خاص- ثقافات
سيرة ذاتية
قال صديقي: “إنني حصان هرم”، وأشعل سيجارة، نفث دخانها في فراغ قبوه الرطب، تأمل الجدران الكالحة للحظات. وتابع:
“حصان أمضى شبابه في حلبات السباق مقابل حفنات من الشعير، وقطع السكّر. أطلقوا عليه اسماً نبشوه من غياهب تاريخ الفروسية، ابتكروا له ألقاباً خرافية، تَوّجوا انتصاراته بأوسمة وميداليات تافهة، وَثّقوا إنجازاته بريبورتاجات تلفزيونية وصور فوتوغرافية ومقالات طنّانة في الصحف الرياضية.. وحين خارت قواه، وكبّل العمر خطواته اعتقلوه في اسطبل قذر”.
هزّ رأسه بأسف، أطفأ سيجارته، أطلق آهةً طويلة مخرَّشة، وانطفأ كعود ثقاب.
ظمأ
هكذا، فجأة، كما لو هي المرة الأولى، تكتشف، في اللحظة التي تفتح فيها عينيها خارجةً من حلم يقظ، أنها وحيدة. وكما لو هي المرة الأولى أيضاً، حين تتذكر أن ليلة أخرى باردة تنتظرها تنوح كقطة جائعة، وتستسلم لفراغ أبيض، ولحيّز الفراغ تبوح بصدى صرخة لا أحد يسمعه سواها، ينتفض قلبها، يرتجف، يهرول في مكانه لاهثاً، يطرق قفص الصدر بقوة، ترتمي ثانية على السرير، وجهها تغتصبه الدماء، بشرتها تنزّ عرقاً بارداً، تدور بها الغرفة والأشياء تدور، تسرع في دورانها، وجسدها صحراءُ عطش تنفر منها الغيوم الحبلى بالقصائد الندية، ويحتلّها جمر الرمال.
تتحامل على نفسها، بصعوبة تنهض، تمضي مترنحة إلى المرآة، تقف قبالتها، تمسح حبات العرق براحة كفّها، تلملم بعثرة شعرها، تتأمل جسدها الذي يكاد يفجر المرآة، تصرخ في داخلها: (أكرهك)، تدير ظهرها له، فيرتديها ثانيةً. صحراء.. صحراء، تتلمس كثبانها، منحنياتها، وديانها. شفتاها متشققتان عطشاً، تفحّان ظلالاً بيضاء، تنتحب، تموء على شرفة رغبتها، كمخلوق بدائي يفتك به الجوع، فتنهش نفسها، وتنطفئ على منحدر يوم آخر.
كل ليلة
بعد منتصف كل ليلة يطفئ التلفاز، يغلق الباب والنافذة، يسدل الستائر، يخرج ما في رأسه من بقايا طموحات متيبسة، وأحلام بالية، وصور لأصدقاء وأحبة رحلوا وتركوه وحيداً، وذكريات بعيدة قديمة وكلمات كثيرة.. كثيرة كانت معتقَلة دون حلقه.. يبعثرها جميعاً على سطح الطاولة، يتأمّلها طويلاً.. طويلاً، ثم يبكي بحرقة طفل صغير سُرق منه صندوق ألعابه.