يثير الباحث مصطفى الكيلاني في كتابه “العلمانية الممكنة، العلمانية المستحيلة”، العديد من الأسئلة حول مفاهيم مثل الوجود والحرية والحداثة.
ويستهل الكيلاني كتابه بتصدير، يستدرج من خلاله القارئ إلى ما يمكن تسميته بثقافة التعرّف، وتتبع استقصاءاتها للكشف عن الكثير من النسقيات المضمرة في ثقافتنا العربية، ومواجهة ما يتبدى من ” تحديات الكتابة الفلسفية العربية اليوم”، تلك التي تتمثل مجالي النقد والفهم، ومقاربة الأسئلة التي تتوسل الراهن من المعرفة، ولإدراك مساراتها التي ستصطدم بالحداثة والتراث في آن واحد.
يحتوي الكتاب، الصادر عن دار “بيرم للنشر والتوزيع”، على ستة فصول هي نتاج جهود فكرية انشغل بها الباحث “في عدد من الندوات والمؤتمرات الفلسفية بالجامعات الجزائرية خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة”.
أسئلة الحاضر والمستقبل
يستهل الفصل الأول ”تحديات الكتابة الفلسفية العربية اليوم” بجملة الأسئلة التي تتعلق بتوصيف المشكلات التي تعانيها هذه الكتابة، وطبيعة الحاجة إلى الفلسفة، إذ تسعى للبحث عن جوهر الحاجة إلى مشروع تحديثي للفكر الفلسفي، من خلال التعرّف على الأسباب الكامنة، والتعاطي مع الأسئلة التي تخصّ الحاضر والمستقبل، حيث تتجوهر هذه الأسئلة حول محور النقد وحرية الفكر والديمقراطية وبناء الدولة الحديثة.
سؤال الفلسفة هو الموضوع المحوري في الكتاب، فبقدر ما يُثير الجدل يكون أكثر إثارة من خلال مشاكلته مع الخطاب الديني والتراث والحداثة، إذ ينطلق من ضرورة أن يكون هذا السؤال تحديا، وأن ينطوي على معاينة واقعية ونقدية للأفكار والمفاهيم، فضلا عن قصديته في “إكساب الدين صفة العقلانية بالفلسفة، وإكساب الفلسفة أبعادا أخرى اخلاقية تُجنّبها خطر الاندثار الكامل”.
يعمد الباحث في معالجته النقدية إلى استدعاء العديد من الأطروحات التي تعالج مشكلات التاريخ وأصول الفكر والتفلسف، مثلما يضع تقانة الحفر كوسيلة لتبيان الإشكاليات، وفهم التحديات والخصوصيات، وليكون النقد الفلسفي مجالا لـ”إخراج الفلسفة من ساكن المعنى”.
وفي الفصل الثاني “العلمانية الممكنة، العلمانية المستحيلة/ الدولة الوطنية العربية نموذجا”، يعرض الباحث مستويات العلمانية من خلال ثلاثة مواقف أحدها يدعو إلى انتهاج النمط الغربي، والثاني يرى في العلمانية “كفرا وتهديدا صريحا للهوية الدينية”، والثالث يدعو إلى تبني خطاب الاجتهاد مع مراعاة الخصوصيات الثقافية والتاريخية.
هذا العرض انعكس على الطبيعة العربية في فهم تلك “العلمانيات”، إذ تبدى عبر فضح آليات التعاطي معها، وتعرية طبيعة الأنماط الاجتماعية والثقافية المهيمنة، حيث كشف عن عجز ما يسمى بـ”الليبرالية العربية”، وتماهيها مع العلمانية الغربية، مقابل تضخم الأنا القومية والطائفية فيما بعد، وتراكم أوهامها و”ضمور وعي الغيرية”، وتمثلها لأشكال وأطروحات تتعالق مع مواقف الإسلام السياسي أو مع أدلجات الجماعة والحكومات العربية المركزية، أو مع اجتراح مشروع غائم للتحديث تتبدى فيه مظاهر الخوف وسوء الفهم، فضلا عن تفشي الكثير من المواقف التلفيقية، ووضع الموقف الاجتهادي في سياق يفتقد إلى رؤية واقعية وعقلانية قابلة للاستعمال.
ويقترح الباحث في الفصل الثالث “الذات العربية الإسلامية اليوم وضرورات الانفتاح” مدخلا للحديث عن إشكالية الهوية، بوصفها وجودا مشروطا، أو بوصفها فكرا، وعبر هذه الثنائية حاول الكيلاني قراءة الكثير من المرجعيات الثقافية في ملفات التاريخ والفلسفة والشريعة، ومن منطلق تمثلاتها في المنظور القرآني، وفي تداوليات الخطاب الديني ومراحل تاريخ الثقافة العربية الإسلامية، تلك التي وجدت في الهوية مأزقا، مثلما وجدت فيها مشروعا للفهم كما يقول الباحث، إذ يرتبط تحديد الهوية بالتعدد، وبترسيم صورة الغير، وبالحاجة إلى الاختلاف، ليس لأسباب المعرفة الأنطولوجية، بل لإعطائها -أيضا- حافزا لأن تكون تعبيرا عن الحقيقة، وعن الكينونة التي تستدعي “ضرورة معرفية إبستمولوجية”.
العرفاني والعلماني
يسلط الباحث الضوء في الفصل الرابع “تأويلية الفكر الإسلامي المعاصر بين المنزعين العرفاني والعقلاني” على كتاب محمد إقبال الموسوم بـ”تجديد الفكر الديني في الإسلام”، وكتاب فضل الرحمن “الإسلام وضرورة التجديد” كعتبات تناصية لمعاينة التأويل الحداثوي والسلفي، وللتعاطي مع الكثير من الإشكالات التي تتعاطي مع النظرة المهيمنة إلى الخطاب الديني، واجتزاء بعضه، مقابل تغييب العقل، وتقصي ذلك في مباحث الفلسفة والمعرفة الدينية عند الغزالي وعند الأشاعرة والمعتزلة، وهو ما اجتهد به الباحث لمقاربة مشكلة “ركود التفكير الديني خلال القرون الخمسة الأخيرة”، والتي يراها محمد إقبال انعكاسا للاستهانة بالفكر الذي هو أساس العقل، مقابل فحص مجاله الاجتهادي في دراسته للفلسفة الغربية، وللاهوت الإسلامي، فضلا عن معرفة نظرته إلى ثقافة العرفان والمنهج العقلاني في التأويل، ونقده لأفكار الغزالي ولابن رشد، ولأطروحات كانط، كما أنّ قراءته لكتاب فضل الرحمن في التأويل تنطلق من عنايته بالموضوع الأخلاقي، والدعوة إلى “تصحيح أسلوب تفسير القرآن ضمن بحثه في النزعة العقلية الإسلامية باعتماد منهج تأويلي جديد”.
ويواصل الباحث في الفصل الخامس “الفكر الاجتهادي والسؤال المستقبلي” انشغاله بالتعاطي مع موضوعة التحديات، من خلال مبحث الاجتهاد، وعبر إثارة الأسئلة التي تخصُّ قضايا تحرير هذا الاجتهاد من المفاهيم المُسبَقة، والعمل على تأصيله بوصفه منهجا يعزز فاعلية “التواصل ما بين العقل والنقل”، وكذلك تعزيز أدائيته باعتباره خطابا، عن طريق تطوير المجرى المنهجي، وكضرورة تدخل في سياق العمل المؤسسي وفي تنمية مجال البحث العلمي، والتعرّف على تاريخ الأفكار، وكذلك على وضعه كمشروع دائم للقراءة، ولتحقيق محفزات “الانبعاث الفلسفي” على أسس انثربولوجية كما يقول الباحث، أو من خلال تجاوز مظاهر وإكراهات الأدلجة التي تسعى لوضع خطاب الاجتهاد ووظائفه خارج المستقبل.
وفي الفصل الأخير يضعنا الباحث أمام أهمية “فلسفة العلوم” ومسارات التحولات الكبرى، من خلال علائقها مع المقاربات الفكرية، والعلومية، أو من خلال ثقافوية الحاجة والمنفعة، وعلاقتها بالأخلاق، وبثنائية الذات والموضوع، فضلا عن ضرورة أن تكون هذه الفلسفة تأصيلا لتداول وفهم مفاهيم الحقيقة والعلم، والتي حاول الباحث أن يقارب مرجعياتها، وعلائقها عبر تتبعه لمراحل تحولات نظرية المعرفة، ولفلسفات كانط وهيغل وباشلار وبوبر، تلك التي تجوهرت حول أهمية الحرية والنقد والعقل والتنوير، وحول الحاجة الدائمة إلى نقد الدوغمائية بوصفه حيّزا لتمثلات المواجهة إزاء ما هو وثوقي، ولتعيين الأفكار والفنون التي تحفل بفاعليات الفكر النقدي وبمجتمع الثقافة وبروح العلمانية الحية.