ظلال السّرد المهمّشة..مُقاربات في الفن الروائي (4)

*لطفية الدليمي

   أقرأ غالباً على صفحات الفيسبوك المشحونة بالصخب مجادلات ونزاعات ووجهات نظر متباينة ومتطرفة حول الفن الروائي ، وقد علقت في ذهني بعض الملاحظات التي تراكمت لدي  منذ زمن حتى بلغ التراكم حداً رأيت معه أن أعلّق على بعض التفاصيل الخاصة بالفن الروائي من وجهة نظر شخصية خالصة توصلت إليها كمؤشرات  ، وأود التأكيد بدءً أنني لست بصدد الحديث عن الثيمات الكبيرة الخاصة بوظيفة الفن الروائي وطبيعته وأجناسه – تلك الثيمات التي كتبت عنها بشيء من التفصيل في تقديمي لكتابي المترجم ( تطوّر الرواية الحديثة ) الصادر عن دار المدى عام 2016 ، بل سأؤكّد  هنا على بعض التفاصيل المُغْفلة التي غالباً ماتُهّمشُ ولايُعنى بها بعضُ قرّاء الرواية وكتّابها . سأناقش هذه  التفاصيل بهيئة مقاطع مستقلة لتأكيد الفكرة المقصودة :

–  يمكن للرواية أن تكون أداة بحثية : يُلاحَظُ في عصرنا الراهن خفوت الجانب البحثي الإستقصائي المتّسم بالفضول المعرفي لدى معظم أفراد الجنس البشري وفي كافة المجتمعات سواء أكانت متقدمة أم متخلفة ، وربما يعزو البعض هذا الأمر إلى أن المهمة البحثية الإستقصائية واجب تنهض به المؤسسات الخليقة بأداء هذا الدور (الجامعات ومراكز البحوث العلمية والتقنية والإنسانية ) ؛ غير أن وهناً ملحوظاً أصاب مراكز البحث التقليدية هذه وبخاصة بعد شيوع المعرفة الرقمية التي ستعمل مع الزمن على قلب الموازنة لصالح التعليم الفردي من منصّات ألكترونية ( مثل برنامج كورسيرا Coursera وبرنامج Edx ) ؛ الأمر الذي يبشّر بثورات جذرية في أنماط التعليم السائدة ، يُضاف إلى هذا الأمر أن ثمة شكوى بأن البحوث التخصصية لا يقرأُها في العادة سوى قلة ضئيلة من صفوة المتخصصين بحيث بات أمر الإنفاق على نشر هذه البحوث غير مجدٍ من الناحية الإقتصادية ، وقد سبق لهذه المعضلة الإشكالية أن كانت  مدار بحث مكثف في أحد أعداد مجلة نيتشر Nature الرصينة التي أشار فيها أحد العلماء أن الرواية يمكن أن تخدم كأداة بحثية تعمل على المستوى الجمعيّ كأحد البدائل المقبولة لخفوت الشغف الإستقصائي لدى الفرد المعاصر في دوّامة حضارتنا الرقمية المتصاعدة .

d55b77643ef0b9c27bcb0292487aed15

   ثمة في هذا الميدان ثلاث موضوعات جوهرية لا بدّ من الإشارة إلى كلّ منهما بوضوح :

  الموضوعة الأولى : لابدّ من التفريق بين وظيفة الرواية كوسيط معرفي وبين وظيفتها كوسيلة بحثية ؛ إذ عندما تخدم الرواية كوسيط معرفيّ فإنها تعمل بمثابة جسر يقود القارئ للإطلاع على معرفة تأسست قواعدها الحاكمة – في أقل تقدير – وباتت جسماً معرفياً حائزاً على كافة شروط القبول والإعتراف الرسمي والأكاديمي العالمي ، ويمكن إيراد أمثلة كثيرة لهذه المعرفة في الميادين العلمية والأدبية والإنسانية : الهندسة الوراثية وتقنيات الإستنساخ الوراثي ، أدبيات ما بعد الحداثة ، العولمة – بكل أشكالها – وتصدّع الهياكل التقليدية للمنظومات السياسية والإقتصادية الحاكمة ، العوالم الإفتراضية وإسقاطاتها على البنية السايكولوجية للفرد ،،، أما في الميدان البحثي فإن الرواية يمكن أن تكون مجسّاً إستقصائياً في ثنايا معرفة لم تتشكّل بعدُ ولم تزل في طور التأسيس وتوطيد الأركان الراسخة .

   الموضوعة الثانية : غالباً ما يتخذ البحث الإستقصائيّ الروائي شكل محاولة الإجابة عن سؤال إفتراضي يبدأ بعبارة ( ماذا لو ……. ؟ ) : ماذا لو أنّ الروبوتات كسرت قواعد ( أسيموف ) الثلاثة وعُقِد لها لواء الهيمنة على الوضع البشري ؟ ماذا لو أنّ الفقر البصريّ الطبيعيّ الملازم لتعاظم السلطة الإفتراضية للتقنية الرقمية بلغ حدوداً تاخمت حالة الإكتئاب الرقميّ الجمعيّ ؟ ماذا لو ألغِيت سلطة كافة المرجعيات الحاكمة ( أب ، أم ، منزل ، حكومة ، مجتمع ، كيانات مؤسساتية ،،، ) وبات الفرد يحتكم لمرجعيته الذاتية المطلقة ؟ .

   لا بدّ من القول هنا أنّ الدور البحثي الإستقصائي المنشود للرواية سيعمل في تناغم مع آليات الرواية ووسائطها ، ولا ينبغي – ولا يصحّ أيضاً – أن نتوقّع يوماً إستحالة الرواية إلى مايشبه الأطروحات الأكاديمية أو الأوراق البحثية ؛ فتلك تخاطب العقل الإختصاصيّ ، أما الرواية فخليقة بمخاطبة العقل الجمعيّ كما هو دأبها في كلّ مراحل تطوّرها .

   الموضوعة الثالثة : عند التطرّق للوظيفة الإستقصائية للرواية قد ينسحب التفكير وبطريقة تكاد تكون فورية نحو رواية الخيال العلمي والروايات الفنتازية بما يحيل الأمر إلى إنشغال حصريّ بالمعرفة العلمية ؛ في حين أن المقصود هو تعزيز القدرة البشرية والشغف الفردي في كافة مجالات النشاط الإنساني والمعرفة الإنسانية ، وليست المعرفة العلمية سوى رافد واحد من الروافد العظيمة التي تشكّل معرفتنا البشرية .

15995591_1510740068954821_63570028_n

–  يمكن للرواية أن تكون وسيلة للإرتقاء الفكريّ الجمعيّ : كتبت في تقديم كتابي ( تطوّر الرواية الحديثة ) عن الرواية والكيفية التي يمكن أن تخدم بها كوسيلة علاجية فردية في حالة الإضطراب المسمّى ” الذهان الهوسي – الإكتئابي ” ، وأجد من المناسب إيراد المقطع التالي في ذلك التقديم :

   ثمّة جانب براغماتيّ مرتبط بالفن الرّوائيّ الذي يمكن أن يوفّر في حالاتٍ خاصّة علاجاً وافياً لبعض الإضطرابات الذهانيّة وبخاصّة لتلك الحالة الإكلينيكيّة المسمّاة ( الذهان الهوسي – الإكتئابيّ Manic – Depressive Psychosis ) التي تعرَف بين العامّة بِـ  (  الإكتئاب ثنائيّ القطب Bipolar Disorder ) : تلك الحالة الكثيرة الشيوع و المدمّرة لحياة الأفراد وبخاصّة الأفراد الذين يتوفّرون على قدر عالٍ من الذّكاء و الألمعيّة و الذين تتسبّب هذه الحالة في تعويق قدراتهم بطريقة خطيرة للغاية . ثمّة حالات موثّقة حكى فيها بعض كتّاب الرواية عن تجاربهم الخاصّة و كيف ساهم إنغماسهم في العمل الروائيّ على تخطّي الأطوار الصعبة من إضطراباتهم الذّهانيّة المدمّرة و بشكلٍ عجز عن إنجازه عقار ( بروزاك Prozac ) الذي بات الخصيصة التي تسِمُ ثقافتنا إلى حدّ صارت تدعى معه ( ثقافة البروزاك The Prozac Culture ) . ذهب بعض الأطبّاء السايكولوجيّين إلى إمكانيّة إعتماد الكتابة الروائيّة كوصفةٍ علاجيّة – في حالات محدّدة بعينها – ، و ربّما يكمن السبب وراء قدرة الكتابة الروائيّة على إجتراح علاج لبعض الإضطرابات الذهانيّة في الطقوس الحتميّة المقترنة بتلك الفعاليّة المدعمة بالإنضباط و الصرامة المعهودة في كلّ جهد روائيّ ، و قد يعمل هذا الأمر على كبح التشويش الخارجيّ مع الضوضاء البشعة المقترنة به ، و دفع الأفراد نحو محض التركيز على سماع أصواتهم الداخليّة الثريّة و المدفونة تحت غبار الإهمال و التجاهل ، الأمر الذي قد يتسبّب في تنشيط النواقل العصبيّة الدماغيّة ( مثل السيروتونين و الدوبامين ) التي تتحكّم في الكيمياء الدماغيّة المكيّفة  للمزاج البشريّ و تقلّباته و تدفع به نحو آفاق النشوة و الإحساس الغامر بالسعادة غير المرتبطة بمؤثّرات فيزيائيّة خارجيّة …

   ولكنّ الأبحاث المكثّفة إنتهت إلى أن الشغف المنتظم والثابت بالرواية  – كتابة أو قراءة أو الإثنان معاً – يمكن أن يكون وسيلة إرتقائية جمعية تحفّز اللدونة الدماغية Cerebral Plasticity ( مفردة تقنية تشير إلى قدرة الدماغ على تخليق إشتباكات عصبية دماغيّة  جديدة ) ؛ الأمر الذي يؤدي بالنتيجة إلى تراجع حالات الخرف ومرض ألزهايمر وتردّي المَلَكات العقلية والمزاج النفسيّ والقدرات الذهنية ، ويُلاحظُ في هذا الميدان أن الرواية – بوصفها وسيلة إرتقائية جمعية بالقدرات الفكرية لدى الإنسان – تشبه في فعلها العلاجي طائفة من الإهتمامات البشرية الأخرى التي تقود للإرتقاء الجمعي ذاته ، مثل : المواظبة على سماع الموسيقى الكلاسيكية ومحاولة تعلّم العزف على بعض الآلات الموسيقية كلاسيكية ، تعلّم عدد من اللغات ، الشغف بالموضوعات ذات المحمولات الرمزية ( الرياضيات المتقدمة والفيزياء النظرية على وجه الدقّة )، المواظبة على جولات المشي اليومي لساعةٍ أو ساعتين ، الشغف الفلسفيّ المتواصل ، الدهشة أزاء مفاعيل الطبيعة ( مطر ، ليل ، نهار ، شروق ، غروب ، الإنصات لحفيف أشجار الغابة والإصغاء لخشخشة تكسر الاوراق اليابسة فيها والانتشاء بأشذاء زهور الحدائق الملهمة  و سماع زقزقة الطيور الخفية في غموض البساتين ،،، ).

14611028_1426635317365297_8436631676978828537_n

–  يمكن للرواية أن تعزّز الرصيد الميتافيزيقي للكائن البشريّ : ثمة حقيقة ثمينة إلى أبعد الحدود تشكّل مفتاحاً لفهم طبيعة الإبداع البشري ومحفّزاته الدافعة ( غير تلك المواضعات التقليدية السائدة في الأطروحات الشائعة لعلم نفس الإبداع ) ، وفي العادة يمكن أن نعثر على بعض آثار تلك الحقيقة في ثنايا السير الذاتية للعلماء والمبدعين في مختلف الحقول المعرفية ، ويمكن إجمال تلك الحقيقة في أن الفرد المبدع ، ومنذ وقت مبكر للغاية من طفولته ، لايقبل بالمحدوديات الذهنية والفيزيائية المعروضة أمامه ويسعى دوماً لتجاوزها بطريقة خلاقة ، ويرى دوماً أن الثراء الميتافيزيقي غير المنظور لهو أهمّ بكثير من الحقائق ( الصلبة ) على الأرض ، ويوظّف في سعيه هذا عدداً من الوسائل يأتي في مقدمتها : تعزيز رصيد الرؤية الميتافيزيقية لديه واعتبارها أثمن وأعلى مقاماً من الحقائق والنظريات الراسخة ( بما فيها العلمية أيضاً ) ، والنظر إلى الحياة البشرية على أنها شبه حلم يقظة لذيذ يعمل على شحن طاقات الإنسان الخلاقة ويدفعها باتجاه تحقيق مفردات الرؤية الميتافيزيقية ( أو بعضها في الأقلّ ) .

   من الطبيعي القول أن الفرد المبدع يستخدم وسائل عدة لتحقيق غايته النبيلة ، ومن تلك الوسائل مثلاً : إستخدام الإرث الفلسفي للإنسانية ، ومحاولة الإنفتاح على تجارب روحانية شبيهة بالتجارب العرفانية المضمّخة بالرؤى والكشوفات الذاتية ؛ غير أن محاولات عديدة تُبذل لقتل الفلسفة واعتبارها نشاطاً غير منتج ( ستيفن هوكنغ مثالاً ) ، كما لايُتاح للكثيرين خوض تجارب عرفانية بسبب محدوديات معوّقة – هنا يمكن للرواية أن تكون تعويضاً مناسباً – أو حتى بديلاً – عن الرؤية الفلسفية والتجارب العرفانية في إدامة  حيوية ( الفضاء الميتافيزيقيّ ) الذي يلجأ إليه الأفراد للحصول على فسحةٍ من ( فكّ الإرتباط ) مع الواقع الصلب وإشتراطاته القاسية ، والإبحار في عوالم متخيّلة لذيذة تشبه حلم يقظةٍ ممتدّاً ، ويستوي في ذلك مبدعو الأعمال الروائيّة و قارئوها ، ولاأظن أن هناك من يتجرّأ على التبشير بِـ ( موت الرواية ) في خضمّ العقود القليلة القادمة حتى لو تعاظم المدّ الرقمي وتغوّلت وسائله وإمكاناته التقنية .

–  يمكن للرواية أن تكون أداة من الأدوات الفاعلة في تحقيق السلام العالميّ وتخفيف حدّة النزاعات الدولية : من المعروف أن الإرهاب الدوليّ وغياب فرص التسامح والتعايش الحقيقية يتغذّيان من حالة سوء فهم الآخر وعدم الإنفتاح على ثقافته الخاصة ، وقد أثبتت الجهود العالمية ( الأمم المتحدة مثالاً ) وهناً كبيراً في إشاعة قدر مقبول من التسامح الدولي والإنفتاح الثقافي تجاه الثقافات المهمّشة ( حسب نموذج نظرية المركز – الهوامش ) بسبب بيروقراطيتها وشيوع الفساد فيها ؛ في حين برهنت فعاليات ثقافية محددة ( من بينها إشاعة الرواية السائدة في الجغرافيات الموصوفة بالهوامش الثقافية ) على تعزيز المعرفة بالآخر على الصعيد العالمي وإشاعة أجواء السلام النسبي وتخفيف حدة التوترات العالمية وكسر الغلواء الكولونيالية لدى الشعوب المنتمية لفضاء الثقافتين الأنكلوساكسونية والفرانكوفونية ، ويمكن الإشارة في هذا الصدد إلى الرواية الأفريقية والآسيوية ورواية منطقة الكاريبي وأمريكا اللاتينية – تلك الروايات التي كانت الحامل الأعظم لشعلة الثقافات السائدة في تلك العوالم والتعريف بها وانتزاع الإعجاب العالميّ بمنجزاتها الفذّة ، وهو الأمر الذي عمل – مع عوامل أخرى – على كسر شوكة النظم العسكرية القامعة فيها ودَفَعَ العالم للوقوف بجانب تطلعات تلك الشعوب في نيل الحرية ومغادرة الإحساس المقيت بالمظلومية الممتدة ( الحقيقية والإفتراضية ) ومن ثم المساهمة الفاعلة في رفد الثقافة العالمية وتعزيز الحسّ الإنسانيّ العالمي .

________
*المدى

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *