موسم الحجّ إلى الصّحراء

خاص- ثقافات

*سامية إبراهيم الحاجي          

 

كُنّا ٱربعة وخامسنا كلب..خمسة وسادسنا كلب..ستّة وسابعنا كلب..سبعة وثامننا كلب..أو…أو لا أدري..كُلّ ما أذكره أنّا فررنا من الكهف المُظلم حيثُ تتشبّث بأركانه العيون اللّولبيّة المُتعدّدة

الألوان والنّظرات..كانت تُحيط بالمكان وتُحكِم وثاق النّفس بحِبال رُموشها..كالمسامير تثقُب

 الأبدان لِتُعلِّق على جُدرانها صُوَرًا ورُسومات من وحي خيالها الذي لا ينفذ

كان لا بُدّ من الفرار من الجرذان التي اِكتسحت أسوار المدينة وطوّقت أسوارها الهشّة

اِتّجهنا إلى الصّحراء الموحشة ..حيثُ تمنحُنا الأنس والأمان..هناك ..بنينا بيتًا تحوطه حديقة غنّاء نسقيها رحيق حُبّنا وعِطر حناننا..فتنمو حُرّة ..طليقة ..وتلد لنا ذرّية صالحة للغذاء..تُقدّمها لنا في طبق نُحاسيّ يُحاكي الشّمس في لمعانها..

في الصّحراء..لم أكُن مُجبرة على وضع الزّيوت الواقية لبشرة وجهي من الشّمس..فلقد تعانقتُ والشّمس ولقّحتُ بدني ضدّ حُروقها..فأصبحت تنزل عليّ بردًا وسلامًا..

لم أحرص على اِختيار تسريحة آخر موضة..ولا اِرتداء الكعب العالي..كُلٌّ على سجيّته..على

طبيعته أحلى وأصدق..

لم نكُن بحاجة لخدمات الهاتف ..فهي في الواقع ليست سوى مُضايقات خُصوصًا في اللّيل..جهاز التّلفزة تخلّصنا منه قبل أن نعبُر مملكتنا الأبديّة..ماذا سنُشاهد من خلاله..؟ الظُّلم المُتربّص ببني الإنسان ؟..العُنف والدِّماء البشريّة ؟..آخر إنجازات عُلماء هذا العصر ..والمُدمّرة لِكُلّ ما هو

 جميل..؟

الورقات الخضراء ..مزّقناها بإيعازٍ من صحرائنا..فهي ترفُض جلب أيّ داءٍ مُعدٍ إلى رُبوعها..

كلّ صباح..تستقبلنا الشّمس بثغرها الباسم..هي تعوّدت على لُقيانا..لا تستطيع البزوغ دون رُؤيانا..كانت تُرسل أشعّتها القُزحيّة نحونا وتهتف

ــ أنا الشّمس..أنا أصل نُموّ وتواصُل الحياة..أنا صديقتُكم..أنا القنديل الذي يُضيء سماء حياتكُم

كُلّما اِنسحبت الشّمس مُتأسّفةً على فراقنا..وأرسل الشّفق ألوانه الوهّاجة المُحبّة للحياة..نجلس تحت جذع نخلة..بثيابٍ بيضاء ..ودون أحذية..كُنّا نعزف أحلى ما جاد به الإحساس البشري..ونسبح في تأمُّلاتنا..إنّها النّعمة والأمان..بعيدًا عن زيف الحياة التي هجرناها..

 

حتّى الأعاصير لم تعُد تُخيفُنا..فقد عقدنا هُدنة أبديّة وصداقة دائمة..عندما تطرُق الرّياح أبواب حياتنا ..كُنّا نرقُص على نغماتها ونستمدُّ من بردها الدّفء..كُنّا نُسرع من حولها مُهلّلين ..مُلقين بأجسادنا بين أكُفِّها..لِتُسافر بنا إلى عالم سرمديّ..نظيف ومُعطَّر..

صارت صحراؤُنا ملجأ لِكُلِّ ظمآن ..يحُجُّ إلينا طالِبًا البقاء الدّائم..شرط القبول ..الاكتفاء بالزّيّ الأبيض..يُصادق السّماء ولا يُعاديها..التّخلُّص من السّاعات المعطِّلة لِدقّات إحساسنا ..الاستغناء عن الأحذية ومسح الأرجُل في خِرقة مُلقاة على عتبة الصّحراء..ومن ثمّ التّطهُّر و الاغتسال بذرّات الرّمال الصّفراء

اِزداد عددنا..صِرنا عشرين..ثلاثين..مائة..صِرنا الأغلبيّة..صِرنا الكُلّ..الكُلّ فرّ إلى الصّحراء..الكُلّ فرّ من الكُلّ..

اِحتفلنا بِحجّنا وأقمنا له الأفراح..رقص..دفوف..ضحكات..شطحات..إلى أن أطلّ اللّيل يستسمحُنا الدُّخول وفي جرابه معزوفة النّوم الهادئ..

يدٌ حنون تعوّدتُ لمساتها..وصوتٌ رقيق ألِفتُ همساته..إنّها أمّي

ـ اِستيقظي ..كفاكِ تكاسُلًا..كفاكِ أحلامًا

 

قابس في 01 أوت 1992

من المجموعة القصصيّة موسم الحجّ إلى الصّحراء

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *