بلاغة الانتماء وأزمة القيم في “الذمة المعكوسة”

خاص- ثقافات

*رشيد أمديون

 

إنَّ النص الذي يفتحُ عوالـمَه أمام وجه القارئ كي يلجها ويُسائِلَ من خلالها ذاته ومجتمعه وتاريخه.. يستحق أن يكون نصا قصصيا بامتياز. فالقصة التي تبحث في الأرض و تحفر في ركام القضايا -كذاك الغراب الذي حاول أن يُعلِّم الإنسان كيف يواري سوءة أخيه- هي ذلك النص العميق/ الهادف الذي يُورِينا عيوبنا ويبصرنا بها: أخلاقية /اجتماعية /فكرية ، وإنَّ المجموعة التي تشتغل على هذه الموضوعات وتجعلها مشترك نصوصها تعتد مجموعةً ذات رؤية، وتُقنع القارئَ بالمشاركة فيها، سواء اتفق أم اختلف، لأن هذا ليس هو الرهان، بل الرهان في أن تجعلك القصة  -عبر خطابها الصريح أو المضمر – تفكر وتنتج رؤية محددة اتجاه تلك القضايا…

لا يكتمل الفعل الإبداعي إلا إذا زامن الفعل القرائي ورافقه، فهو  إعادة حياة جديدة للنص عند كل قراءة كما يرى ذلك الفرنسي بارت، لأن النص كائنٌ مُراوغ ومتحرك يتميز بالعبور والاختراق،  لهذا فإنه في مغامرتي لقراءة مجموعة “الذمة المعكوسة” للقاص رضا نازه، أستطيع أن أزعم أن النصوص أولَت موضوعَ الأخلاق أهمية بالغة، على اعتبار أن هذه القيمة أساس بقاءِ الإنسان على إنسانيته وبقاء كرامته واستمرار فعله الحضاري الراقي داخل مجتمع يقف على شفا جرف هار. القيم الأخلاقية، على اعتبار أن المجتمع أحوج إليها من أيِّ سلم اخرَ للصعود والارتقاء -مجازا أو حقيقة- أو أي حبل أو يدٍ تمتد من غيب. لا يمكن أن يخفى على القارئ أن الكاتب ضِمن نصوصه يشير إلى هذا العنصر سواء تصريحا أو تعريضا وتلميحا، ابتداءً من النص الأول المعنون بـ “محضر ذمة معكوسة”.. إلى اخر نص المعنون بـ “خاتمة”.

*****

وقبل: اقترح علينا المبدع رضا نازه – فيما يشبه تقديما أو توطئة- عنوانَ هذه المجموعة (الجميل) والذي له بعده الأخلاقي والاجتماعي وكذلك حمولته التاريخية من حيث أنه يتناص مع العبارة التي أطلقها المؤرخ والمفكر المغربي عبد الله العروي على المغاربة المحميين من لدن قناصل الدول الأوروبية ابتداء من منتصف القرن 19م، هذه الظاهرة – التي تَمَّ العمل بها لحماية ذممهم المالية من الضرائب والمكوس المحلية – يرى القاص أنها  رغم تباعد الزمن وتطوره – لم تفقد معناها كاملا بحيث لها تبعات دائمة ومستمرة إلى عصرنا  فما كان عقدُ الذمة المعكوسة إلا امتداد مرحلة بعدية تجيئ فيها حماية ذمة معكوسة “أعم وأعمق، قيمية وثقافية وحضارية”(ص7).

 وأما بعد: (وعودا على بدء) فإن القارئَ يستطيعُ أن يستشف البعدَ الأخلاقي من خلال الوعي بعوالم وعناوين النصوص المقترحة،  فعوالمها الممكنة والتي تتقاطع بقليل أو بكثير مع واقع حقيقي، رغم أن كتابة القصة فن تخيلي بامتياز فالخيال فيها ساق رئيس تقوم عليه إلا أن أي حدث -يُنظر إليه داخل نسقه التاريخي والاجتماعي- يتم امتياحه من الواقع ومن حياتنا العامة والخاصة يُعتبر  شاهد  صدق على ما تسرده القصة وتسعى إلى خلق الوعي به ضمن فعل الإخبار والتنبيه والتصريح أو الإضمار والتعريض في كثير من الأحداث، ثم إن جوهر القصة الأدبية فن وجمال، والفن الجميل لا يقبل الكذب والتدليس وإلا ضاعت سلطة السرد التأثيرية واستحال الحكي إلى ثرثرة لا تسمن ولا تغني.. ، إنَّ “الانطلاق من خلفية واقعية لا يعني التقيد بعناصر ثابتة واستنساخها، وإنما هو عمل يفضي بالضرورة إلى تنويعات متعددة وإلى إمكانات للتجديد بدون التنصل من إقامة علاقة مع الواقع تكشفها الصياغة النصية”.(1)

إضاءة في المضمون

  • استلاب، وعقدة الأجنبي

إنَّ قصص المجموعة من خلال عوالمها الممكنة تغدو قادرة على بلورة المفهوم الذي يُشير إليه الكاتب ويسعى إلى مقاربته كما في قصة”محضر ذمة معكوسة”، حيث تصور لنا شخصيتين مختلفتين تعتقدان اعتقادا يوشك أن يبلغ مبلغ اليقين أنهما من مقام رفيع لسبب واحد، أنهما يحملان جنسيتين أجنبيتين. واحد بجواز أمريكي، والثاني سويسري،  وقام بينهما نزاع وشجار كان مُبتدؤه أن أحدهما ركن سيارته في مكان سيارة الاخر فقامت القيامة وتم إشهار كل منهمنا جواز سفره في وجه الاخر إشارة إلى  وجوب الاحترام والتقدير وكنوع من إعلان حرب موهومة حاولا فيها أن يتحدث كل واحد بلغة البلد الذي يحميه (أو يزعم)، وبعد مشدات بالأيدي تسببت في جروح وكدمات سال منها دم مغربي، هذا الدم الذي لا يمكن أن يتنكر لأصله، فقط، لأن صاحبه يحمل جواز سفر  بلد غير بلده الأصلي وصار ولاؤه له.

هذه القصة تورط القارئ في عملية فهم عميقة لحالة الشخصيتين في النص وهما يمثلان طرفا نزاع –كما يعتقدان أو يتوهمان- بين دولتين كبيرتين، لا تكترثان أصلا بوجودهما فضلا عن أن تجنِّدا ألياتهما لنصرتهما، وهنا تحديدا يمكننا أن نقوم بإسقاط دلالة العنوان “الذمة المعكوسة”، فكما هو معلوم أن أهل الذمة قديما هم من كانت الدولة الإسلامية -من أهل الكتاب وغيرهم من الديانات الأخرى- تحميهم وتتولاهم تحت مسؤوليتها، وفي هذا الطرح الجديد الذي يعكس المفهوم القديم صارت هذه الذمة مقلوبة، كما جاءت بذلك القصة.

ثم لماذا شخصيتا القصة أو شخصيات القصص الأخرى على الرغم من أصولها المغربية القحة تبحث في الجنسيات الأخرى عن قيمة مضافة، أهي صك الارتقاء والعلو؟ أهي فعلا رغبة في تبعية الغالب التي تكرس ثقافة عقدة الأجنبي ورقيّ الأجنبي وجمال ما عنده؟

وبانتقالنا إلى نص “أداة نداء” نجد القصة تحكي كيف أن شخصياتٍ تعمل في مركز خدمة هاتفية داخل محمية قديمة مكلفون بالعلاقات مع زبناء فرنسيين  يجردهم النظام الداخلي –رغما عنهم- من لغتهم العربية إذ يمنعون من التحدث بها وكذلك التنادي بأسمائهم الأصلية لأنها تستبدل بأسماء مستعارة (فرنسية). وبهذا تصبح ذواتهم أداة نداء فقط. تُمحى شخصياتهم الأصلية ليصبحوا أداة عمل تلبي رغبة الزبائن الفرنسيين…

وفي قصة “أو يهان” يلجأ معاذ إلى اجتياز امتحان للحصول على منصب بمركز نداء، فكانت اللغة الفرنسية -كأغلب المتبارين- هي عائقهم الوحيد لاختيارهم، ليعبِّر معاذ عن استيائه وضجره بقوله: “واش ضروري ديما واقفة لنا الفخونسي فالطريق؟” فصار يلعن “لغة قوم لم يتعلمها كما ينبغي ليأمن مكرها في عقر وطنه”(ص86). وهكذا وبشكل ساخر يتفحص معاذ ورقة الامتحان التي تحتوي على مقتطف بالفرنسية أمليَ عليهم ليكتبوه كنوع من الاختبار، ثم بعد صرفه النظر عن تلك الإهانة وفي جلسة مع صديقه يجد أن المصحح سطر على أخطائه في ورقة الامتحان بعد حصوله عليها، فيذكره ذلك –وبسخرية- بمعاناته مع حصة الإملاء في مادة الفرنسية أيام الصف الدراسي وسلطة القلم الأحمر و”التيو” الأحمر القاني..

وعلى نفس المنوال الذي هو عقدة الفرنسية يدرج الكاتب نصا مستقلا على ظهر غلاف المجموعة مع أن هذا النص غير موجود بين الدفتين، مما يجبرنا على اعتبار نصوص المجموعة أربعة عشر وليس ثلاثة عشر، ثم بالنظر إلى الفهرس نجدُ عنوانَ النص هو “على ذمتي”. طبعا بقدر ما يجعلنا -هذا الترتيب- نتساءل عن سبب استقلال هذا النص عن نصوص المجموعة، بقدر ما يفرض علينا النص نفسَهُ بمضمونه الذي لا يستقل عن مضامين بعض النصوص التي تقع داخل المجموعة… إنها عقدة الفرنسية، وتتقاطع هذه الفكرة مع نص”أو يهان” السابق ذكره، ففي شكل من النوستالجيا يحكي لنا السارد  قصته مع هذه اللغة ويقارن بشكل ضمني بين التعليم الخاص الذي “يُعلم الفرنسية على الريق” والتعليم العمومي الذي يصومون تلاميذته عنها إلى غاية القسم الثالث. إن ربط هذا النص مع النص الذي سبق يجعلنا نرى نوعا من الانتقاد للمنظومة التعليمية وخاصة وأن الكاتب استخدم أسلوب الترميز حين وصف مدير المدرسة العمومية: “كان يحدثهم بالعربية كأنه من نصوص “اقرأ”(…) بذلته فستقية، وبين عروات معطفها كان يسلك يده اليمنى، يضعها دوما على صدره، يتحسس نبض قلبه المتعب المريض أو يمسكه أن يقع أسفله…”

ألا يُضمر هذا المقطع ما يدل على شيخوخة التعليم العمومي، أم أنه في مرحلة مهيضة؟

ثم يعالج الكاتب أيضا البعد الاخلاقي في قصة “وحش الفلاة” من خلال إبراز علاقة أفراد المجتمع بعضهم ببعض، ومدى احترامهم لبعضهم ثم يشير  في نسق مضمر  يكاد يكون صريحا إلى ضياع الأخلاق في مجتمع يسوده منطق الجرأة والقوة والغلبة (وحش الفلاة)..

هكذا يشتغل رضا نازه على موضوعات نصوصه، فجلها تأتي لتكشف تلك العلاقة المعقدة بين ما هو محلي وما هو أجنبي تارة بدلالة ظاهرة وأخرى مضمرة، حتى أن بعض شخصيات هذه المجموعة ترتمي بين أحضان ثقافة الاخر بكل تجالياتها، كأنه استلاب أثَّر على طريقة التفكير والحياة والتي بدورها ولَّدت ثقافة جديدة غريبة شكلا ومضمونا، مثل شخصيتي نص “الجميلة والنووي” غيتة وريان، جاهدا ودفعا الغالي من أجل عملية تجميل تستنزف المال  لمحو  معالم شكلهما الأصلي –كأنه انسلاخ أو محاولة انسلاخ- وبعد تفكيرهما في الزواج من بعضهما يتفاجآن بأن رغم هذه العملية لن يستطيعا أن يطمسا شيئا من أثرهما داخل الشفرة الوراثية إذ أن الأطفال سيأتون بناء على الكروموزومات وليس على الشكل الظاهر والجديد الذي أحدثته عملية التجميل.

نجد نفس الإستلاب في قصة “جذور معكوسة” التي  تستدعي رواية “جذور” لمؤلفها الأمريكي أليكس هيلي والتي تم تحويلها إلى مسلسل تلفزيوني -في السبعينيات- وبطلها كونتاكنتي، فاتخذت منها مادتها الحكائية… تؤسس القصة لمفهوم الانتماء والأصل بشكل معكوس، وعلى أساس افتراض وهمي… ولا يبتعد مضمونها كثيرا عن الرؤية العامة للمجموعة، إذ أن شخصية عمر الكنتاوي –أسود البشرة- الطالب والباحث في الأدب الأمريكي أراد أن يعتبر نفسه أمريكيا فانعكس ذلك على طريقة كلامه ولباسه وتفكيره وثقافته، وعلى حد قوله الساخر لأن التوبوب (النخاس) لو “كان قد أمسك جدي الأعلى لكنت هناك فعلا… لكنه أخطأ وأمسك عمي الأعلى…” ثم يعقب ليفسر قوله في النهاية للفتاة الأمريكية جويس التي اندهشت منه بعد أن كانت تعتقد كما الجميع أنه أمريكي فعلا، فقال: “آيت كنتي اسم قبيلتي وهي كبيرة يمتد تجوالها من جنوب المغرب إلى نهر السينغال إلى نهر غامبيا… وهناك جذور بطل ألكس هالي وجذوره هو كذلك… لم أكذب عليك..” (ص78). وتأتي القفلة المفاجئة في النهاية وعلى لسان الأمريكية جويس  إذ ترى أنه رغم الفارق الزمني بقرون، وحتى إن كان التوبوب أخطأ جده فإنه اليوم لم يخطئه بل يحتضنه وبإرادته، على اعتبار أنه رغم مغربيته فإن هواه عبدٌ للتوبوب (أمريكا)، أي يعيش استلابا ثقافيا وفكريا وتاريخيا بإرادته.

  • تيمة الموت والبعد الصوفي

تيمة الموت في بعدها الصوفي وُظفت في قصة “باب دكالة” وقصة “خاتمة”، حيث ترصدُ الأولى حالة الاستلاب التي وصل إليها الإنسان المعاصر بسبب طغيان المادة واستيلائها على النفوس والزحف القاهر للمدَنية… هذا الاكتساح الذي لم يترك للموت حرمته ولا هيبته التي هي غاية ترتجى. وقد أطر القاص هذه الفكرة بإطار فلسفي صوفي عميق، خاصة في تلك التأملات التي جاءت على شكل مونولوج كمثل عثور السارد على بئر ماء في المقبرة (والبئر رمز النماء والخصب)، قال: “تحت القبور ماء، تحت الموت حياة..”(ص118) ، ثم يخلص بنا السارد إلى أن الموت الحقيقي هو موت الروح بالمعاصي، أما الموت البيولوجي فإنما هو حياة أخرى بعد الحياة الأولى.

وفي قصة “نعي كاذب” يتناول الكاتب هاجس انتظار الموت مع حتمية  وقوعه إن آجلا أم عاجلا.

أما قصة “ماهية من دم” فبوضعها في سياقها الزمني نرى أنه تسيطر فيها نزعة الانتصار لقتلى رابعة بمصر، وبحبكة وسرد خيالي غرائبي صورت لنا أجرة الجند (التي تصرف من المصرف الآلي) مخضبة بالدم كأنها نقمة رابعة على الجيش الذي شارك في اضطهاد وضرب المعتصمين…

أما “خاتمة” فهي تؤسس لنفس التيمة (الموت) لكن بشكل يرصد مفهوم الرحمة الدينية انطلاقا من تلك العتبة النصية تحت عنوان القصة والتي تلخص حكاية من الأثر لإبراهيم بن أدهم مع سكران يذكر الله، فطهَّر ابن أدهم فم السكران بالماء من أجل كلمة الله وطهر الله قلبه وهداه. و قصة “خاتمة” تستدعي حكاية ابن أدهم، لتنبني على البعد الصوفي والأخلاقي كركيزة، وتخلق الوعي بأهمية الرحمة التي هي جوهر الدين أساسا، فالتدين ليس محاكمة الناس وصدهم عن السبيل بسبب أن تصرفاتهم تخالف التشريع إن كان جوهرهم طيبا حسنا قابلا للصلاح.

و نص” نعم لا” يعرج بنا إلى مقام من التجلي الصوفي وحالة من تواصل الأرواح وتلاقيها من خلال ما يُعرف عند الصوفية بالمشاهدة (التي تخص اليقظة والصحو) والتي تقابلها الرؤيا المنامية… كما يتناص عنوان هذه القصة مع تلك العبارة التي قالها ابن عربي لابن رشد عند لقائه به أول مرة: (نعم لا).

  • الأمكنة والسياقات الزمنية

تمثل الأمكنة فضاءات هامة لأحداث القصص، وقد أولى الكاتب عناية للأمكنة بتحديدها لكونها عنصر لابد منه في بناء القصة فكانت الأماكن كالتالي: الطائرة /مركز نداء/ مطعم السمك/بجوار الميناء/مكتب المؤسسة الحقوقية/الشارع وموقف العمال/المصنع/مقر الورش/المقهى/الحجرة/بيت من بيوت مراكش التقليدية/ ميدان رابعة بمصر/باب دكالة/ المقبرة/المسجد/ساحة المدرسة…

أما السياقات الزمنية، فمثل: – فترة الاعلان عن نتيجة انتخابات اولاند ضد ساركوزي – وفترة ما بعد فض اعتصام رابعة العدوية..

السارد وموقعه

اعتمد الكاتب في هذه القصص على نظام التبئير ،  والذي يجعل القارئ يتدرج مع السارد رويدا رويدا حتى يبلغ به إلى لحظة التنوير التي يظهر فيها الحدث واضحا، لهذا فالسارد –في أغلب الأحيان- يكتفي بلعب دور الملاحظ بتسجيل ما يقع حتى يُقلق القارئ أو يكاد ! وفي إقلاق القارئ، ثمة مساحة لطرح الافتراضات وإنتاج تصورات خاصة قد تصح في النهاية على حسب نباهة القارئ، أو قد تنكسر وتضمحل حين يبلغ القارئ حد اكتمال القصة وتمامها وينتهي بذلك دور السارد كي يبدأ دور القارئ، أي في زمن ما بعد القصة والذي غالبا هو ما يتركه النص في عمق المتلقي من أثر.. “بمعنى أن القصة القصيرة محكومة في شكلها الملفوظ وحجمها الملحوظ بعدد معين من الصفحات لكن لها امتدادات زمنية في نفسية القارئ؛ لما تشكل لديه من رؤية ارتدادية في أعماق الذات لتجسيد انفعالاتها”(2).

بيد أن دور السارد والذي قلنا أنه الملاحظة والتسجيل لا ينفي أن الرؤية في أغلب النصوص جاءت من الخلف، والسارد عليم يُعقِّب على الحدث ويبدي وجهة نظره، وحينا يصير محايدا، باستثناء  نص “باب دكالة”، حيث كان السارد يتحدث من داخل النص كشخصية محورية تنظم عناصر الحدث فصارت الرؤية من الداخل.

ولا يجدر أن ننسى تقنية الاسترجاع أو ما يصطلح عليه بالفلاش باك حيث أن توظيفها كان مهما جدا في سَير أحداث القصة وتطورها نحو الخاتمة ومن النصوص التي استخدم فيها الكاتب هذه التقنية على سبيل الذكر: “باب دكالة” و”نعم لا” و”نعي كاذب”…

السخرية الناقدة

توسل القاص بتقنية السخرية جاعلا منها أداة حاضرة ملازمة لأغلب نصوص المجموعة (إلا بعضها): ، لأن الكتابة مساحة يؤسس عليها الكاتب نقده الاجتماعي والأخلاقي.. فهي “نوع من التأليف الأدبي لواقع يقوم على متناقضات… ومفارقات وتضادات.. كما أنها خطاب ثقافي يقوم على أساس انتقاد الرذائل والحماقات والنقائض الإنسانية..” (3)

وهي “أسلوب يتخذه الكاتب ليتبنى موقفه من الواقع والعالم من حوله، وهي طريق سهل للنقد، والوصول بالقارئ”و يرتجى من ورائه ترسيخ المفهوم والتعبير عنه بروح نقدية، أو على حد تعبير فولفغانغ: “ذرة الملح التي تجعل ما يقدم إلينا مستساغا”.

اللغة وتعدد الأصوات

المجموعة تميزت بلغة شفافة وعميقة وقوية، والظاهر أن القاص يولي عناية كافية للغته الباذخة والرشيقة التي ترتقي بنفسها لتواكب العصرنة وفي الآن نفسه لا تتخلى عن ارتباطها باللغة العربية الأصيلة وبهذا فالكاتب يبتكر  أسلوبا لغويا وسطا يخدم لعبة الكتابة وينشر البهاء ويحفر في الدلالات ويخلق متعة الإبهار والإمتاع والتشويق في نفس القارئ الذي بدوره يبحث عن هذه العناصر بين ثنايا اللغة كما يبحث عن فكرة جديدة وعميقة بين ثنايا الحكي والسرد.

1- تعدد الأصوات

وإضافة إلى ما سلف نجد المجموعة زاخرة بتعدد الأصوات، فالشحصيات لها رؤيتها وأراؤها الخاصة التي تعبر بها عن قناعتها وإن كان هناك تدخل من السارد بين الفينة والأخرى..، ونجد مثل هذا التعدد في قصة “هايدغر والعساس”، قالت الشخصية معبرة عن وجهة نظر: “من البدء كان الإنسان كونيا ثم انشطر أليس كذلك؟” (ص 39). ويظهر ذلك أيضا في حوار حارس السيارات مع صاحبه حول الألماني هايدغر.. (ص 43). وفي قصة “معايير دولية” نجد نفس التعدد في الأصوات خاصة في الحوار الذي دار بين الدكتور ورئيس مؤسسة حقوقية  بحضور الشاب الذي يلتمس عملا عند هذه المؤسسة (ص52 و53). و نجد نفس الأمر في قصة “جذور معكوسة” إذ تعبر الشخصيات عن رؤيتها الخاصة وقناعاتها.. ثم سائق الطاكسي في قصة “باب دكالة” الذي عبر عن استيائه من اعتبار سيدي يوسف بن علي صالحا… وحسرة العجوز على أموات المسلمين من جراء ما فعلت بهم لهفة التراب والعقارات في العشرية الأولى(ص123 ). وفي قصة “خاتمة” حيث يشتد الخلاف بين المصلين الرافضين لدخول السكران للمسجد أمام إصراره على أداء صلاة الصبح جماعة معهم فيعبِّرون عن استيائهم، ثم يأتي رأي الإمام الذي وقف موقف الحكيم فسمح له بالدخول بعد الاغتسال(ص 128 ).

2-  تمظهرات لغوية

 وإلى جانب هذا التعدد نجد تمظهرات لغوية مختلفة، لأنه من الطبيعي أن كل شخصية تعبر بلغتها ولهجتها الخاصة: المتشاجران في قصة “محضر ذمة معكوسة” بلسان غربي مستعار. الحارس في “هايدغر والعساس” وشحصيتا قصة “أو يهان” بدارجتهم المغربيه. وعمر الكنتاوي في “جذور معكوسة” بأمركيته المستعارة… سائق الشاحنة في قصة “وحش الفلاة” بدارجة مغربية شعبية… الجندي المصري في قصة “ماهية من دم” بمصريته… “وهناك مظاهر لغوية أخرى تجعل المتن بمثابة خزان يجمع تنويعات لغوية تخضع منطق اللغة الأدبية لمنطق الوعي بالذات والمجتمع، كما تسمح لآراء خارجية أن تعبر إلى خطاب القصة من خلال قنوات متعددة.” (4)

كما أن لغة المجموعة لا تخلو من تناصات جميلة في مواضع كثيرة حيث تتناص مع بعض آيات القرآن كمثل: “بادي الرأي”(ص22). “الوجوه العاملة الناصبة”و”و لكل وجهة هو موليها”(ص60). “كعجوز عقيم بشروها بغلام عليم”(ص104). “وجاءه الموت من كل مكان وما هو بميت”(ص115). وغيرها…

 وبعض العبارات الأخرى تتناص مع الأمثال الشعبية مثل: “فهما من غمزه أنهما مدينان له إلى الأبد كما يفهم الحر، وهما عبدان لرغبة قاهرة..”(ص18) وهي تناص مع المثل القائل “الحر بالغمزة والعبد بالدبزة”.

على سبيل الختام

أرى أنه لم يكن القاص رضا نازه يحتاج أن يضمِّن تلك التوطئة الموجِّهة لمفهوم العنوان، لأنه وعلى حد قوله “الناقد بصير”، كما أن القارئ النبيه لن يحتاج من الكاتب توجيها ليستشف المعنى المضمر والظاهر من خلال النصوص، فالنصوص تتحدث والقارئ يُنصت، فإن كانت للكاتب رؤية فهي ضمن النصوص تكفي وقد أبلغت، والعنوان يمثل حقلا دلاليا موجها في حد ذاته خاصة عندما يتم ربطه بالنصوص.

هذا، و”الذمة المعكوسة” اشتغلت على قضايا وموضوعات جديدة ومهمة، كما تعكس ثقافة القاص وشساعة اطلاعه وانفتاحه على الثقافات الأخرى لغة وفكرا وتاريخا، فهو لم يؤسس رؤيته من لا شيء، بل على ركائز واعية ومنطلقا من قناعة راسخة بأهمية الإنتماء والهوية والانتصار للقيم..

إحالات

  • الدكتور حسن لشكر – الخصائص النوعية للقصة القصيرة القصة التجريبية نموذجا ص:39.

  • محمد يوب – القصة القصيرة فن إقلالي – مقال بالقدس العربي 17 ماي 2016

  • محمد داني – جمالية القصة القصيرة جدا. دراسة نقدية. ص: 122

  • حسن لشكر – الخصائص النوعية للقصة القصيرة . ص: 37

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *