إخراج شجرة التعليم العليلة من مستنقع العصر الصناعي وجذوره السرطانية

خاص- ثقافات

 * جميلة مرابط

ليس من الضروري أن نصلح المجتمع، ولا حتى العائلات حتى نصلح التعليم، بل العكس هو الصحيح، فالآباء محدودو الدخول يتحينون لأبنائهم الفرص التعليمية التي من شأنها كسر دائرة الفقر الذي يعانونه…. فكما نعلم أن التعليم هو حجر الأساس لإيجاد حلول لكل الصعوبات التي تواجهنا، فالمتعلمون لديهم عقليات خاصة يفكرون بها، ولا تخدعهم الوعود غير الصادقة، كما أن جهودنا الأخرى لن تحقق نجاحا إلا بعد نجاحنا في التعليم… فالرفاهية التي نصبوا إليها و النمو الذي نسعى إلى تحقيقه أساسه التعليم الجيد.

    وللأسف الشديد أصبحت لدنيا مشكلة عالمية ذات سمات جد مزعجة تعاني منها غالبية الدول، حيث تجد كل أمة تواجه تحديا مختلفا عن غيرها من الأمم….فالبعض في تحليلهم لمشكلة التعليم يرى أن المدارس تؤدي مهمة غير مهمتها منذ زمن طويل، حيث يعتبر المؤسسة التعليمية نفسها المشكلة؛ أي أن هذا النظام التعليمي محدود التفكير وضعيف المستوى، ولا يستطيع التوافق مع السرعة التي يسير بها العالم حاليا، و بالتالي أصبحت المؤسسات التعليمية ديناصور متخبط يفتقر إلى محفزات السوق، التي تجعله يزدهر و إلى روح المنافسة التي تجبر على الإبداع وتحسين جودة المنتج التعليمي، هذا ما نشاهده في مواصلة مدارسنا تخريج طلبة غير مستعدين لمتطلبات قوة العمل الحديث، بسبب النقص مذهل في الاستعداد لدى هؤلاء، فإذا ما نظرنا إلى وجوه الطلبة سنجد نظراتهم تنم عن الملل وتجدهم يبحثون عن وسائل محفزة  تشعرهم بأنهم ناجحين، في حين نجد مدارسنا مصممة بإشعارهم أنهم فاشلين مما يدفعهم إلى الاذعان الذي يجلب لهم الشعور بالاستياء، وتجدهم يرددون العبارات المألوفة لدى المراهقين”لا يهم، و أنا لا أبالي، ولا يفرق الأمر بالنسبة لي…”و بالتالي البحث عن طرق لمعرضة النظام. في حين نجد من يرجع ضعف الانجاز إلى عدم وجود إرادة سياسية لتقديم موارد كافية لكل المدارس….و كل هذا يعزى إلى سيطرة عقلية العصر الصناعي على نموذجا و نظمنا التعليمية .

11

   وبصراحة شديدة هناك جدل عظيم تثيره مشكلة التعليم؛ خاصة تعليم الأطفال الذي يعتبر الأساس لمستقبلنا كبشر على هذه الأرض، حيث نجده في قمة التحديات الخطيرة؛ لهذا تجد السؤال الذي توجه جميع شعوب العالم هو : هل من الممكن أن يتلقى كل طفل في العالم تعليما ممتازا أو على الأقل لائقا؟؟؟ وكيف السبيل إلى ذلك؟؟؟ وكما بدأت تلوح في الأفق أزمة الهوية التي أصبحت تعاني منها الجامعات و الكليات بين حصر مهمتها في إعداد الأفراد لسوق العمل، وسيادة قيم السوق القائمة على نظام الإنتاج و التوريد بحسب الحاجة والإشباع الفوري، وبين اعتبار الجامعات عبارة عن أبراج عالية لمفكرين لا يفيدون الشباب بأي شيء، بل يهدرون أوقاتهم في أمور غير مفيدة، ثم يدفعونهم خارج أسوار الجامعة بعد أن يمنحوهم درجات علمية لا تؤدي إلى أي مكان.

وهذا ما يدفع للتساؤل عن المهمة التي تحتاج فعلا إلى الأداء؛ لكي نضع نهاية للجدل و أن نعمل على التعاون في القيام بالمهمة الحقيقية للتعليم.

  • المؤسسات التعليمية ديناصور بعقلية العصر الصناعي

      إذا ما أردنا التعرف على النموذج التعليمي السائد في  جل مدارسنا، نجده قائم بزرع المعلومات في عقول خاوية ثم طلب استعادة هذه المعلومات في الاختبارات، وهذا ما يسمى ماكينة البيع، حيث يدخل المدرس معلومة(العملة المعدنية) في رأس الطالب أو التلميذ(ماكينة البيع) و يخرج من الماكينة قالبا من الحلوى(نتيجة الاختبار)…وبالتالي حولت المدارس إلى أشباه المصانع و أصبح الطلبة منتجات و ليسوا بشرا كما في العصر الصناعي،  حيث كان يتم التعامل مع الناس على أنهم أشياء ضروريون ولكنهم قابلوا للمبادلة،  فكل ما يحتاج إليه العمل في العصر الصناعي هو مجرد جسم قوي للقيام بالعمل،لذلك لم يكن يهتم كثيرا بعقل أو قلب أو روح هذا الجسم، حتى تعودنا سماع  مقولة المدرسة كالسجن من أفواه أطفالنا، ترى هل تساءلت يوما عن السبب؟؟؟

    في السجن نجد فصول و جداول ونظام صارم والوقوف الدائم في الطوابير، إذا ألقت نظرة واحدة على فصل دراسي ستجد الشبه بامتياز بين المدرسة والسجن، و هذا الشعور يسيطر علينا طوال سنوات تعليمنا وليس هذا فحسب بل يمتد تأثيره على حياتنا بالكامل و على مجتمعاتنا، فمثلا نجد أطفالا حياتهم مليئة ببرامج تعليمية و تدريبية لدرجة لا يتعلمون معها أبدا كيف يقررون بأنفسهم أن يعيشوا حياتهم، وهؤلاء الأطفال يدفعهم آباؤهم للإنجاز بدون أن يساعدوهم على التمييز بين الفوز في المنافسات، وتقديم إسهام ذي مغزى في الحياة، في حين نجد أطفالا يعانون نقص الانتباه للوالدين، وهم أولئك الذين لا يبالون بأي شيء لأن آباءهم لا يبالون بشيء؛ لذلك السبب لا يكملون دراستهم هم يشكلون نسبة أكثر من ثلثي الطلبة في المجتمع… إن سيطرة النموذج التعليمي بعقلية العصر الصناعي تعيق تحرير القدرات الإنسانية خاصة وأننا في عصر اقتصاديات المعرفة.

    لهذا علينا أن نوجه إلى أنفسنا السؤال التالي: إذا استطعتم إيجاد مدرسة مثالية، فكيف سيكون شكل هذه المدرسة؟؟؟؟ بمعنى ماذا نستطيع أن نتوصل إليه ويكون أفضل مما سبق لأي شخص أن فكر فيه من قبل؛ لماذا لا نضع نموذج يشترك فيه الجميع بمن فيهم الأطفال، نموذج تتدفق إليه الأفكار من كل الاتجاهات  يكون النموذج الذي يضم أجزاء المعادلة التعليمية؛ فمثلا التلاميذ تجدهم يريدون مدرسين يحبونهم ويكون رفقاء بهم ويسامحونهم عند الخطأ ويفهمون آمالهم و أحلامهم، أما المدرسون تجدهم يريدون تلاميذ محترمين ملتزمين بإحداث تغيير في حياتهم، والتعلم والعطف على بعضهم، أما الأسر يريدون التحلي بالمسؤولية وحل المشاكل ، مع استثناء التعليم من وصمة دافع الربحية لأنه رسالة وليس وظيفة، أما أصحاب الشركات و أرباب العمل و النظراء فهم يريدون أن يتعلم الطلبة مهارات و النزاهة واستقامة الشخصية  ومهارات فريق العمل و التعامل بين الناس، ودرجة أقوى من أخلاقيات العمل…

   يقول العلماء إن الذرة تحتوي بداخلها على طاقة تبلغ قوتها35مليار ضعف وزن تلك الذرة، وبداخل النجوم يحدث انصهار للذرات، فتنتج عن ذلك طاقة هائلة تتمثل في الضوء و الحرارة، لهذا أحب تشبيه الأطفال بالنجوم، لأن كل طفل لديه قدرة لا محدودة على تشكيل المستقبل بغض النظر عن مجال هذا المستقبل. فالأطفال ليسوا مواد خام يتم تحويلها إلى منتجات و إدخالها السوق، لأن كل طفل يجلب إلى  هذا العالم مواهب متميزة ، ومن هنا تظهر مهمة  الرئيسية للمدرسة والنظم التعليمية في مساعدة كل طفل على النجاح في تحقيق أقصى استفاذة من قدراته و كيفية استخدام وتوظيف هذه المواهب، وإطلاق القدرات اللامحدودة بداخل كل منهم و ذلك بهدف تغيير حياته،وحياة عائلته و بل أيضا تغيير العالم بالكامل للأفضل.

  • الصورة الراقية للتعليم العالي شعاره العالم يتجلى في مبنى جامعتي:

    إن التطور التدريجي للجامعة إلى طاحونة للشهادات تركز  فقط على تأهيل الطلبة للمسيرات العملية و إعداد الأفراد لسوق العمل، دفع البعض في حصر المهمة الحقيقية للجامعة في الإعداد الوظيفي للطلبة، ويرون أن هذا هو سبب الطفرة الكبيرة في عدد الجامعات الخاصة التي تركز على تنمية مهارات العمل؛ وقد أثرت هذه العقلية المحدودة على معظم أساتذة الجامعات، فإذا سألت أستاذ جامعي عن سبب أخذ الطلبة لهذه المحاضرة أو المادة، ستسمع منه مجموعة من الأهداف العملية ضيقة الأفق مثل جودة الأداء في المنهج الدراسي، والحصول على تقديرات جيدة،تجنب الرسوب… لكن و للأسف الشديد هذا الطرح أبان عن قصور أن يتم اختزال البعض هذه المهمة في العمل بالكامل بمعنى أن يكون تكوين المال هو الهدف الأول و الأخير أيا كانت التكاليف الأخرى، فالكارثة المالية العالمية في عام2008، والتي كان تأثيرها على حياة ملايين الناس أكثر من تأثير الهجمات الإرهابية، كانت نتاج هذا النوع من التفكير، يقول روبرت بوتشي “إن أسباب الكارثة التي يعانيها العالم كله معروفة جيدة، فعندما تتلاعب أعداد كبيرة من الناس و المؤسسات بالنظام، فإنها تفشل تحت وقع الخداع، والسرقة، والأحاييل، والطمع….لقد أدت طريقة تعليم الحاصلين على درجات الماجستير في إدارة الأعمال، والطرق التي نتعلمها للتعامل مع المشاكل، وطريقة تفكيرنا في المشاكل ،وإدارة المشكلة الواحدة إلى خلق طبقة إدارية معوقة اجتماعيا وأخلاقيا،إن خلاصة ألغاز إدارة الأعمال ليست الناس السيئة أو النوايا السيئة،بل النتائج السيئة التي تروج لها قيم الفوز أيا كان الثمن،وأهداف الأمد القصير،وعقلية المكسب أيا كان الثمن”.

 وبالتالي انفصلت الدراسة الأكاديمية منذ فترة طويلة عن مثلها، وأصبحت تركز كثيرا حاليا على مسارات شغل الوظائف وسياسات الترويج للذات، يمكن القول أن الجامعة المعاصرة هي مكان للأمراض الروحية السرية، حيث فقدت الكثير من المثالية، و الشعور بالمجتمع، إنها عالم من الإحباط المتزايد ،وخيبة الأمل الكبيرة التي تؤدي إلى الوظائف المنعزلة و الحياة المشتتة”….

 وهذا التوجه يزعج الكثيرين من العاملين في مجال التعليم العالي، خاصة الذين يعتبرون الجامعة محراب للعلم وأن الرسالة الأساسية للجامعات هي ترويج المعرفة ونقلها، هذه المعرفة التي تنطلق من فلسفة تمكين الناس من تقديم أعظم الإسهامات من خلال مساعدتهم من إمكانية التفكير فيما يفكرون فيه؛ فالمعرفة تولد ثورات في التفكير بأسلوب مختلف، والذي سينير مسيرتهم في الحياة ويبين لهم طرق لكسب أقوات يومهم.

   حتى نتمكن من وضع تصور جديد للجامعة مع المتطلبات العصر، وحتى يتمكن التعليم العالي أن يحدث تغييرا ثوريا في مجتمع؛ علينا في البداية العمل على الخروج التدريجي من نطاق أنفسنا و نطاق الأقسام التي ننتمي إليها و نطاق مصالحنا الخاصة والتنافس، وأيضا ما يعرف بمناطق النفوذ و الصراعات الداخلية و التعارض بين أقسام الجامعة،  وتجاوز الغيرة المهنية الكبيرة… يجب أن نتجاوز العقلية التي تزعم أن المعرفة القيمة تقتصر على بعض الناس، نحو العقلية التي تقول إن كل فرد لديه شيء قيم ليسهم به، حتى يسهم الجميع بما لديه و يسود نوع من الفهم بين الجميع وهذا ما عبر عنه الأستاذ المخضرم في طرق التدريس كار روجرز“إن التوجه القائم على التفكير بعقلية الطلبة، ورؤية العالم من منظورهم شيء لم نسمح به في المدارس، ومع ذلك فإذا تصرف المدرس بطريقة تجعل الطالب يشعر بأنه فهمه بدون أن يحكم عليه أو يقيمه فإن أثر هذا يكون مذهلا”.

   وكما تصبح الجامعة أدوات للتأثير و التغيير من خلال مشاركتها الكاملة في العالم الواقعي، وذلك بتقديمها خدمة المجتمع و في أثناء ذلك تساعد طلبتها على أن يصبحوا هم أنفسهم يؤثرون و يصنعون القرار…

   إننا فعلا نبحث عن صورة راقية للتعليم العالي، يكون شعاره “العالم يتجلى في مبنى جامعتي”، يعبرعن رسالة و رؤية مشتركة من خلال منح الطلبة المعرفة الخالصة و أن نغرس في شبابنا أهمية تقديم الخدمة للعالم المحيط بهم باعتبار هذا هو الأساس، و بأسلوب تقديم المساعدة سيؤهلهم  للعمل و مواجهة الحياة.

  إننا نريد أناسا لديهم الجرأة على النهوض للتحديات و الرغبة في المبادرة باستمرار، أناسا يتصرفون وفق مبادئ الأخلاق و يتحملون المسؤولية ويعملون على تطوير أنفسهم. هل من سبيل لترجمة هذه الرسالة إلى الواقع؟؟؟؟

_________

                                                                                         

*باحثة في القانون العام والعلاقات الدولية

جامعة سيدي محمد بن عبد الله- ظهر المهراز- فاس

 

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *