عريس للجارة

خاص- ثقافات

*د.محمد عبدالحليم غنيم

وصلت إلي البيت فى الثانية بعد الظهر ، لم أجد أمي فى المنزل ، تناولت من جارتي المطلقة مفتاح البيت ، وشكرتها بالطبع ، فأنا كما تعلم دمث الأخلاق ، مؤدب ، خجول وقت اللزوم ، وبالجملة سمعتي طيبة ، انظف من الجنيه كما يقولون ، ولما أقول لك ذلك ، فأنت تعلم كل شئ ، المهم يا صديقي الأوحد أكلت ثم جلست أقلب فى الجريدة باحثاً فى عناء ودأب تحت باب وظائف خالية ، ولما لم أعثر علي بغيتي ، غلبني النعاس ، فقمت إلي السرير ونمت ولم أستيقظ إلا فى الثامنة مساء علي طرق جارتي علي الباب ، تسألني إذا ما كنت فى حاجة إلي شئ ، تطلعت إليها من أسفل إلي أعلي بعينين مجهدتين لا يزال يجثم فوقهما آثار نوم كابوسي واحترت ماذا أقول لها ؟ فأنا أريد كل شئ ، ينقصنى كل شئ ، حدقت فى جسدها اللين الريان خلف الجلباب الذي ترتديه فوق اللحم . قلت فى نفسي هذا اللحم هو كل شئ ، ابتسمتُ  وابتسمتْ هي الأخري ، وأظنها – المعلونة – فهمت ، شدت الثوب علي جسدها بحركة آلية ، فأنكشف ما انكشف وطار صوابي ، غامت الدنيا فى عيني فوجدتنى أحدق فى جسد يغلفه ضباب كثيف ولما أفقت سمعت الباب يصفق بشدة، فعلمت أنها خرجت مسرعة .

جلست لاهثاً فوق المقعد الوضيع خلف مكتبى ، وكنت أسمع دقات قلبي سريعة متلاحقة تتصاعد من داخلي .. ورويداً رويدا هدأت ، فلعنت الزمن والسنين والأيام وجارتى وأمها وأبي وأمي وأنت وكل الذين أعرفهم وكل الذين لا أعرفهم ! وكنت أعرف أنني نمت ما فيه الكفاية ، ومع ذلك صعدت إلي السرير الحديدي الأسود، لففت نفسي جيداً فى اللحاف ، مغمضاً عيني ، ومغطياً جميع أجزاء جسدي وقلت لنفسي ولكم يا أولاد الفقراء فى الأحلام لنعمة كبيرة .

جاءنى أبي وقال أنت سبب نكبتى ، صرفت عليك دم قلبي ، ودخلت السجن من أجلك ، ومن أجل العجفاء أمك .. ها أنا كسيح .. وكان يحمل سكيناً فى يده ، عندما اقترب مني تأكد لي أنها سيجارة ، وكنت قد امتعضت وأظنني صرخت .. غير أن المؤكد أن إحدي قدمي كانت خارج اللحاف ، فأحكمت اللحاف حول جسدي مرة أخري وأنا أشعر بلذة غريبة فى استجلاب الأحلام رأيت جارتي عارية وسط دخان كثيف ، معلقة بين الأرض والسماء مثل كوكب على وشك السقوط ينسدل شعرها الأسود فوق ظهرها العاري وتبدو قدماها صغيرتين ، كانت تشير بإحدى قدميها نحوى فانبطحت فوق الأرض وأحسست بشعرها يغطي جسدى كله إلا قليلاً فأخذت أحدق فإذا أنا أحدق من ثقب حجرة باب أمي ، وأري أمي العجفاء عارية ، فكاد يغلبني البكاء ، إذ تبينت أن أمي ممصوصة عظم بلا لحم . وعجبت كيف يكون ذلك ؟ فحدجنى الموظف ذو الشعر الأشيب الجالس خلف المكتب القبيح فى احتقار : هذه تعليمات يا سيد ! فصرخت ، الرحمة يا ناس ، وهنا اكتشفت أن قدمى الاثنتين خارج اللحاف وأننى كنت أصرخ صراخاً حقيقيا .. ويبدو أنني عدت لوعى فاستحال النوم واستحالت الأحلام ، فلعنت موظف شئون العاملين الذي لا أعرف غير اسمه الأول ، وتذكرت المرأة الجميلة التى كانت تجلس أمامه فلعنتها هي الآخرى ، وهنا أدركت فقط لماذا تجهم فى وجهي وطردني من المكتب ! إذن هي المرأة عليها اللعنة للمرة الألف ، وعلي أنا الآخر ، يا لغبائى .

تمزق اللحاف المتهرئ وبرد ديسمبر لا يرحم ، وزاد الطين بلة شعوري بالجوع .. ماذا أفعل ؟ دبرني يا وزيري . يحكى أيها الملك السعيد ذو الرأي الرشيد ، أنه كان فيما مضى من الأزمان رجل فقير من العامة وكان فى سن الشباب وكان وحيداً فى بيته – ذات ليلة – بلا طعام ولا مأوي ، أبوه فى سجن الحاكم ، وأمه تعمل خادمة عند أحد التجار اليهود .. وأنه قرصه الجوع وآلمه البرد فبكي وأنّ وأشتكي وقال الجملة التى لا يرد قائلها .. لا حول ولا قوة إلا بالله . واتفق أنه فى ذلك الوقت كان اثنان من الجن يرقبانه ، رجل وامرأة يريانه دون أن يراهما ، قال الجان : مسكين وقالت الجنية: جميل الوجه ، لولا الفقر لبدا كقمر أربعة عشر كما يقولون عندهم ، أزوجه ابنتي ، وكان للجنية ابنة جميلة نصفها بشر ونصفها من الجن وكان للجني ابنة أيضا نصفها بشر ونصفها من الجن ، ولكنها قبيحة ولم يرض أن يتزوجها أحد من بني جنسها .

عند ذلك قمت مفزوعاً أتصبب عرقاً ، حمدت الله الذي أزاح عنى هذا الكابوس .. ولكني سرعان ما اكتشفت أن البرد يحاصرنى من كل جانب وضحكت وأنا أتخيل البرد رجلاً يفتك بالناس الفقراء أمثالي ويستكين ويطأطأ الرأس للآخرين .

وفجأة فإذا بي وجها لوجه أمام جارتى المطلقة اللدنة وأمها العجوز التى كنت أعرف أنها أتت لزيارتها اليوم فى البدء لم أتبين شيئا مما حولي كل ما سمعته صوت العجوز وأحسست بيدها فوق كتفى .

  • اسم الله عليك وحواليك يا ابني .. الشر برة وبعيد .

أغمضت عيني خجلاً ، كانت المرأتان تحيطان بى ، حاولت السيطرة علي نفسي ، تواردت علي خواطر عدة .. ماذا حدث ؟ هل ماتت أمي هل حدث حريق ؟ كيف دخلت المرأتان ؟ كتمت كل هذه الأسئلة فى داخلي وبدأت أشعر بروح سلام فى الغرفة أكده صوت جارتي متوددة .

– تبات معنا الليلة يا سي محمد ، دا أنت يا خويا عيان .

وأضافت العجوز :

– قوم يا ابني دا احنا أهل وأنا وأمك طول عمرنا أخوات .

فوجدتني أقول لها :

– تعيشي يا خالتي .

ولاحظت الارتياح علي وجه العجوز ، كل ذلك مر أمامي كحلم ، لا أكاد أصدق نفسي ، كنت أداري نصفى الخلفي ببقايا اللحاف ، وقيامي معناه انكشافى عري أمامهم .. وكان إلحاح المرأتين يكاد يزهق روحي ورغم ذلك قلت لهما سوف ألحق بكما ، وكنت أعرف أن أمي التى لعنتني ولعنت أبي وجدي وجميع أهلي والدنيا هذا الصباح لن تعود الليلة بل ولا بعد أسبوع.

قامت المرأتان تجران ذيل خيبتهما ، تظنان أنني لن أذهب إليهما ، وقمت بمجرد اختفائهما عن عيني ، ارتديت بنطلونا غير مكوي وقميصا قديما ولحقت بهما .

قابلتني جارتي علي الباب غير مصدقة ، تكاد تطير من الفرح نحو أمها لتنقل لها خبر وصولي .

– سى محمد وصل .

وكنت أنا ابن الحواري – أعرف لماذا هي سعيدة فضحكت فى نفسي منهما وكانت ليلة شعرت فيها بالدفء لأول مرة وكانت التلميحات تكاد تفضح نفسها لتؤكد لي أنني عريس المستقبل ، ووجدتني لأول مرة أجاري المرأتين فيما تبغيان بينما تتدفق أنهار الشاى وأحمال الفواكه فى جوفى ، ومنذ تلك الليلة بدأت أشق طريقا جديداً فى الحياة وما زلت مندهشاً لِمَ لمْ اكتشف هذه الطريق من قبل؟!

 

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *