النبيذ الأزرق

خاص- ثقافات

*نور الدين العلوي

أشرق بالليل وأقرع السِّن على يوم لم أعشه وأنتظر. قد يسمع الليل نقر الدمع على الخدّ الحزين. ماذا انتظر؟ أن يستحيل الليل نورا في ظلامي واكتبني على ضوء الأحلام القديمة. تلك الأحلام الاشراقات قد تشفي الذئب الذي يسكنني ويجرني إلى حتف قريب في سرير عرق يضوع بعطور باهتة وأدوية نفاذة. أصب نبيذا في عروقي فيذهب فراغي في الزجاجة فأتنور بالليل حتى أصير زجاجة لكن العبارة لا تستقيم لقد تمزق الحلم بين أنياب الذئاب.

ولدت لأكون واحدا فصرت عددا لا أعرفني من بيني فأنا كأني أو لعلي والآخرون يرونني فيّ ولا يفصحون. الآخرون أنا بكل سوءات الذئاب الجارحة لكني أتعزى بفرادتي في كثرتي فأجد مزقي ولا أجمعني فازداد انكسارا.

ربما أوهمت نفسي بالنبوءة ذات حلم عبقري ربما كبرت طفلا ولم انتبه. فأعليت سقفي وانشنقت فيه حتى انهار بي وتشظيت إلى ألف مني لا نساوي واحدا كان ذات يوم يؤمن بالأنبياء.

النبيذ ليس من الأنبياء وإن تلوّن لكنه يهدي بعضي إليهم ولا يهديني بهم. بل يحل محلهم ويعلمني الكلام. فراغات الزجاجة تتسع بالثرثرة لكن امتلائي مستحيل ولو بالنبيذ الأزرق النبيذ بعض معنى كان يطاردني كالمعنى الأصيل الذي فرشته للذئاب في لحمي الأسمر تحت خط المنطق.

كنت أهرب مني إليه ولم أره إلا في طفولة الأرياف أسمر يزرق تحت الشمس التي لونتني ويبكي من الفرح إذا رآني ويقول مرحى أيها الوغد الجميل كم أحبك. فلما التقينا كانت الذئاب قد أكلت حشاشة روحي وشربت دم الطفل الذي كبّرني ورعيته فيّ حتى هطول سنواتي بالجفاف. لا ذنب للأوطان وللأنبياء. الذنب على الطفل الذي لم يكبر حتى أطعم قلبه للذئاب فتعزّى بالنبيذ الأرخص ولم يعثر على روحه في زحام العدد الفارغ كزجاجة مسكوبة على قارعة الطريق.

الطفل الذي قتل الرجل يراني الآن ويحزن لحزني الكهل السخيف. ويشمت قلت لك أيها الوغد ألا تقع فقد دللتك على طريق العفة فلم تسره وسرت حيث جرتك الذئاب. سر ولا تلتفت فقد ضيعتني. الطفل معنى لم أعده والكهل أعدمني ليأكل بي ذلته فالطريق الآن مقبرة.

الطفل ردة كافرة والكهل يستريح في المقابر ويزرع زرعا مالحا ويعيش ويقول نعم ما تيسر الكهل بلع روحه كي يتنفس إلى الداخل فلا يُهلِك ببخار حلمه ما تبقى من ترابه. نعم ما تيسر فالنبيذ كذبة أخرى تفسد رائحة الفم ولا تفتح زهرة في مقبرة.

انعرج يمينا فلا أجد سبيلا وانكسر يسارا فأجد  المهاوي فأعود إلى الطريق فلا التقيني.

الطفل يسد على الطريق كن كما كنت أو مت. ها أنا ذا ميت فماذا تريد ؟ جمّع قطعك في واحد واعصر نبيذك في زجاجة صدرك ولا تسق أوهام الآخرين من حشاشتك وعش طيبا ستجدني حيث تركتني ونموت معا بسرنا الأول. سرنا الذي أدمع عينيك من حب الجمال في العيون السود.

أصبني في كأسي وأشربني فهذا المعنى عويص كيف تكبر طفلا عاشقا ولا تذوبك الخيبات في كأسها؟ تعلوني زرقة فازرق من الداخل أيضا واستحيل إلى وضع غير قابل للتصنيف. فلا أنا في البشر ولا في الأشياء. وجود كلا وجود أو عدم يوهم بوجود. اللامعنى في اللاشيء أنا فمن أنا؟.

كلما قرأت سنة على روحها فاتحة وزغردت أخرى لمقدمها بكيت. ربما يكون لي في السُّنة بعض السِّنة فأجدني فيها وتجدني أحلامي. لكنها دورة تنغلق علي وتفصلني عن طفلي الذي كنت فاكتفي بالخبز وما تيسر من نبيذ.

أزرق هذا اللاشيء كلون الحسد في قلب مريض. يشرب روحه ولا يسكر .أزرق من الرغوة حتى الثمالة أزرق في الكأس. أزرق في الشرايين. أزرق في سحابات التبغ أزرق في البخار الضائع برحيق الروح الطفرة. أزرق في الليل. أزرق في الكوابيس أزرق من نبيذ قديم في زجاجة بيضاء أفرغها الليل في جواه فلم تبيّض قلبه للحب ولم تزين حلمه بالطفل.

أزرق كغلاف نعش من قطيفة.

اللاشيء أزرق. اللامعنى أزرق. الموت نبيذ أزرق في الشرايين.

مرحى بالنهايات القريبة المعنى الأخير الذي يسعى إليه بالنبيذ. ليكن فالوجود كان أزرق.
_______
*روائي وباحث تونسي

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *