الموتى ليسوا أقلّ وجودا

خاص- ثقافات

*مصطفى ملح

 

الوجـود المنعدم

 

يَسْتَيْقِظُ المَوْتى بِمُنْتَصَفِ النَّهارِ،

 ولا يَرى أَحَدٌ قِيامَتَهُمْ.

 يَجوبونَ المَكانَ، يُهَيِّئون طَعامَهُمْ،

 ويُعَبِّئون جِرابَهُمْ بِدَمِ الحَياةِ، ويَرْجِعونَ إلى مَواقِعِهِمْ.

 وبَعْدَ ثَلاثِ لَيْلاتٍ، أُسائِلُني:

 لِماذا وَحْدِيَ الرّائي،

 ولا أَحَدٌ يَرى المَوْتى سِوايَ؟

 عَلِمْتُ بَعْدَئِذٍ بِأنّي مَيِّتٌ.

 مَرَّتْ لَيالٍ أَرْبَعٌ، فَاسْتَيْقَظَ المَوْتى بِمُنْتَصَفِ الظَّهيرَةِ.

 لَمْ يَصُبّوا النّارَ داخِلَ مَوْقِدٍ،

 فَلَقَدْ صَنَعْتُ طَعامَهُمْ وشَرابَهُمْ،

 ومَلأْتُ صَمْتَ جِرابِهِمْ بِدَمِ الحَياةِ،

 وحينَ عادوا في العَشِيَّةِ،

 كُنْتُ أَمْشي- آمِناً- بِجِوارِهِمْ!

موتى يحتفلـون

 

 في عيدِ الميلادِ السُّفْلِيِّ،

 أُتيحَتْ للمَوْتى فُرَصُ التِّجْوالِ بِأَرْضٍ،

 كانَتْ – أَمْسِ- قَبيلَتَهُمْ.

 ومَضَوا يَتَقَنَّعُ أَوَّلُهُمْ بِمَخاوِفِ آخِرِهِمْ.

 كانَ الأَحْياءُ، بِتِلْكَ اللَّيْلَةِ،

 حَمّالينَ على حُمُرٍ أَدَواتِ الصَّيْدِ،

 وكانَ قَطيعُ الوَحْشِ يَلوذُ بِوادٍ غَيْرِ بَعيدٍ.

 لَمْ يَكُ ميلادٌ،

 والشَّمْعَةُ مُطْفَأَةٌ في القَبْوِ،

 وأَزْرارُ البْيانو صارَتْ أَسْناناً تُغْرَسُ في الموسيقى،

 والقَمَرُ الفِضِّيُّ أَحاطَ لُصوصُ الضَّوْءِ بِهِ،

 فَاسْتَسْلَمَ…

 ساعَتَئِذٍ، عادَ الأَمْواتُ إلى إِكْمالِ الميلادِ السُّفْلِيِّ،

فَحَتْماً شَمْعاتُ العَدَمِ البَرّاقَةُ،

أَفْضَلُ من شَمْعاتِ وُجودٍ مُطْفَأَةٍ!

الميّت أكثر وجـودا

 

المَيِّتُ أَكْثَرُ مِنْكَ وُجوداً. حينَ يَموتُ يُزارُ،

وتُتْلى فَوْقَ رُخامَتِهِ (ياسينُ)،

ويُسْكَبُ ماءُ العِطْرِ على عَطَشِ التّابوتِ.

وأَنْتَ تَسيرُ بلا صُحُفٍ،

أو قَوْمٍ تَتْلو فيهِمْ حَرْفَكَ.

سِرْبُ أَبالِسَةٍ يَمْتَدُّ إِلَيْكَ،

 وأَنْتَ بِدونِ مَلائِكَةٍ لِحِمايَةِ تينَتِكَ المَكْشوفَةِ

 في مَلَكوتِ اللَّهِ.

أَلَيْسَ المَيِّتُ أَكْثَرَ مِنْكَ وُجوداً؟

 يُمْكِنُهُ أَنْ يَصْنَعَ من أَغْصانِ البَرْزَخِ مُتَّكَأً،

 أَوْ تِذْكاراً لِصَديقٍ مُكْتَئِبٍ،

 أَوْ قَبْضَةَ فَأْسٍ حَتّى يَتَّسِعَ المَنْفى السُّفْلِيُّ.

 وأَنْتَ وَحيدٌ تَأْكُلُ من وَرَقٍ فانٍ،

 وتَسيرُ بِدونِ قَراصِنَةٍ يَحْمونَكَ من عَضّاتِ القِرْشِ،

 ومن أَنْيابِ المَوْجَةِ.

 أَنْتَ أَقَلُّ وُجوداً. أَنْتَ أَنا!

الدّمعـة لا تموت

 

يَتَماسَكُ تَحْتَ عَمودَيْنِ يُرْبَطُ فَوْقَهُما حَبْلُ مِشْنَقَةٍ.

ثُمَّ يَسْحَبُهُ حارِسانِ فَيَنْقادُ دونَ مُقاوَمَةٍ.

أَعْيُنُ القَوْمِ تَأْكُلُهُ، وهْوَ غَيْرُ مُبالٍ.

فَتاةٌ تُرَدِّدُ بَعْضَ صَلاةٍ،

وأُخْرى تُوَسِّعُ مِنْديلَها كَيْ يَطولَ الحِدادُ،

وثالِثَةٌ وَسَطَ الحَشْدِ تَلْعَنُهُ..

ثُمَّ تَصْغُرُ دائِرَةُ الحَبْلِ في العُنُقِ المُتَواطِئِ ضِدَّ الحَياةِ،

فَيَخْتَرِقُ المَوْتُ كُلَّ فَراغٍ بِخارِطَةِ الجِسْمِ..

بَعْدَ دَقائِقَ يَنْصَرِفُ الحَشْدُ.

يُكْتَبُ في مَحْضَرِ العُمْدَةِ الكَهْلِ:

(ماتَ أَخيراً، تَوَقَّفَ نَبْضُ الوُجودِ)،

وقَبْلَ حُضورِ النُّسورِ، لِتَغْرِسَ تَحْتَ الثِّيابِ مَخالِبَها،

كانَ دَمْعٌ يُفَنِّدُ ما خُطَّ في مَحْضَرِ العُمْدَةِ الكَهْلِ.

لَمْ يَتَوَقَّفْ وُجودُ الفَتى كامِلاً.

دَمْعَةٌ حَيَّةٌ تَفْتَحُ العَيْنَ،

ثُمَّ تَسيرُ بِعَكْسِ اتِّجاهِ النُّسورْ!

نموت بنصف كفـن

 

 جارَتي دَفَنَتْ كُحْلَها في الصِّوانِ.

 لَقَدْ ماتَ، أَمْسِ، رَفيقُ الوُجودِ،

 وصارَ الوُجودُ مُجَرَّدَ ثُقْبٍ بِسورٍ عَتيقٍ.

 أَبي تَتَخَطَّفُ عُصْفورَةٌ من حَديقَتِهِ تينَةً،

 فَيُحيلُ الغُصونَ فِخاخاً.

 نِساءُ المَدينَةِ تَبْتَلِعُ الحَرْبُ أَزْواجَهُنَّ

 فَيُخْفينَ حِنّاءَهُنَّ بِلَوْحِ غِيابٍ.

 جُنودٌ يَنامونَ داخِلَ دَبّابَةٍ،

 غَيْرَ أَنَّ العَدُوَّ قَريبٌ ومَمْشى الخَيالِ صَغيرٌ.

 يَصيرُ المُوَشَّحُ رُمْحاً،

 أَصيرُ أَنا أَحَداً،

 ويَصيرُ المَدى أُحُداً:

 مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ يَموتُ بِنِصْفِ كَفَنْ!

المـوت وقـوفا

 

 احْتِجاجاً على غَلَطِ الجاذِبِيَّةِ،

 واقِفَةً، تَلْفَظُ الشَّجَراتُ الأَخيرَةُ أَنْفاسَها.

 واقِفاً مثْلَ فَزّاعَةٍ في عَمودٍ،

 يَموتُ الغَريبُ بِأَرْضٍ مُجاوٍرَةٍ للمِياهِ،

 احْتِجاجاً على عَطَشٍ ما.

 تَموتُ النَّيازِكُ واقِفَةً في الفَراغِ انْتِظاراً،

 لِيَمْتَلِئَ العَدَمُ المُتَرامي بِأَحْفادِها القادِمينَ من الضَّوْءِ.

 واقِفَةً تَسْقُطُ السُّنْبُلاتُ اسْتِناداً على كَتِفِ الرّيحِ،

 كَيْ تَتَأَمَّلَ حَبّاتِ قَمْحٍ سَتولَدُ عَمّا قَريبٍ.

 تَموتُ الرِّياحُ القَديمَةُ،

 واقِفَةً في مَمَرِّ السَّكينَةِ،

 تارِكَةً خَلْفَها نُسْخَتَيْنِ مُعَدَّلَتَيْنِ،

 لِتَحْريكِ صَمْتِ الوُجودِ.

 أَموتُ أَنا واقِفاً عَكْسَ مَمْشى الهَواءِ،

  لِيَسْنُدَني اللهُ وَقْتَ يَشاءْ..

دمـــــوع

 

 البَرَدُ الأَبْيَضُ دَمْعٌ في جُفونِ الرّيحِ.

 مَوْجَةُ الخَليجِ دَمْعَةُ النَّوْرَسِ في جَنازَةِ الغُروبِ.

 كَوْمَةُ الدُّخانِ فَوْقَ مَوْقِدِ الطَّبيخِ،

 دَمْعَةٌ لامْرَأَةٍ قَدْ نَفَدَ الطَّحينُ في أَكْياسِها.

 دَمُ الخَروفِ في ضُحى العيدِ،

 دُموعُ نَعْجَةٍ تَئِنُّ في الرُّكْنِ وَحيدَةً.

 حُبَيْباتُ النَّدى أَدْمُعُ ياسَمينَةٍ،

 قَدْ جَرَحَتْها قُبَلُ الهَواءِ.

 سِرْبُ الزَّبَدِ البَحْرِيِّ دَمْعاتٌ لِبَحّارٍ،

 يَموتُ في ظَلامِ اليَمِّ.

 رَغْوَةُ المَجازِ دَمْعَةُ اسْتِعارَةٍ،

 تَموتُ داخِلَ الكَلامْ..

حـدادا على وردة المحطـّــة

 

 المَحَطَّةُ فارِغَةٌ.

 مُنْذُ مَهْبِطِ آدَمَ يَنْتَظِرُ النّاسُ صَوْتَ القِطارِ.

 تَزولُ الحَضاراتُ،

 يَغْرَقُ بَحّارَةٌ في فَمِ الماءِ،

 تَنْمو زُهورٌ طُفَيْلِيَّةٌ في رُخامِ القُبورِ،

 يُخاطُ بِعَظْمٍ جَديدٍ كِساءٌ لِعاشِقَةٍ،

 ويُخاطُ بِعَظْمٍ قَديمٍ لِمُرْتَحِلٍ كَفَنٌ..

وتَمُرُّ قُرونٌ ولَمْ يَأْتِ بَعْدُ قِطارٌ.

 وفي شَجَراتِ المَحَطَّةِ،

 يَسْقُطُ عُشٌّ فَيَنْدَلِقُ البَيْضُ فَوْقَ الحَقائِبِ،

 ثُمَّ يَنامُ المُسافِرُ بَيْنَ ثَنايا المَرارَةِ مُنْفَرِداً،

 حالِماً بِمُرورِ القِطارْ..

_______
*شاعر مغربي

 

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *