*هيثم حسين
تعالج الكاتبتان الفرنسيتان، ماري لومونييه وأود لانسولان، قضية الحب في حياة الفلاسفة وأفكارهم في كتابهما المشترك “الفلاسفة والحبّ” الذي تنقبان فيه عن بعض خبايا من حياة الفلاسفة، وهكذا تدوران في فلك الحب وتبحثان عن أسراره في عالم الفلاسفة وحياتهم، تكشفان من خلاله أسرارهم نفسها.
تشير المؤلفتان في مقدمة الكتاب إلى أن ثمة فكرة سائدة بأن الفلسفة والحب لا يجتمعان، ويقطن كل منهما في غرفة منفردة. وتجدان أنه إذا تم التطرق إلى موضوع بهذه الأهمية في حياة البشر، فلن يكون من المدهش اكتشاف أن الحب أصبح كالصحراء المهجورة من قبل روائيي العدمية الجنسية، وعلماء الاجتماع الذين ينتمون لتيار “الارتباك العاطفي” الجديد، والتقوى الزائفة.
رؤى مختلفة
يشتمل الكتاب، الصادر عن منشورات التنوير، ومن ترجمة دينا مندور، على عدة فصول، هي “أفلاطون: أنشودة الحب”، “لوكريس: الحب وتحدياته”، “مونتاني: قفزات الحب ووثباته”، “جان جاك روسو: حياة وموت من أجل الرومانسية”، “إيمانويل كانط: صحراء الحب”، “آرثر شوبنهاور: اغتيال الحب”، “سورين كيركيجارد: الحب المطلق”، “فريدريك نيتشه: الحب بضربة المطرقة”، “مارتن هايدغر وحنة أرندت”، “جان بول سارتر وسيمون دو بوفوار: حرية الحب”.
تلفت الباحثتان إلى أنّ أحدا لم يحاول مواجهة الرؤى المختلفة للفلاسفة حول الحب، إلى درجة أن المرء قد يكتشف المزيد من العمق في الحديث عن الحب في الأغاني الشعبية عنه عند المفكرين المعاصرين. وتلفتان إلى أنه مع كون الحب الظرف القدري للسعادة عند غالبية البشر، والعنصر الدائم لكل أشكال الدراما الأدبيّة، إلا أن الفلاسفة قد أثاروه بتحفظ شخص يدخل قفص الأسد ويخشى أن يؤكل حيا.
تؤكد المؤلفتان أنه بالإمكان إعطاء بعض التفسيرات لملاحظاتهما، وقد تفهمان أنّ الفلاسفة يطالعون تلك العاطفة الغريبة بالكثير من التعقل لأنهم مشغولون بتحرير الإنسان من كل أشكال العبودية العقلية، فيما يؤدي الحب بالإنسان إلى الموت كمدا. وتشيران إلى أن الحب يبدو مقاوما لكل أشكال العقلنة.
وهو ما يسمح بفهم الارتياب الذي يسببه هذا الشعور. تذكر الكاتبتان أن الحب مقترن بالرثاء والحوادث الغامضة والرواسب النفسية، وكلها أمور لا تشرق عليها شمس العقل، لذلك فالحب لم يكن ليمثل موضوعا عند الفلاسفة، فيما كان موضوعا مسليا في الأدب، وهكذا تحدث الفلاسفة عن الحب بازدراء ذكوري وهاجموا كل من يرفض تحليلهم.
تتساءل المؤلفتان عما إن كانت الفلسفة تعد الحب أرضا لإعادة الاستثمار وللدفاع المحموم، إذ تنطلق منها مقاومة للعدمية التي تهيمن عليه وتبدو، مع ذبول الفعل الجنسي واختزاله في مجرد تحرر مريض، كأنها وجدت ما تحتاجه من أسلحة للتدمير المكثف، وينطلق منها تحد سياسي أيضا، حيث يتعارض منطق الحب مع العقلنة الواضحة للسوق، وحيث يعتبر كل إنسان نفسه مجرد عنصر جزئي غير متميز ومدعوم بقانون الحسابات الأنانية فقط.
تؤكد المؤلفتان مقولة قل لي كيف تحب أقل لك من أنت، وتتحدثان عن أنواع عديدة من الحب، منها نزوة الأيام المعدودة، الاستلاب المقيد، الفتور المستمر، الجموح الخاطف، الاعتياد البارد. وتجدان أن الفلاسفة لم يفلتوا من كل تلك الأنواع، ما يتيح لهما عينات استعراضية لكل تلك السلوكيات.
بين توصيف الحب بأنه فعل بلا أهمية بما أنه يمكن فعله في أي وقت، بحسب تعبير ألفريد جيري، وكونه عاملا يدفع إلى الانتحار على طريقة الشاعر الإيطالي تشيزاري بافيزي، تتحدث الكاتبتان عن تحديات الحب، وجنون المحبين، وواقع التخبط الذي يعانيه الفلاسفة الذين وقعوا في الحب، ومحاولتهم عقلنته والتملص من استحقاقاته أو تبرير بعض ما يحرضه من جنون، والحديث عن أن لذة الحب لا تدوم سوى لحظة، وألم الحب يدوم طوال الحياة.
الحب في خطر
تتحدث الباحثتان عن أن الولع بالأساطير المرتبطة بالحب، والمبالغة المضللة التي تصاحبه كظله، لن يستطيع وحده تفسير الجاذبية الدائمة للحب على البشر. وكيف يتسابق كل المحبين في اتجاه انسلاخ بريء، وكيف تمارس أسطورة الروح الشقيقة ذلك الافتتان عبر العصور، معاندة كل الإخفاقات السابقة وخيبات الأمل المحتملة.
وتؤكدان في الفصل الذي تتحدثان فيه عن جان جاك روسو واعترافاته، أن هناك طاقة جلية تستوطن الحب، قد تقود المرء في بعض الأحيان إلى الجريمة وتقوده كذلك إلى الأعمال التطوعية والإنسانية. وبفضل هذه الطاقة ثبت أن الإنسان ليس هذا الهيكل المتكون من الحسابات النهمة، ونوبات الجزع التافهة، تلك الصورة التي أرادتها له الأزمنة الحديثة وقصرته عليها.
وتلفتان إلى أن روسو يشجّع على النزوات العابرة، كما فعل غيره، أي الذين حاولوا تفكيك غموض الحب، فحذروا المحبين من الحب الحقيقي والمشاعر المستقرة لأنها ستؤدي بهم إلى الدمار الحتمي، بل على العكس فقد دعا إلى صنع “لوحة صادمة لأهوال الفسق والخطيئة، والتسكّع الأرعن، والمنحدر اللامرئي الذي يؤدي إلى كلّ الارتباك في ما بعد”.
وتشيران إلى أنه لم يكف عن الإشارة إلى خيالية الحب، ثم تستدركان بالقول إنه على الرغم من كونه نابعا من الخيال إلا أن آثاره واقعية تماما، وهو الذي يقول “الحب ليس إلا وهما، أعترف بذلك، إلا أنه يحوي حقيقة واحدة تتمثل في ما يولده فينا من شعور بالجمال الحقيقي الذي يجعلنا نحب. هذا الجمال لا يتمثل في من نحب بل هو من صنع أخطائنا؟”.
تحت عنوان “الحب في خطر” تلفت المؤلفتان إلى أن جوهر ما كان يخيف روسو هو اتساع ميدان الصراع ليبلغ الممارسة الجنسية ذاتها. فتصبح حرب الجميع ضد الجميع والتي ستحدث حتما، إذا كف الرجل والمرأة عن أن يكمل أحدهما الآخر كي يتنافسا.
وتجدان أن خوف روسو العميق هو من أن تصبح المرأة هي الذئبة بالنسبة إلى الرجل. وأن هذا الهاجس لازمه طويلا قبل المفكرين الكثيرين الذين قلقوا من الهيمنة المسماة “الأم الكبيرة – المسيطرة” وحمّلوا المطالبات النسوية مسؤولية الفوضى المجتمعية المهلكة.
يقارب الكتاب الحب في حياة نيتشه وبعض آرائه حياله، هو الذي اعتبر الحب انبثاقا للقوى، وحركة شاطحة قد تصل بالإنسان إلى حد الفناء، وشيطانا مخيفا بحسب تعبير سوفوكليس. وكيف أن الحب يلتهم المحب ويتملكه كليا ويهيمن بالروح والجسد على قلب ضحيته، فيقضي عليه. تثبت المؤلفتان تأكيد نيتشه أن كل حب عظيم يولد الفكرة القاسية المتعلقة بتدمير المحبوب كي يسرقه مرة واحدة في لعبة التغيير المدنسة: لأن الحب يخشى التغيير أكثر مما يكره الدمار. وتوصيفه لصراع الحب بأنه صراع ضار بالضرورة، وإلا فلن يكون حبا.
يسرد الكتاب جانبا مما وصفه بحرية الحب، عن تلك العلاقة التي ربطت بين جان بول سارتر وسيمون دوفوار اللذين اتفقا على الحرية في علاقتهما، وقد وصفت تلك العلاقة بأنّها نموذج فوضوي غريب، آثر طرفاها المحافظة على حريتهما المفترضة في مواجهة استعباد الحب المشروط، كانا معا، كتبا عن الحب بأسلوبهما الذي عاشاه، ونمط حياتهما الذي اختاراه لنفسيهما.
_____
*العرب
مرتبط
إقرأ أيضاً
الفلاسفة .. والحب*جهاد فاضلإذا كان الموت قدر الجميع بمن فيهم الأطباء كما يقول أبو الطيب المتنبي في…
هايدغر والفكر العربيصدر حديثًا، عن المركز العربي للدراسات، كتاب «هايدغر والفكر العربي» للكاتب مشير عون، وقد ترجمه…
-