حين يطرح عليّ سؤال الصحافة المعتاد “لمن تكتبين؟” أجيب بانفعال “لأي أحد يقرأني”. إن السؤال بليد، فهو يكشف اعتقاد الصحافة أن الكاتب يفترض، مثلها، “جمهورًا محتملًا”.، وهو يبدو مشابهًا لواحد من مبادئ السوق المعادية للفن: اعطِ الجمهور ما يعرفه. لكن الكتّاب – والمبدعين على اختلاف مجالاتهم- خُلقوا لكسر رصيف العادة وخرق السياج الذي يطوّق الإحساس: رد فعل خيالي حر ينمو مثل العشب. نؤمن جميعًا أننا قادرون على إطلاق القواسم المشتركة الجوهرية للروح البشرية، ولا يحد امتدادنا سوى حجم موهبتنا، أليس هذا في النهاية هو ما تلقيناه بأنفسنا من لمسات الكتاب الآخرين؟
إن لم نكن ننتج لشركة ميل وبون للنشر، إن لم نكن نكتب منشورات سياسية متخفية تحت ستار أعمال خيالية، لن يكون لنا رفقة في الظل من الرؤوس هناك، من معجبي البرامج الحوارية، أو من أنصار الحزب، لكن شعرت لبعض الوقت بشيء من الانزعاج لقولي “لأي أحد يقرأني”، وقد عاد إليّ الصدى: “أوه حقًا؟ عجبًا!”
أخذت أفكر أنه هناك سؤالًا لا بد من طرحه، لكنه ليس” لمن نكتب؟” بل “لمن يمكننا أن نكتب؟” أليس هناك شيء من قبيل الكاتب المحتمل ربما؟ الافتراض المعكوس؟ وهل يمكنني تجاهل ذلك بشكل مستبد؟
خطرت لي هذه الشكوك – أو الأفكار بشكل أدق- من قراءاتي في النظرية الأدبية بمرور السنين أقل من كونها نتيجة التجربة في العالم ليس بين الأشخاص العاديين – لا أحد عادي بالنسبة للكاتب- بل بين أشخاص ليسوا من عالم الأدب، وهذا لا يعني أنهم لا يقرؤون، بل أن قراءاتهم لا تقع في نطاق الثقافة التي يفترضها الأدب مقدمًا.
وهنا كان لا بد من تصحيح الذات ثانية. تتكون الأفكار عبر التناقضات بين النظرية الأدبية- التي تعنى بالطبع بإدراك القارئ إلى جانب مقاصد الكاتب الواعية وغير الواعية- وبين التجربة الفعلية للرجل أو المرأة كطرف مستقبل لكل هذه التأملات: القارئ العام.
لأن القارئ العام لا بد أن يكون ذلك الذي أضعه في اعتباري حين أجيب أنني أكتب “لأي أحد يقرأني”. لقد كنا جميعًا قبل أكثر من عشرين عامًا، مدوّخين أو مرتابين (أو كلاهما معًا) باكتشافات البنيوية وتحليلها لإبداعنا وعلاقتنا بالقارئ، وبدت الشروحات الفرويدية التي تحمس لها بعضنا بسيطة ومتوقعة بالمقارنة بها. لقد كان اللاوعي جوهريًا على خلاف المنهجية الدقيقة لعمل مثل، لنقل كتاب س/ ز لرولان بارت، الذي نشر عام 1970 بناء على عمل أنجز في الستينيات، والذي تحول فيه التركيز الكامل من الكاتب إلى القارئ. لقد كان هدف بارت “نفي صفة المستهلك عن القارئ وجعله منتجًا لنص يمكن قراءته وليس كتابته”. لقد أعيد تعريف الرواية والقصة القصيرة والقصيدة على أنها “مجرة من الدلالات”1. لقد كان إيمان بارت بالقراءة، كما لخصه ريتشارد هاورد، بأن “ما يقص هو نفسه عملية القص دائمًا”2.
إن استقراء أعمال الكاتب في كليتها وبيان ملامح “مشاهدها الداخلية” هو الهدف الدقيق للبنيويين والظاهراتيين الحاليين. وتدرك كل هذه المناهج، كمبدأ أساسي، أن لكل كاتب بنيته المميزة من الأفكار والأحاسيس، ومن القدرات والأدوات.3
لقد جعلت عبقرية بارت، بعنصرها الطريف المقدس، وتجعل القراءة سحرًا لمن يتقاسم منا من خلفيته الثقافية ما يكفي على الأقل للحصول على لذة جمالية وتجلٍ من “دلالاته” المأثورة. إنها لعبة تحرٍ يتحقق فيها الإشباع من تفسير اللغز على نحو صحيح، لشرلوك هولمز أساسًا، ولكن ليس لعزيزي واطسون. لقد كان بارت في تحليله البنيوي لرواية بلزاك القصيرة ساراسين هو شرلوك هولمز الذي يميز باستمرار، مستشفًا من تجربته الثقافية الثرية جدًا، أثر علامة ثقافية على أخرى.
إن القارئ هو واطسون الذي قد لا تفيد “الدلالة” شيئًا سوى نفسها بالنسبة إليه، إن لم يكن ثمة شيء في نطاق تجربته الثقافية تحال عليه. إنها قطعة قماش لا تتناسب مع أي لون في منظوره، نوتة موسيقية لا يمكن نظمها في أذنه. ولذا فحتى لو قيل له إن قصة بلزاك ساعة الإليزيه بوربون تطرح فعليًا إشارة مجازية إلى شارع فوبور سانت أونوريه، ومنه إلى باريس في شارع بوربون المجدد، ومن ثم إلى التجديد “كمكان أسطوري للثروات المفاجئة التي يشك في أصولها”.4 ويظل هنالك مساحة يفترض بالقارئ فيها أن يقرأ “ما لم يُكتب”. تعمل الدلالة في نظام مغلق، فهي تفترض مسبقًا سياقًا ثقافيًا مشتركًا بين الكاتب والقارئ أبعد من مجرد معرفة القراءة والكتابة. ولا يمكن للقارئ دون ذلك المصدر أن “يقرأ” النص بمقدرة بارت.
يقول بورخيس “إن الكلمات رموز تفترض ذاكرة مشتركة”.5 ودون هذه الذاكرة المشتركة سيغدو فوبور سانت أونوريه مجرد اسم حي، ولن يكون له صلات بالأناقة أو صلات اجتماعية أو ثقافية، إما كصورة مستحضرة من زيارة باريس أو كرمز موصوف في كتب أخرى، أو مرسوم في لوحات. لن يستدعي شارع بوربون المجدد أي إشارة على أنه “مكان أسطوري للثروات المفاجئة التي يشك في أصولها” لأن القارئ لا يعلم مكانة شارع بوربون المجدد في التاريخ الفرنسي السياسي والاجتماعي. وليست التبادلات متعددة الجوانب في الفنون والآداب والسياسة والتاريخ والفلسفة، التي يعتبرها بارت بدهية، مسار وجود القارئ.
حين يقول المرء إنه يكتب لـ “أي أحد يقرأني” فلا بد أن يكون مدركًا أن “أي أحد” تستثني عددًا كبيرًا من القراء الذين لا يستطيعون قراءتك أو قراءتي بسبب الاهتمامات التي لا يشاركونا إياها في مجتمعات غير متكافئة إجمالًا. كما أن المكاتبات البودليرية حول النظرية الأدبية في وقت سابق لا تناسبهم أيضًا، لأن “مكاتبات” تتضمن إدراك أمر ما بالارتباط مع آخر، والذي يمكن حدوثه فقط ضمن نظام المصدر الثقافي نفسه. هذه هي الحالة حتى بالنسبة لنا، مثلي، نحن الذين نؤمن أن الكتب لم تخلق من كتب أخرى، بل من الحياة.
وسواء أأحببنا ذلك أم لا، يمكن أن “يقرأنا” قراء يتقاسمون مصطلحات المرجعية التي تشكلت في داخلنا بفعل تعليمنا؛ ليس الأكاديمي فحسب بل في التصور الأوسع للتجربة الحياتية: مفاهيمنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وقيمنا المشتقة منها، وخلفياتنا الثقافية. ويظل حقيقيًا حتى بالنسبة لأولئك الذين خلقوا مسافة كبيرة بين أنفسهم وبين قيم معينة من الطفولة: أولئك الذين غيروا بلدانهم و قناعاتهم ونمط حياتهم ولغاتهم. إن المواطنة العالمية هي تبادل ثقافي آخر فحسب، بمجموع معطياتها التي قد تنبثق من عدة ثقافات وتصبح في مجموعها شيئًا يختلف عن كل واحد منها.
“في زمننا، يطرح قدر الإنسان معناه بمصطلحات سياسية” هذا ما يقوله توماس مان، وقد اقتبسته كشعار لواحدة من رواياتي الأولى. كنت أرى العبارة عندها قدرًا لشخصياتي، والآن أرى أنها قد تنطبق على قدر الأدب. لأنه إن كانت السياسة تفسر الأدب، فعلينا قبول أن مصير الثقافة لا يمكن فصله عن السياسة. حين طرح إيتالو كالفينو السؤال على نفسه: “لمن نكتب؟” كتب “بالنظر إلى انقسام العالم إلى معسكر رأسمالي ومعسكر إمبريالي ومعسكر ثوري، فلمن يكتب الكاتب؟” 6
وإن كان يرفض الكتابة لأي معسكر – إن كان له مغزى- بعيدًا عن ولاءاته السياسية الشخصية (وأظن أن هناك أكثر من تلك التي يسمح بها كالفينو)، يكتب الكاتب حتمًا من داخل واحد منها، والقارئ يفعل الشيء نفسه، فإن لم يكن معسكره هو معسكر الكاتب نفسه، فيُفترض به على الأقل أن “يقرأ” في دلالات الكاتب بعض العلاقة بدلالاته هو، ذات المرجعية الثقافية المختلفة.
لكن القارئ لا يعثر كثيرًا على معادلات، في تلك الثقافة، للبعد المرجعي للكاتب، لأنه لم “يقرأ” ذلك البعد. لأنه لا يستطيع. تسلط الصورة والكلمة الدلالية الضوء على رسالة لا يمكن تلقيها عبر مجموعة مختلفة من التصورات المسبقة.
يحدث هذا حتى على مستويات ثقافية متماثلة ظاهريًا. في مراجعات أدبك والحوارات التي تجرى معك، يمكن لهذه العملية أن تفقس في نصك مثل بيضة طائر الوقواق. ولن يكون تمييز الناتج ممكنًا، لكن القارئ والمراجع والصحفي يصر على أنه خاصتك.
لقد مررت بهذا حين قدمت إلى الولايات المتحدة الأمريكية لنشر إحدى رواياتي بعنوان “ابنة بيرغر”، فقد كانت شخصية الابنة والشخصيات الأخرى في القصة متمركزة حول شخصية ليونيل بيرغر، مجسدة ظاهرة – ومشكلة- إيديولوجية كالإيمان في أسرة جنوب أفريقي كرس حياته– باعتناقه الشيوعية- وحياة أطفاله لتحرير جنوب أفريقيا من نظام التمييز العنصري.
وُصف بيرغر في المراجعات بدقة بالليبرالي؛ وقد كنت أنا نفسي مذنبة لرفضي اللامعقول للانصياع لمذيع برنامج حواري شهير عندما اعترضت على وصفه لبيرغر بالليبرالي الأبيض النبيل.
“إنه ليس ليبراليًا، بل هو شيوعي”، قاطعته.
لكن هذا كان سيئًا. لم “يقرأني” أحد من هؤلاء القوم لأنه لا يمكن للشيوعي، بغض النظر عن البلد أو الظروف الاجتماعية، أن يكون رجلًا صالحًا، وفقًا لأخلاقيات الرأي العام في المجتمع الأمريكي. ومع ذلك لا بد من الاعتراف بأن بيرغر كان رجلًا صالحًا لأنه كان محاربًا ضد العنصرية؛ بالتالي لا بد أن تكون قصدي أن بيرغر كان ليبراليًا.
هذا لا يتعلق بخطأ القراءة أو بسوء الفهم، بل هو استبدال مجموعة من القيم بأخرى، لأن القارئ لا يمكنه تبيّن تلك المختلفة.
ومع ذلك ليست السياسة بل الطبقة هي التي تضع وجود القارئ العام، “لأي أحد يقرأني”، موضع التساؤل. وأنا أعني بالحديث عن الطبقة الإشارة إلى الاقتصاد والتعليم وقبل ذلك كله إلى ظروف المعيشة، والإطار الثقافي من القوانين إلى المراحيض، ومن الشقة (في ناطحة سحاب) إلى ملجأ الفقراء، والسفر بالطائرة أو مشيًا.
أعترف أن الاختلاف بين ظروف الحياة المادية المشار إليها في النص وظروف القارئ لا بد أن يكون شديدًا وواضحًا في حياة القارئ اليومية المستمرة، إن تعذر عليه “قراءة” الكاتب. ولا ينبغي الاستخفاف بقوى الخيال، لأنها تولّد معجزات أحيانًا لما يكون، في غموض العمل المقروء، الأكثر محدودية من الروابط المرجعية. لقد استطعت، كابنة في السابعة عشرة من عمرها لصاحب متجر في بلدة تعدين صغيرة في أفريقيا، “قراءة” ذكرى الأمور الماضية، لماذا؟ لأنه، رغم أن السلالة التي ابتكرها بروست، المخلصة جدًا لطبقة النبلاء الفرنسيين والكريمة وحديثة النعمة، لم تستطع “أن تدل” على الكثير بالنسبة لي، إلا أن الأعراف العائلية التي يبدأ بها الكتاب، كما يقال، وتحضر على امتداد العمل – الطريقة التي يعبر بها عن المشاعر في السلوك بين الأم والطفل، موضع الصداقة في العلاقات الاجتماعية، تبجيل الجنسانية على أنها حب رومانسي، تنظيم الحياة اليومية بالوجبات والزيارات، الأمراض الخطيرة- كل هذا كان ضمن سياق حياة الطبقة المتوسطة، مهما كانت بعيدة.
وبالمناسبة، من أين حصلت على الكتاب؟ يا إلهي! من المكتبة العامة؛ وقد كنت أستطيع الدخول إلى المكتبة لأنني بيضاء، وبالتالي كان هذا بالنسبة لي جزءًا من حياة الطبقة المتوسطة أيضًا. لا يمكن للسود دخول تلك المكتبة؛ وبالتالي كان يافع أسود من عمري يُقصى من “قراءة” مارسيل بروست بسبب الطبقة واللون معًا: لافتقاره إلى أي خلفية ثقافية مشتركة وبسبب الظروف المادية العنصرية..
ما تزال الاختلافات التأويلية بين الكاتب والقارئ قوية في عالمنا، برغم تقدم الاتصال التقني. فهنالك طبقة من الثقافة العامة تنتشر في أنحاء العالم الأول والثاني والثالث عبر الأقمار الصناعية وأشرطة التسجيل. قد يعتمد الكاتب على تلقي قارئ من إيسلندا أو زمبابوي وفي أي نقطة أخرى من الخارطة تقريبًا بعيدة عن بعضها البعض لـ “دالة” مثل دالاس أو رامبو بشكل كامل وصحيح. لكن اتساع هذه القراءة المحتملة قد يضيق على الكاتب بشكل مضاد؛ مولدًا، كما يبدو، شيئًا قريبًا من القارئ العام، فتقيد الكاتب بما يشبه الكتاب التمهيدي للثقافة، إن كان يتوقع أن “يُقرأ”، وتقصي دلالات لا يمكن تعريفها في ضوء هذه الأبجدية. لقد تقلصت توقعات الكاتب بقراءة أوسع إلى حد مناقض بسبب توسع الاتصالات التقنية.
ويبقى أثر الاختلاف الحاد في الظروف المادية بين القارئ والكاتب حتميًا، فاختلاف كهذا يؤثر بعمق في الخيال ونسبية القيم والتأويل المرجعي للأحداث بين المعطيات الثقافية لمعظم الكتّاب، وبين –على سبيل المثال- الطبقة الجديدة من الفلاحين والعمال المتعلمين، التي حررتها القيمة المتبقية للرفاهية المكتسبة عبر المكننة والحوسبة.
من حين لآخر يحاول الكتّاب الذين يتوقون إلى أن “يقرأهم” كل من يقرأهم، إلى تجاوز ذلك بطرق مختلفة. جرب جون بيرغر العيش بين الفلاحين محاولًا النفاذ إلى نظرتهم للحياة التي شكلتها التجربة، فهو يكتب عن حياتهم بأسلوب يشرح لنا، نحن الذين لسنا من الفلاحين الفرنسيين، فـ”نقرأه” بكل خبرة الغرابة الأدبية التي نتقاسمها معه، وبالحياة باعتبارها أدبًا يقدم الطبقات الضرورية للدلالة. وهو لا يبين إن كان الفلاحون يقرأون ما يكتب، لكنه يشير إلى أنهم مدركون أنه يصل إلى شيء لا يصلونه: “هيكل آخر للمعرفة، معرفة بالعالم المحيط لكنه بعيد”. تلخص مراجعة حديثة لواحد من كتب آن ماسون المشكلة العامة: “إنها تكتب نمطًا من الأدب لن يقدم شخوصها على قراءته أبدًا”.
في بلادي، جنوب أفريقيا، ظهرت مؤخرًا قراءة محتملة أوسع لكتّاب من شعبنا الذي يبلغ تعداده 29 مليون نسمة، 5 ملايين منهم فقط من البيض. أسست النقابات التجارية والاتحادات الاجتماعية للأغلبية السوداء مكتبات ونقاشات ثقافية، بدافع سياسي، مدركة أن تشجيع الأدب جزء من التحرر.
لا أؤمن الآن بوجوب التقيد بذلك. (لو حوصرت بهذه الطريقة فلم أكن لأصبح كاتبة بلا شك). حين يتقد حب الأدب، فسيتغلب على الكثير من العقبات للوصول إلى الفهم، وستنمو المفردات في حجمها وفقًا لمهارة الكاتب في تقديم وثبات خيالية، لكن هذه لا بد أن تحط في مكان ما معقول، ولا يشترك معظم الكتّاب بالرأي حول نوع القراءة المحتملة التي وصفتها للتو.
في أفريقيا وكثير من الدول، يمكن لقصص أبدايك المكتوبة بشكل جميل حول هواجس الطلاق والخيانة أن تفجر بضع استجابات مرجعية لدى القراء الذين يحددون الحياة العائلية والحميمة بحسب ظروف القانون والنزاع التي تشترك بالقليل مع نظيرتها لدى الطبقة المهنية في ضواحي أمريكا؛ فمشاكلهم الداخلية تتعلق بتوقيف الأطفال وهروب العشاق من البلاد بسبب قوى الأمن، وهدم السلطات للأكواخ البلاستيكية وجمع الزوج والزوجة لها ثانية.
تفترض روايات جابرييل جارسيا ماركيز، الشيوعي، بهجة التلقي في الأسلوب المثير للعاطفة الذي قد يلقى تجاوبًا ضئيلًا لدى أولئك الذين تفوق خبرتهم الحقيقية كل النهايات. وتتطلب الخيالات البديعة لإيتالو كالفينو افتراضات بين القارئ والكاتب ليس مردها إلى التجربة وحدها.
إن الحياة ليست بهذا الشكل من أجل هذه القراءة المحتملة، ولا تُبتكر الكتب من كتب أخرى أو لها. وعلاوة على ذلك، وليس العرض الخيالي لما قد تكون عليه الحياة بهذا الشكل، ولا يمكن “قراءة” هذه النصوص حتى من أجل الإلهام الذي تفترضه.
من المؤكد أن هذا يصدق على معظمنا من الكتّاب الجادين، في معظم البلدان –ومنها- التي لا تتوافق فيها الظروف المادية مع ظروف القارئ المحتمل إلى حد بعيد، وهذا واضح جدًا في جنوب أفريقيا. فالكتّاب البيض، الذين يعيشون كجزء من أقلية تحظى بامتيازات كبيرة، بعيدون بعوالم عن ظروف عامل منجم مهاجر يعيش في واحد من بيوت الشباب، أو معلمة مدرسة سوداء تواجه تلاميذ يجازفون بحياتهم بوصفهم ثوار، أو الصحافيين والأطباء والموظفين السود الذين يضايقهم رجال الشرطة والحراس قرب منازلهم. تبدو الفجوة أحيانًا كبيرة جدًا يصعب تجاوزها حتى على القوة الأكثر حساسية وموهبة للحدس والتصور الإبداعي.
أنا لا أقول، ولا أؤمن، أن البيض لا يمكنهم الكتابة عن السود، أو السود عن البيض، فحتى الكتّاب السود الذين يشتركون مع هؤلاء القراء في التعرض للكراهية والإهانة بموجب القوانين العنصرية، يكتسبون أساليب الطبقة الوسطى أو الطبقة المميزة في العيش والعمل الملازمة لمؤشرات الطبقة الوسطى، رغم أنها ليست شائعة، وهم يشقون طريقهم ككتّاب.
يمكن للكتّاب السود غالبًا من خلال وعي ذاتي للذاكرة – مستغلين دلالات الطفولة، قبل انضمامهم إلى نخبة الأدباء، أو موظِفين الذاكرة الجمعية لتقليد شفاهي- يمكنهم أن يتأكدوا أنهم “سيُقرأون” بواسطة قرائهم. إن حرية الحركة- نزهات نهاية الأسبوع أو الإقامة في الفنادق أو اختيار المهنة- التي تحدد حيوات الكثير من الشخصيات الأدبية، لا تشير إلى عامل مهاجر لا يتيح له عقد عمله الإقامة في البلدة إن غيّر عمله، وتنحصر “إجازته” في نهاية ثمانية عشر شهرًا في منجم تحت الأرض بالعودة إلى بلده للحرث والزرع.
إن المراهق المدلل الذي يتمرد على مادية أبويه المحافظين لا تدل على الأطفال الثوار، الظاهرة المتنامية في أمريكا اللاتينية بالإضافة إلى جنوب أفريقيا، الأذكياء والناضجين باكرًا، الذين هجروا آباءهم ولم يعرفوا الراحة في المنزل، واضطلعوا بقرارات موتهم وحياتهم. ولن يعثر المرء حتى بين القراء من طبقة المثقفين في هذا الإطار، من “الحزن الوجودي” – غثيان سارتر أو سخط فرويد- على علاقة مقنعة حيث يكون هناك انشغال كلي بالبقاء. لا يمكن قراءة غنائم بوينتون 7 بوصفها تعظيمًا لمذهب التملك من قبل شخص لم يسبق له رؤية أغراض كهذه لامتلاكها، شخص لا تستجيب حاجاته للجاذبية التي يُفترض أنها (الأغراض) تثيرها، هذه الجاذبية التي يفترض الكاتب أنها قرئت.
وقد يخطر لك أن تعترض بالقول: من سيتوقع أن موظفًا قليل التعليم أو مدرسًا سيقرأ لهنري جيمس؟ لكن، كما حاولت أن أشرح، من المفترض أن هنالك الكثير من الدلالات المشتركة في الأسلوب الثقافي للكاتب، التي لا تلقى مرجعيات في تلك القراءة المحتملة الواسعة.
ما الذي يمكن للكاتب الاعتماد عليه إن تشبث بإصرار بإمكانية أن يكتب المرء لأي أحد يقرأ كتابًا لأحدهم؟ فحتى العواطف الأساسية مثل الحب والكراهية والخوف والفرح والحزن قد تصاغ في تعابير لا تجد تماثلًا في الاصطلاح بين ثقافة وأخرى.
ربما يمكن للكاتب أن يعتمد على الأسطوري، على شخصنة المخاوف، مثلًا، المدركة والباقية من الماضي المشترك للاوعي، حين كنا جميعًا في الكهف معًا، وحين لم يكن هنالك أعراق أو طبقات بعد، وحين كانت شعرانيتنا تغطي اختلاف ألواننا.
يعد الأمير الذي تحول إلى ضفدع والصرصور الذي استيقظ غريغور سامسا ليجد نفسه قد تحول إليه تجسيدًا للخوف من تحولنا إلى شيء فظيع، سواء أكان ذلك بفعل السحر الشرير للشامان أو بفعل خسارات الذات النفسية، هو الذي يصمد عابرًا كل الحواجز بما فيها حاجز الوقت، ويمكن لأي أحد ولكل أحد قراءتها. ولكن كيف يأمل بعضنا – الكتابَ- بخلق الكرة البلورية التي يمكن قراءة المعنى من خلالها، صافيًا ومطلقًا، إنها آنية النبوغ التي ستحرز، وحدها، مرة بعد أخرى، العالمية في الفن.
وبالنسبة للبقية منا، ليس هنالك ثقافة عليا. يتعين علينا أن نتواضع في مزاعمنا، فليس هنالك قارئ عام أبدًا. و لا يبدي قدوم الألفية عندما سيصبح الفن فهمًا عالميًا أية إشارة أنها على وشك تحريرنا من قيودنا.
___________________
1- رولان بارت، س/ز (S/Z )، ترجمة ريتشارد ميلر وتقديم ريتشارد هاورد (هيل آند وانغ)، ص5، ترجمه محمد بن الرافه البكري وصدر عن دار الكتاب الجديد المتحدة، 2016
2- ريتشارد هاورد، تعليق على س/ز، مقدمة س/ز لرولان بارت، صxi
3- هنري ليفين، “من الوهم إلى الخيال: سيكولوجيا الكاتب”، فصلية ميتشغان ريفيو، المجلد 12. رقم 3 (صيف 1974)، ص190.
4- رولان بارت، س/ز، ص21.
5- خورخي لويس بورخيس، “المؤتمر”، كتاب الرمل ترجمه نورمان توماس دي جيوفاني (بنجوين 1979) ص33.
6- إيتالو كالفينو، “لمن نكتب؟” ذا لتريتشر ماشين، ترجمة باتريك كريغ (سيكر وواربيرغ 1987)، ص 86.