الرقمي… في انتظار اختراع الحل

خاص- ثقافات

*مارك شوفالييه/ ترجمة: عبد الرحيم نور الدين

رغم مرور عشرة أعوام من التردد و التجريب، لم تجد الصحافة بعد النموذج الاقتصادي القادر على ضمان استمرارها.

———–

كيف يمكن انتاج خبر ذي جودة في عصر الرقمي دون خسارة مالية؟ هو ذا الصداع الذي تعاني منه الصحافة منذ عشرة أعوام. لم يستطع أي حل كوني فرض ذاته في الوقت الراهن: سواء تعلق الأمر بمؤسسات صحافة ورقية محترمة، مكرهة على تطوير ذاتها على الشبكة العنكبوتية لضمان بقائها، أو بصحف ” الكل على الشبكة” Pure players، أي وسائط محدثة على الشبكة أو هي تخلت نهائيا عن المطبوع ( الدعامة الورقية)، أغلب منتجي الخبر يبحثون عن حل ما. استراتيجيات مختلفة تتأكد مع ذلك، على خط متواصل يسير من المجانية التامة إلى الصيغ المؤدى عنها، مرورا بالتنويع.

رهان المجانية التامة المخاطر به:

يظهر أن شكلا من مجانية المضامين لا مناص منه بالنسبة لكل من يريد جلب العديد من المبحرين إلى موقعه. لكن الإشهار على الإنترنيت لا يباع بثمن الصفحات الورقية! إن المنافسة شرسة و المُعلن الذي يعرف، من الآن فصاعدا، تأثير كل رسالة ( يمكن حساب النقرات) يوجد في موقع جيد للتفاوض. هذا دون اعتبار أن جزء مهما من  الإشهار على الشبكة، ملتقط ليس من لدن الناشرين، و إنما من لدن وسطاء كغوغل. لهذا السبب، ما عدا اليومية الكيبيكية ” لابريس” La Presse إلى حد ما، فإن الوسائط على الشبكة التي راهنت على المجانية التامة ( و التي يتراجع عددها تدريجيا) تسجل بصفة عامة خسائر مهمة.

هكذا، فإن اليومية البريطانية الكبرى المعبرة عن وسط اليسار،” الغوارديان” The Guardian، تجلب بالتأكيد أكثر من مائة مليون زائرا إلى موقعها كل شهر، من خلال السماح بالإطلاع المجاني على مجموع مقالاتها. إلا أن ذلك يحصل بكلفة خسائر ضخمة جدا ( 26 مليون جنيه عام 2014، أي ما يعادل 35 مليون يورو)، الممولة حاليا من طرف المؤسسة المكلفة بتأمين استقلالية الصحيفة… و مع ذلك، فإن هذه الوضعية لا يمكنها أن تستمر بدون تعريضها للخطر.

نفس الوضعية عاشتها الصحيفة البوسطونية ” كريستيان ساينس مونيتور” Christian Science Monitor ، و هي أول جريدة – ذات جمهور متتبع على الصعيد الوطني- تتوقف عن الصدور في شكلها المطبوع، لتتحول إلى صحيفة ” كل على الشبكة” Pure players. هذه الصحيفة متوفرة للإطلاع المجاني، و هي ممولة من الدعاية التجارية و من خلال عروض اشتراكات مؤدى عنها في “رسالتها” اليومية و في نشرتها الأسبوعية. و مع ذلك فهي تعلن عن  عجز متكرر غطته دوما و ما تزال الكنيسة التي أسستها سنة 1908 . في فرنسا، آمَنَ موقع ” الزنقة89 ” Rue 89 المؤسس عام 2007، هو الآخر بالمجانية التامة لصالح القارئ؛ واستطاع الاستمرار بفضل الإشهار و بيع تكوينات و إعادة رسملة تمت عدة مرات، لكنه لم يستطع تحقيق التوازن المالي. إن إعادة شرائه ، سنة 2011، من لدن ” نوفيل أوبس” Nouvel Obs هي فقط التي ضمنت نجاته.  لكن ” النوفيل أوبس” أصبح يتحكم فيه على مستوى الخط التحريري.

ومع ذلك، تبدو المجانية التامة ناجحة عند عدد معين من الصحف الإلكترونية ” الكل على الشبكة” Pure players، مثل “بوزفييد” BuzzFeed أو “هوفنغتن بوست” Huffington Post . لكن المذكورين السابقين ينحازان إلى الترفيه المزود بالنقرات وبالإعجاب على الشبكات الاجتماعية، مع الاستعانة بمضامين منتجة مجانيا من قبل مساهمين غير صحافيين.

تطور العرض المؤدى عنه أو العرض المختلط:

إنه لمن الصعب إذن تفادي جعل القارئ يؤدي الثمن، إذا أراد المرء إنتاج خبر جيد. لقد التزم موقع ” ميديابار” Mediapart  بهذا الاختيار منذ إحداثه عام 2008: وضعية مضادة لتيار كل الوسائط الرقمية حينها. حقق الموقع الذي أسسه “إدوي بلينيل” Edwy Plenel ، مع ذلك، توازنه المالي بعد مرور سنتين ومن المتوقع أن يحتفل بمشتركه رقم 100000 خلال 2015 . تواصل اليوميات الفرنسية الكبرى، مثل ” لوفيغارو” Le Figaro و ” لوموند” Le Monde ، تقديم محتويات غنية و ملتصقة بمجريات الأحداث بالمجان، وهو ما يضمن لها متابعة واسعة. إلا أن الإطلاع على مجموع محتويات الصحيفة يتطلب الاشتراك ( أو شراء نسخة).

كانت ” فيننشيال تايمز”Times  Financialأول صحيفة تخرج من ورطة ” مجاني أو مؤدى عنه”. لقد وضعت على موقعها “حائط أداء”  Paywall يدعو المُبحر إلى الأداء بعد عدد معين من المقالات المتاحة للإطلاع الحر. وقد تبنت صحيفة ” لي إيكو” Les Echos في فرنسا نفس الصيغة. لقد ذكى ازدهار الهواتف الذكية والألواح الإلكترونية الأمل في إنشاء نظام بيئي سانح أكثر لتطور عرض مؤدى عنه.

يتذكر الجميع رهان “آبل” Apple في بداية سنوات 2000: بفضل الزوج المكون من جهاز الاستماع الرقمي ” إيبود” IPod و من قاعدة “إي تيونز” iTunes للتحميل، جعلت شركة التفاحة مبيعات الموسيقى الرقمية تقلع، في وقت بدا فيه أن المجانية صارت هي المعيار في هذا القطاع مع انتشار ظاهرة “الند للند” Peer-to-peer. لذلك تقوم الوسائط منذ أشهر بمضاعفة التطبيقات الجديدة للتحميل على “أبستور” AppStore، “غوغل بلي” Google Play  و ذوي الاهتمام المشابه. كما انطلقت ” بدائل اقتصادية”  Alternatives Economiques هي الأخرى ومنذ نونبر الماضي في هذا المضمار، بإصدارها الرقمي الجديد “ألتير إيكو بلوس” AlterEcoPlus.

هل يعتبر ” حائط الأداء” والتطبيقات المؤدى عنها هو الترياق الذي سيسمح أخيرا للصحف بتحقيق توازن حساباتها؟ قد يبدو نموذج “نيويورك تايمز” New York Times ، التي تجاوز عدد مشتركيها الرقميين ( 910000 في نهاية 2014) عدد مشتركيها الورقيين، مشجعا. لكن ” السيدة الرمادية” Gray Lady ( لقب “نيويورك تايمز”) اضطرت رغم ذلك إلى الخضوع لـ “علاج-حصان” للتحول إلى الرقمي: لقد باعت بأسعار بخسة أنشطتها الأخرى و من بينها جريدة ” بوسطن غليب” Boston Globe ، ودفعت السنة الماضية بمائة صحافي من أصل 1300 الذين كانوا يكونون هيئة تحريرها، إلى مغادرة العمل. فرغم أن ” نيويورك تايمز” تظهر في القمة من أجل ابتكار عروض جديدة و محتويات جديدة – و خاصة الوسائط المتعددة-، إلا أن تزايد مشتركيها يعرف التباطؤ، و آخر ما أطلقته من تطبيقات لتشبيب جسم قرائها كان فشلا ذريعا أو نصف- نجاح.

مستقبل غير أكيد:

هل بالفعل بإمكان هذه الصيغ المؤدى عنها إغراء جمهور واسع متعود على المجانية؟ أم أن أتباع الرقمي الاستثنائي لن يكونوا سوى أقلية هرمة مكونة من معتنقين جدد منحدرين من ثقافة الورق؟ إذا كان الأمر كذلك، سيصبح من المستحيل تمويل الفرق التحريرية ذات الخبرة و المؤهلة، الضرورية لتغطية الأخبار تغطية تامة و ذات جودة. إلا إذا أستندت الصحف إلى أنشطة مربحة أكثر، على غرار مجموعة  ” أكسل شبرينقر”  Axel Springer،: لقد باع عملاق الوسائط الألماني مجلاته و بعض الصحف المحلية ليتمركز حول عنوانيه الرئيسيين ” بيلد ” Bild و ” دي فيلت” Die Welt؛ بالإضافة إلى شرائه لباقة من المواقع التشاركية الناجحة ( Aufeminin.com ; Marmiton.org)، و لمتخصص في الإشهار على الشيكة، و كذا للعديد من مواقع الإعلانات الصغيرة الكبرى، مثل “Seloger.com”. لكن إلى متى سيصمد هذا الاقتران الأعرج بين صحف ” الكل على الشبكة” الواعدة و بين صحف الأخبار التي تعاني من عجز مالي هيكلي؟

___

مجلة ” بدائل اقتصادية” Alternatives Economiques

عدد 344. مارس 2015 .

 

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *