي”.

____________

يناير- 1فبراير 2017

 

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *