«رامبرانت».. اللوحة دفء الحياة

*غيث خوري

في تاريخ الفن هناك عدد كبير من الأسماء التي أسهمت وكان لها حضورها البارز في عمليات التحول والنقلات النوعية التي شهدتها الفنون، إلا أن أسماء قليلة تخطى تأثيرها كل الحدود الزمانية والمكانية، وأصبحت هي بحد ذاتها مدرسة فنية تعلمت منها أجيال الفنانين، وسحرت إبداعاتها الناس سواء كانوا مختصين أو محبين للفنون في الأزمنة المتلاحقة، وهذا هو حال الفن الذي قدمه الساحر الهولندي «رامبرانت هارمنزون فان رين» ( 1606-1669) أحد أشهر رجالات الفن على الإطلاق، وساحر الظل والنور كما يحلو للكثيرين تسميته.
كان رامبرانت واحداً من عمالقة الفن، الذين استطاعوا تمثيل عصرهم، وطبع كل ما يمت إلى بيئتهم بطابعهم الشخصي وباسمهم، فهو ملك عصره، كما كان ليوناردو دافنشي ومايكل أنجلو من قبله، وقد عاش حياة فنية مغرقة في اللون الداكن، وعاش حياة درامية مغرقة في البؤس والهوان، ومن بؤس حياته المعتمة خلف وراءه أعظم لوحات مشعة فنياً في تاريخ الفن الأوروبي والعالمي، مستوحياً من عالم القديسين والأنبياء عددا لا يحصى من الموضوعات، كما حاول أن ينقل إلى رسومه، الخلجات النفسية التي ترتسم بسحر عجيب على وجوه الذين يعيشون في حالة، تجمع النقيضين، النشوة والألم، هذه الوجوه التي حاول فيها رامبرانت التعبير عن الانفعالات الدفينة، وتأثير هذه الانفعالات على الكيان العضوي للإنسان.

اتجه رامبرانت اتجاهاً جديداً في الرسم، وذلك في معالجته فكرة الضوء، الذي بواسطته فقط، يستطيع المرء رؤية الأشياء، ومتابعة الدقائق، والوصول إلى أسرار الشكل، وإلى ما يتضمنه هذا الشكل من حقيقة، ولهذا السبب اقترن اسم رامبرانت بالضوء، لقد حاول رامبرانت أن يلقي هذا الضوء السحري طيلة حياته، على وجوه الكهول من القديسين الغارقين في التفكير، وجوه الشعراء ذوي الانفعالات الدفينة، وفي عدد قليل من آثاره رسم الشباب ولكنهم شباب حملوا هموم الكهول وتجاربهم.
وفاضت لوحاته بدفء الحياة، لذلك ظلت إلى اليوم تثير المشاعر لاهتمامه باللمسة الإنسانية ومشاهد الحياة اليومية، كما كان من أوائل مصوري أوروبا الذين أنزلوا التصوير الديني إلى أرض الواقع وجعلوا فنهم معبراً عن الضعف الإنساني وقوته.
كانت أعمال رامبرانت الأولى مجموعة من قصص الأنبياء والقديسين منها (توبي وزوجته) و(القديس بولس الجالس) وفي هاتين اللوحتين تتجلى مفاهيم الفن الإيطالي آنذاك، الداعية إلى الدقة والتفاصيل، والإحكام في صياغة الشكل، هذا إلى جانب بوادر واضحة المعالم، لعناية رامبرانت بتوزيع الضوء على نحو جديد، إلا أن هذا المنحى لدى الفنان، يتجلى بوضوح أكثر في لوحاته (المفكر في خلوته)، حيث تطل بقعة كبيرة من الضوء من نافذة واسعة، لتضيء جزءا من صومعة القديس (جيروم) الغارقة في الظلام، ليس الرجل هنا، ولا المنضدة، أو الكتب، سوى أشباح سوداء غامضة، تقف على حافة الضوء العجيب.
في نهاية عام 1631 سافر رامبرانت إلى امستردام لكي يستقر نهائيا هناك، وفي تلك المدينة الكبيرة، تواردت عليه الطلبات من كل حدب وصوب، وقد كان أول عمل قام به، هو رسم لوحته الشهيرة (درس التشريح للدكتور تولب) وللمرة الأولى يجمع رامبرانت هذا العدد من الأشخاص في لوحة واحدة، وقد رسمها تلبية لطلب تلقاه من الدكتور نيكولاس تولب ليصوره هو وأطباء قسم الجراحة في مستشفى أمستردام أثناء إلقائه درس التشريح عليهم، وذهب رامبرانت إلى غرفة التشريح ليرسم صورة تضم ثمانية من الأطباء مجتمعين حول جثة رجل شاحبة ممددة فوق منضدة التشريح وقد انكبوا على الجثة يرمقونها بعيون مدققة فاحصة. وقفت الشخصيات إلى يمين الدكتور تولب بشكل غير منتظم وهذا لم يكن مألوفا في الصور الجماعية، ولم يصور رامبرانت هذه اللوحة أثناء محاضرة حقيقية، كما أن صورة العضلات لم ينقلها من الواقع بل من رسومات توضيحية في كتاب طبي عن جسم الإنسان لأدريان فان إسيجل، ونجح رامبرانت بحساسيته العالية في نقل الإحساس بأننا أمام مشهد تشريح لذراع حقيقية، وتتأكد درامية هذا المشهد في تلك الظلال الساقطة على أطباء وكأنهم قد كتموا الأنفاس للحظة واحدة أكدتها برودة الظلال على الوجوه، وقد تعرضت هذه اللوحة للإهمال أثناء تنظيفها خلال القرنين الماضيين حتى تلاشت أجزاء من الشخصيات الواقفة بأقصى اليسار في مساحات ضبابية سوداء.
في عام 1633 عهد إليه برسم فتاة من أسرة كبيرة تدعى (ساسكيا فان أولنبرغ) فرسمها في عدة لوحات، أهمها «ساسكيا ذات القبعة الحمراء» و«ساسكيا ذات الأزهار»، حيث يظهر في هاتين اللوحتين اهتمام رامبرانت الشديد بملاحقة التفاصيل والدقائق، إن كانت في الأزهار على رأس ساسكيا، أو في الزخارف على ملابسها، أو بريق المجوهرات على صدرها، وقد تزوج رامبرانت المتواضع من ساسكيا ابنة الطبقة الراقية، وتألق نجمه، وأصبح قبلة كل من يود الحصول على لوحة فنية، ذات قيمة خالدة.
ومضى رامبرانت يصور زوجته التي يعشقها ساسكيا مخلدا إياها في عدة لوحات، إحداها وهي «متشبهة بفلورا» 1634، وأخرى ضمتهما معاً يضحكان من فرط سعادتهما بعد زواجهما بعام تقريبا، وفي اللوحة تجلس ساسكيا ورمبرانت ونراهما من الخلف ولكنهما يلتقيان برأسيهما إلينا وقد انعكس على وجهيهما الضوء الناعم القادم من جهتنا ويبدو أن رامبرانت صور هذه اللوحة من المرآة خلفه.
إلا أن هذه الفترة من حياته السعيدة، ما لبثت أن تحولت إلى السواد، فقد ماتت ساسكيا عام 1642 ومات بعدها طفله الوحيد (تيتوس) وبقي هو وحيدا، وقد اعتبر النقاد أن الفترة التي تلت وفاة ساسكيا، هي الفترة التي تجلت فيها عبقرية رامبرانت وبدايــــة فنــــه الحقيقـــي، مع لوحته «الحرس الليلي» التي رسمها عقب انتهاء السنوات العشر السعيدة، وهي من قلائل لوحاته، التي تجمع هـــذا العدد الغفيـــر مـــن الناس، واعتكف رامبرانت في مرسمه طوال عام للانتهاء من هذه اللوحة الضخمة التي بلغ طولها ثمانية أمتار وعرضها ستة أمتار.
وقد صور رامبرانت هذه الكتيبة خارجة في موكبها تحوطهم الظلمة وقليل من الضوء المسلط بمهارة على شخصيتي المقدمة، ويمكن رؤية تدفق الضوء وانتشاره ساقطا من الأمام ومن أعلى خلال وحتى بين المارة الذين تجمعوا حول الكتيبة، وقد تخلل الضوء الأركان والزوايا في تدرجات لونية توحي بالحيوية وتدفق الحركة التي تؤكدها وقفة الكابتن، كما أن حركة الجنود تزخر بها اللوحة فقد وجد منهم من ينظف بندقيته أو يحشوها بالبارود، وأيضا قارع الطبلة إلى أقصى اليمين من اللوحة، وباقي الشخوص كل منهم يتجه برأسه أو ذراعه إلى جهة مختلفة، ولقد كتب عن اللوحة «فان هوغستراتن» الناقد الهولندي، المعاصر لرامبرانت يقول: «إنها مدخل لمدرسة فنية عظيمة، ونحن إذ ندرك معنى الانسجام، وكذلك إذا لم نكن حازمين في أحكامنا، فإنه يقتضي أن نقول، إن معظم اللوحات لمعظم الرسامين في عصرنا – ما عدا هذه اللوحة- لا تتعدى قيمتها ورق اللعب».
مات رامبرانت عن عمر يناهز الثالثة والستين تحت وطأة المرض والفقر والجوع، تاركا خلفه فنا خالدا، زاخرا بالخصائص الفريدة، في ظله ونوره وألوانه الدافئة، وفي هذا الصدد يقول صدقي إسماعيل في كتابه «مطالعات في الفن التشكيلي العالمي»: «كان رامبرانت هولندياً لا ترى عيناه إلا الألوان الداكنة، التي تخيم على غرفة مغلقة الأبواب والنوافذ، في ليلة من ليالي الشتاء، ولم يكن الضوء الذي ينير له بعض ما يريد رؤيته، سوى ضوء موقد حالم، أو ضوء شمعة مرتعشة.. إلا أن هذا الضوء، عندما يدخل في تجربة فنان كرامبرانت يتحول إلى دفء سحري، وإلى إشعاع يضفي على أي شيء يقع في طريقه، مسحة من الذهب. ولذا فقد انحصرت اختياراته في الألوان الدافئة، التي تبدأ بالأبيض المصفر، ثم تستمر بالأصفر والبرتقالي والأحمر الناري، حتى تنتهي في تدرجات اللون البني لتغيب بعدها في الظلام. لم يستعمل رامبرانت أياً من مشتقات اللون الأزرق، وإذا ما عثرنا على بعض من اللون الأخضر في رسومه، فإن هذا ليس أكثر من بقايا أخضر لأعشاب، أوشكت أن تيبس، أو أحرقتها رياح الخريف».

______
*الخليج الثقافي

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *