*د. حسن مدن
في منتصف التسعينات الماضية، كان العراق مخنوقاً بالحصار الجائر الذي فرض على شعبه من قبل ما وصفه جورج بوش الأب بالنظام الدولي الجديد، بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وبتنا نعلم أن غاية ذلك الحصار إنهاك العراق وتجويع شعبه، وإضعاف قدراته من جميع الأوجه، تحضيراً لاحتلاله واستباحة سيادته وتدمير الدولة فيه، وهي المهمة التي أنجزها جورج بوش الثاني، الابن.
في سنة من تلك السنوات العجاف حمل الأديب العراقي المقيم، يومها، في الإمارات محمود سعيد، وكان يتردد على العراق بين فترة وأخرى، رزماً من النصوص الأدبية المميزة لنخبة من أبرز الأسماء العراقية المبدعة في الشعر والقصة والنقد الأدبي، وما إلى ذلك، وسلمني إياها كي تجد طريقها للنشر على صفحات مجلة «الرافد» الصادرة عن دائرة الثقافة والإعلام في الشارقة، وكنت، آنذاك، مديراً لتحريرها.
وبالفعل وجدت تلك النصوص، بالتوالي، طريقها إلى أعداد المجلة، وأذكر أننا خصصنا ملفاً في أحد الأعداد كان عنوانه: الشعر العراقي تحت الحصار، تضمن نصوصاً ومطالعات نقدية تعكس معاناة وهواجس المبدع العراقي في تلك المرحلة الصعبة.
لكن نصاً قصصياً مما نشرناه في «الرافد» استقر في ذاكرتي حتى اللحظة، للأديبة الكبيرة لطفية الدليمي، يدور فيه حديث عن كاتبة فرضت عليها ظروف الحصار أن تأخذ بعض أغلى ما تملك من كتب في مكتبتها لتبيعها، وفي طريق العودة ابتاعت بثمن تلك الكتب شيئاً من البن، وحين عادت إلى البيت حضرت لنفسها فنجاناً من القهوة، وما إن احتست منه بعض الرشفات حتى شعرت بمغص شديد في معدتها، فتخيلت أن مبدعي الكتب المباعة ينتقمون منها لأنها فرطت في كتبهم.
هذه القصة عرفتني على هذه الكاتبة، فصرتُ أحرص على أن أقرأ كل ما يقع في يدي من مؤلفاتها، التي تتنوع بين التأليف والترجمة المبدعة.