*غيث خوري
تثير ظاهرة الكتب الأكثر مبيعاً «البست سيلر»، عدة تساؤلات حول الواقع الثقافي والفكري الذي يعيشه العالم اليوم، فهل الأعلى مبيعاً هو معيار تقويمي صحيح لاعتبار رواية ما على سبيل المثال، بأنها عمل أدبي جدير بأن يأخذ مكانته التأثيرية في المجتمع؟ وإذا كانت معياراً، كيف إذاً تقاس الأعمال التي لم تدخل في السباق التنافسي المحموم في قوائم الأكثر مبيعاً؟ وهل أرقام الطبعات والمبيعات الكبيرة التي تصدر عن هذه الكتب هي أرقام صادقة يمكن الاعتداد بها؟ وهل هناك مواضيع وثيمات معينة، مشتركة بين هذه الكتب الأكثر مبيعاً؟
يرتبط وصف «البست سيلر» لدى البعض بالجانب السلبي والسمعة السيئة، ويعتبرونها ظاهرة وهمية غرضها الدعاية، وفي الأغلب لا تقاس بموضوعية، كما يؤكد الناقد المتخصص بمراجعة الكتب دينيس لوي جونسون: «مصطلح البست سيلر هو أمر ضار ووهمي وزائف، لأن القراءة لا يمكن اعتبارها عملية تنافسية مطلقاً، وتلك القوائم لا علاقة لها بتغطية الأدب والفكر والثقافة، بل يجب وضعها في الصفحات الاقتصادية أو المالية. دلالة قائمة البست سيلر لثقافتنا حالياً هو أن المزيد والمزيد من فئات الكتب تم استحداثها، لتملأ تصنيفات قوائم البست سيلر من دون فائدة ثقافية حقيقية أو معلومة يمكن الاعتماد عليها بثقة».
يرى نقاد آخرون أن قوائم البست سيلر تقوم بتقديم كتب ذات طبيعة باذخة ومبهرجة ومثيرة، على حساب كتب رصينة أكثر فائدة وأهمية أدبية وفكرية، وبالتالي هذا قد يعني أن ضررها أكثر من فائدتها. يقول ناقد الكتب في جريدة واشنطن بوست جوناثان ياردلي «لست عدواً بالغريزة للرواج والانتشار، لكن ذلك يشجع القراء والمشترين على شراء كتب جديدة ليست ذات أهمية حقيقية اعتماداً على (الكم) المتداول في القوائم وليس (الكيف) المجرب بالقراءة، إنها تشجع على (غريزة القطيع). ويجب أن نعلم أن ما يطفو ويرتفع عالياً ليس بالضرورة الأفضل».
فيما يعتبر آخرون أن رواج هذه الكتب وتصدرها للمبيعات، لا يعنيان أن تكون هذه الأرقام كاذبة دائماً أو أن نطلق أحكاماً قطعية بشأنها، فهناك اعتقاد خاطئ بأن الكتب الأكثر مبيعاً كتب عادية، لمؤلفين لا يستحقون أن توضع أسماؤهم بين أسماء كتاب الصف الأول، وهذا تصور أحادي النظرة يشابه تماماً اعتبار الكتاب الأكثر مبيعاً كتاباً جيداً يستحق التقدير فقط لأنه حاز أرقاماً عالية في المبيعات.
برزت ظاهرة «البست سيلر في الوسط الثقافي منذ سنوات، ولم يكن لها نفس الثقل والبروز في العقود الماضية، كما اشتد ظهورها في مجال الرواية، حتى أصبحنا نشهد طبعات عدة من رواية ما في فترة قصيرة، إضافة إلى ترجمتها إلى عدة لغات، وتحولها إلى مسلسل درامي أو فيلم سينمائي، ونجد عدداً لا بأس به من هذه الروايات تلعب على أوتار الغرائز البشرية، والاعتماد على تشكيل مشاهد بصرية تستند إلى تقنية المونتاج السينمائي والأحداث الساخنة البوليسية، وتصوير المعاناة الواقعية للشباب ومشكلاتهم في المجتمع وطموحاتهم وإخفاقاتهم، وانسحابهم من الحياة تحت وطأة ثقافة أبوية، إضافة إلى ثورتهم على التقاليد وأشكال السلطة التي يواجهونها ولا يمتلكون مقومات تغييرها.
في كتاب «قضايا أدبية: نهاية الرواية وبداية السيرة الذاتية» يقدم حمد العيسى، مجموعة من المقالات النقدية التي ترجمها في الشعر والرواية وغيرها من القضايا الأدبية، بينها مقالة «البست سيلر في الرواية العربية» للبروفيسور روجر ألن، وهو أستاذ اللغة العربية والأدب المقارن في جامعة بنسلفانيا الأمريكية، وهو أيضاً مترجم للعديد من الأعمال في الأدب العربي الحديث.
يتساءل ألن في مقالته، كيف أصبحت رواية «بنات الرياض» للكاتبة السعودية رجاء الصانع تستحق الترجمة والنشر باللغة الإنجليزية وبواسطة ناشر شهير ليس أقل من بنغوين بوكس، ويجيب بأن هذه الرواية يمكن تشخيصها كنوع من البوح الفضائحي، وتعرية المجتمعات في كتابات الشرق الأوسط، أي أنها رواية يتلهف على خطفها الناشرون الغربيون لكي يموّنوا سوقاً من القراء الفضوليين المهتمين جداً بالحصول على إضاءات لعالم غامض ومغلق بالنسبة إليهم.
ويضيف ألن في بحثه عملين آخرين، هما«ذاكرة الجسد» للكاتبة الجزائرية أحلام مستغانمي، «وعمارة يعقوبيان» للكاتب المصري علاء الأسواني، حيث نجد أنفسنا نواجه ثلاث روايات من مناطق مختلفة في العالم العربي، حصلت على تقييمات نقدية متفاوتة من مجتمعاتها النقدية المحلية، ومع هذا باعت جميعها نسخاً كثيرة جداً بالعربية بطريقة غير معتادة، كما بيعت ترجماتها فيما بعد بطريقة ممتازة للغاية في الأسواق الغربية، كما يترك ألن ملاحظاته حول بعض الأسباب التي أدت بهذه الأعمال للصعود، فيقول: في مقاربة نظرية للقضايا المطروحة، أتذكر أنه في مؤتمر أوبلاسا، لفت الدكتور ستيفن غوث من جامعة أوسلو الانتباه لمشروع جديد عن «ما بعد بعد الحداثة»، وضمن سياق الرواية العربية لاحظ عودة أنماط كتابة تقليدية ل «ما قبل الحداثة» للواقعية النقدية، وتستخدم أساليب سردية عدة مثل الحكي الكرونولوجي (الزمني البسيط)، وعدم التشظي، والراوي العليم، بينما كما قلت سابقاً يأتي هؤلاء الروائيون الثلاثة من مناطق مختلفة من العالم العربي وينتهجون طرقاً مختلفة للسرد، إلا أنهم متحدون في تجنب الغموض والشك، وتعقيد الأسلوب وتعقيد الجنس الأدبي الذي يعتبر خاصية مميزة للإنتاج الروائي العربي في السنوات الأخيرة، وبواسطة كتاب مختلفون تماماً ك إلياس خوري وإبراهيم نصر الله وإبراهيم الكوني على سبيل المثال لا الحصر».
ويضيف «خلال عقد الثمانينات عرّف الروائي المصري إدوارد خراط، خاصية أخرى خلال المناقشات النقدية عن الحداثة، عندما ابتكر مصطلح «الحساسية الجديدة» لكي يصف موضات حديثة في أنماط كتابة الرواية العربية، لعل أهمها الكتابة «عبر النوعية» للجنس الأدبي، والتعقيد الأسلوبي المتعمد، وفي سياق كهذا فإن الروايات الثلاثة السابقة يبدو أنها بالفعل تقدم كما يقول غوث «عودة إلى التقليد»، وابتعاداً عن الغموض والتعقيد لرواية «ما بعد الحداثة»، والتحول من الأسلوب الحواري إلى دور الراوي والسرد في الرواية، إذا استعملنا مصطلح ميخائيل باختين الشهير «لصالح أسلوب المونولوغ»، بينما بعض هذه الروايات تستخدم السرد لوصف وجود أكثر من صوت، وهذه دعوة للقارئ لكي يرتاح ويترك السارد يروي له بدلاً من أن يشرح له».
في جانب آخر نجد أن ظاهرة «البست سيلر» قد اتخذت منحى سلبياً، فنرى كتباً تُرصد للنجاح قبل صدورها، ومن أبلغ الأمثلة رواية ميشال ويلبيك «احتمال جزيرة»، كذلك كتاب باولو كويلو «الزّهير»، الذي أثبت منذ صدوره وحتى قبل ذلك، أنه منذور للمرتبة الأولى على لائحة أفضل المبيعات، كأن المكان محجوز له سلفاً، إذ احتلت الرواية رأس قائمة البست سيلر في البرازيل قبل شهر من صدورها، وذلك بسبب نظام الحجز المسبق للنسخ الذي بات شائعاً اليوم في العالم، والذي أقبل من خلاله قراء كويلو على تأمين نسخهم من جديده في كثافة لا مثيل لها.