حينما يتعرض المبدعون والكتّاب المتنورون إلى مايشبه اليأس واللاجدوى والشعور بعبث الحياة ويكونون مثار سخرية الغوغاء وتسفيه آرائهم والاستهزاء بعقلانيتهم أو يصبحون هدفا للتقريع من قبل السلطة وقد يصل الامر إلى التهديد بالقتل الشنيع أو الحبس والاعتقال وربما ابعد من ذلك كالتمثيل بجثثهم وتعذيبهم وحرقهم وهم أحياء أو القيام بصلبهم في ألواح خشبية وتعليقهم أمام الانظار وهم يُعذّبون جَـلْداً وحرقاً وبأساليب غاية في الوحشية والساديّة .
قرأنا الكثير في تاريخنا عن أساليب في منتهى الهمجية وقد تفوق الوحشية امعانا في القتل والتصفية الجسدية إلى ابعد حدود الاذى وهي معروفة للقاصي والداني مثلما حصل لابن المقفع والحلاج والسهروردي مثالا لاحصراً وغيرهم الكثير من المتنورين ذوي الرؤى المختلفة الذين بدأوا بزحزحة قناعات الدهماء والغوغاء التي استثمرتهم السلطات الطاغية ليكونوا ناصبي العداء لكل ماهو محدِث يوخز العقليات الجامدة لعلها تعي وتستفز على امل تغيير واقعها وتحريكه ولو قليلا .
وبسبب الخوف الشديد والمصير المجهول والقسوة الشديدة والافراط في التعذيب والتنكيل …. هنا يعمد البعض من مفكرينا إلى اتخاذ اجراءات قاسية بحق النتاجات التي يكتبونها هربا من القمع وإبراء الذمّة مما كتبَ وأنتجَ وتتخذ هذه الاجراءات اساليب شتى وغير مألوفة ، هدفها تضييع جهده الكتابي وطمس معالمه وإخفائه ومنهم يلجأ إلى حرق مؤلفاته واشعال النار فيها ومنهم يقوم بطمرها في التراب دون ان يبلغ أيّا من خاصته عن مكانها ، وآخر يطيّرها في الهواء لتذروها الريح .
ولعل الجميع يعرف مافعله ابو حيان التوحيدي حينما عزم وهو في فورة غضب عارم عن ” لاجدوى ” الكتابة وصدمته من المجتمع الغريب الاطوار الذي يتجاهل ما يخطّه المبدعون، والاتهامات التي كالها له اعداؤه متّهمين اياه بالفساد والمروق والإلحاد فعزم على إحراق مؤلفاته ولم ينجُ منها سوى ماتبقى لدينا وهي بضعة كتب غاية في الابداع والاتقان اذكر منها (الامتاع والمؤانسة ) و(الهوامل والشوامل) و(كتاب الصداقة والصديق ) و( البصائر والذخائر) و( أخلاق الوزيرين ) و(المقابسات ) التي يعدّها النقاد من ابرع ماكتب ، وبعض الرسائل المبثوثة في بطون الكتب .
لكن هناك الكثير من مفكرينا الاوائل ممن فاق التوحيدي في إخفاء نتاجه تمزيقا أو حرقا أو طمرا معلنا عن يأسه وندمه على ضياع شطر واسع من عمره مكبّا على الكتابة ليل نهار حتى ذبلت نضارته ويبس عوده وساحت شموعه وخفتَ ضوء عينيه ونحل جسمه من اجل ان يُري الناس عصارة عقله لكن بعضا من بني جلدته من عامة الناس وحتى خاصّتهم يقابلونه بالجفاء وعدم الاهتمام ؛ لا بل يقابلونه بالاستهزاء والسخرية المرّة لكونه ضيّع احلى ما في عمره في اظهار شيء ملفت للنظر لكن الأغلب يديرون ظهرَهم جفاءً ونكرانا لابداعه وربما يقع هذا الكاتب أو ذاك المفكّر ضحية ماسطّرت أنامله لو اتهم بالخروج عن القاعدة والعرف السائد كأن يكيل له الحسّاد والأعداء الاتهامات وما اكثرها لو اتضحت في ثنايا فصول كتبه شذرات تنم عن ابداع وفكر جديد غير متداول وغير متعارف عليه من قبل .
ومما أثار فضولي وانا انبش في بطون الكتب عن ظاهرة اتلاف النتاج الفكري لهؤلاء الكتّاب فقد لمست العجب العجاب وانا اتابع وأقرأ غرائب سلوكية واساليب مبتكرة في تهشيم العقل وتدمير مثل هذا الجهد الفكري ؛ فهل يعقل ان سنوات من الكتابة والجهد والسهر والانكباب على القلم والدواة والبحث والتقصِّي وعصارة الفكر تضيع بغمضة عين في أتون النار أو تتطاير في مهب الريح أو تدفن في قيعان الارض أو تسيح في الماء غرقا ؟؟!! ، ولأطلعكم قُرّاءنا الاعزّاء على بعض ما لممت من التراث العربي من ممارسات وأفعال غير معروفة وليست شائعة لدى الكثيرين وهي غاية في الغرابة مما تثير الحزن واللوعة كحال وتصرّف الزاهد المعروف ” يوسف بن إسباط ” إذ ظلّ يلقم ما أتى من كتبه ومؤلفاته الجمّة في فم غارٍ بأحد الجبال النائية حيث كان يزور ذلك الغار كلما جمع حزمة من مؤلفاته ثم يسدّ فتحة الغار بصخرة كبيرة يقوم بدفعها بشقّ الانفس بحيث يصعب ازاحتها من مكانها وبقي على هذا المنوال قرابة شهور عدة .
اما ” ابو سليمان الداراني ” فقد أوقد تنّور بيته وأسجره لهبا وإحماءً واخذ يقذف بقراطيسه في حلق التنور وهو يبكي ويقول : والله ماحرقتك حتى كدتُ أحترق بكِ .
فاتهامات الزندقة والخروج على الملّة والكفر والإلحاد جاهزة تماما ومن السهل جدا ان يوصم المفكّر المبدع بهذه التهم وما اكثر الحسّاد والمتربصين بهؤلاء الكتّاب المبتكرين اذا ثلمت مصالحهم وكشفت عوراتهم وتعرضت أهواؤهم للصدع والانهيار .
وتحدثنا كتب التاريخ ان هناك مايزيد عن خمسة وثلاثين مفكّرا وعالما عربيا عمدوا إلى اتلاف كتبهم نثرا للرياح العاتية وذرّوا رمادها في الاجواء بعد حرقها أو طيّروها هنا وهناك لتعصف بها تيارات الهواء ، وهناك من لم يجرؤ على حرقها واكتفى بقبرها أرضا كمن يقتل بنات أفكاره الحيّة وأْداً مثلما كان يفعل بعض اهل الجاهلية لنسلهم من البنات خشية إملاق لكن الوأد هنا يكون خشية سلطان غاشم وفرارا من اتهامات خطيرة مآلها التغييب قتلا أو سجنا أو وقودا لسعيرٍ يوازي جحيم جهنم ، فكيف بالإنسان ان يحرق وليده وثمار حقل فكره ؟!! فحلّقت أوراقهم في الفضاء وتأرجحت يمنة ويسرة تتلاعبها ايدي الرياح العابثة وآخرون اغرقوا قراطيسهم في الماء ليذوب الحبر ويختلط بالماء معا ويكون مجرى النهر اسود حين يخالطه مداد العلماء والمفكرين .
وقد رسخ هذا المشهد في عقول الناس وذاكرتهم حين رميت المؤلفات النفيسة وسط النهر تماما كمثل مشهد رمي المؤلفات في دجلة عندما غُزيت بغداد على يد الهمجية المغولية . فمثل هذا السلوك المغولي ليس الاول فقد سبقهم مفكرونا الخائفون في ممارسته لتضييع جهده الكتابي غرقاً ولربما أخذ المغول هذه الممارسة منّا ؛ فلا فرق بين همجية الغازي وهمجية السلطة الحاكمة فكلاهما عدوٌ للتنوير والتجديد .
الا يحق لنا ان نتساءل ؛ ترى ما الذي يرغم مثل هؤلاء الكتاب إلى هذه الوسائل في التلف وهو الذي سهر الليالي وأوقد مئات الشموع من اجل ان يخطّ هذه الحروف في قرطاسه ؟ وكم من الوقت أهدر لتنزف عصارة الروح حروفا قد غمست في آنية عقله ؟؟
اجل ان هناك البعض من الكتّاب قد شعر بلا جدوى مايكتب امام مفارقات الحياة ومصاعبها واللامبالاة التي يلقونها من الاخرين وهي وجهات نظرهم امام تراكم الجهل وعدم الاهتمام بمبدعي مجتمعهم وهي فلسفتهم بالحياة ورؤاهم . لكن هناك الكثير من الكتاب اضطروا إلى اتلاف ما لديهم خوفا من السلطة التي لاتتوانى عن اتهامهم بكل وسائل الادانة كالكفر والزندقة والخروج عن الملّة والانحراف وإلا كيف نفسر ان خليفةَ عباسياً امر سيّافهُ ان يحضر له النطع ( وهو فراش واسع وعريض من الجِلد يُمدّ على الارض حتى لاتتسخ بالدم وهو عُدّة السيّاف كي توضع عليه الجثث النازفة ) وامسك السياف حسامه لقتل كل من يخرج عما هو متعارف عليه من افكار غير متداولة في المجتمع .
نعم ان جُلّ من لجأ إلى اتلاف كتبه كان يخشى الحاكم حفاظا على روحه من الموت مضطرّا إلى تضييع مؤلفاته وحرقها أو رمي أوراقها في مهب الريح حتى لاتكون وسيلة إدانة له ويكون ضحايا حرفه المتمرد في عصارة فكره.
فلتسمحوا لي ان أورد هنا في هذه المقال بعضا من الشخصيات التي مارست تلك النزعة الفريدة ولم يكترث بمؤلفاته وقام بإتلافها على يديه وأشير بهذا الصدد ان مانعرضه هو غيض من فيض العلماء الاجلاّء الذين عاثوا خرابا بنتاجهم حرقا أو طمرا أو تمزيقا أو إغراقا في الماء .
ابو عمرو بن العلاء (67- 154 هج)
الذي يعده العلماء اعلم الناس بالشعر والادب وعلوم القرآن وأحد رواد القراءات السبع للمصحف الشريف ، هذا الرجل اللوذعي العليم لجأ إلى طمر غالب كتبه تحت التراب ولم يبلغ احدا من اهله ومعارفه ولزم الصمت المطبق ازاء فعلته ولم يبدُ لها ايّ اثرٍ حتى ان ابا عبيدة يُزيد قائلا : ان بيته كان مليئا بقراطيسه ودفاتره بحيث لامست السقف وضاق ذرعا بها فعزم على احراق بعضٍ منها والتي كانت تأخذ حيزا كبيرا من بيته الضيّق اذ لم يكتفِ بطمر كتبه فحسب بل قرر إحراق قراطيسه التي ملئت البيت حتى طالت السقف.
وسواء عمل ابو عمرو على احراق كتبه أو طمرها فالامر سيان ونتيجته واحدة وهو تلف الحضارة والرقيّ وتعبير عما يخالج هذا الرجل الجليل من يأسٍ ونكوص للإهمال الذي تعرض له هو وزملاؤه الكبار .
داود بن نصير الطائي (ت 165 هج )
من الشخصيات الزاهدة العابدة هذا المتصوف العفيف تلميذ العالم الكبير الإمام الاعظم ابي حنيفة النعمان عاش واستقر في الكوفة طاهر اليد ولم يمد كفّه طالبا المال أو الجاه من السلطة أو زعمائها مكتفيا بالزهيد من مستلزمات العيش راضيا قنوعا بالقليل الذي يقيم أوده ويسد رمقه ؛ هذا الرجل الملقب بتاج الفقهاء جمعَ كتبه خلسة وحمّلها بدابّته إلى شاطئ النهر وأطعمها الماء مرددا قولته الشهيرة التي وجّهها لموجاته : نعْمَ الدليل انتِ أيتها الموجة .
سفيان الثوري (97 – 161 هج )
شيخ الاسلام وإمام الحفّاظ مصنف كتاب / الجامع وقصته مع ابي جعفر المنصور معروفة للملأ حين دعاه وأمرَه بتولي القضاء في احد امصار الدولة غير أن سفيان رفض جازما هذا التكليف فغضب المنصور غضبا شديدا واوعز إلى احد حاشيته بإحضار السيّاف لنحر عنق الثوري وأمر بفرش النطع الجلدي على الارض تمهيداً لرمي جثته المدماة عليه ولما أيقن الثوريّ بجديّة قرار الخليفة قال له :
— انظرني إلى الغد وآتيك حتماً بزيّ القضاء .
فلما اصبح الصبح لم يأتِ سفيان في الموعد وأُمهل إلى الضحى لعله في شغل شاغل حتى يئسوا من حضوره وتبين بعدها انه عقر ناقته ميمما وجهه صوب اليمن هاربا من الخليفة ومن مسؤوليات القضاء وعاش بعيدا هناك ردحا طويلا في اليمن البعيد متخفياَ عن عيون الوالي وثلّـته .
هذا الرجل مزّق مايزيد من الف جزء من مخطوطاته وطيّرها هائمة في الريح وكلماتهُ تطارد قصاصات ورقهِ وهي تقول صارخة ملء فمها :ليت يدي قطعت من هاهنا – وهو يشير إلى عضدهِ — ليتني لم اكتب حرفا واحدا .
أبو سعيد السيرافي (284 –368 هج )
قال عنه ابو حيّان التوحيدي ؛ انه شيخ الشيوخ وامام الأئمة معرفة بالنحو والفقه واللغة والعروض وعلوم القرآن والحديث وقد أفتى في جامع الرصافة خمسين سنة على المذهب الحنفيّ فما وجد عليه خطأ ولم تَـبِنْ منه زلّة اضافة إلى كونه عالما في الحساب والفلك والرياضة والهندسة .
كان يعيش من كدّه وتعبه ولايخرج من بيته الاّ وهو قد نسخَ عشر ورقات يأخذ أجرها عشرة دراهم ويأنف ان يمدّ يده إلى سلطان أو حاكم لسعة زهده وقناعته المفرطة .
ويوم حانت منيته قال لولده وهو في النزع الاخير : قد تركتُ لك هذه الكتب فإذا رأيت انها تخذلك فأطعمها النار وتخلّص من شرورها .
أبو كريب الهمذاني (ت 243 هج )
من رواة الحديث الاجلاّء ولاشائبة عليه في صدق نقله ، ومن محدّثي الكوفة المميزين الثقاة وأحد شيوخ النسائيّ ، قيل عنه انه كان يحفظ عدة آلاف من الأحاديث الصحيحة وأغلبها تختلف ما يُتداول على الالسن من اقوال الرسول الشائعة وقد أوصى وصيّة غريبة حيث لم يجرؤ على اتلاف نتاجه بنفسهِ فارتعشت يداه وخذلت تصميمه على دفنها في التراب لكنه لم ييأس ووصّى ان تدفن كتبه معه حين يحين موته وهكذا كان ، ولعله لم يرد ان تفارقه وأحبّ ان تكون ضجيعته في مدفنه ليأنس بها ويتوسّد قراطيسه لحداً إلى يوم مبعثه .
هذا قليل من وفيرٍ هائل مما اصطدته من كتب التراث وقد يتاح لي لاحقا ان اظفر بحوادث اخرى ربما تثير غرابتكم وتساؤلاتكم : لماذا يحدث كل هذا الاجحاف والسخط والضغينة ضد نخبتنا المتنورة ؟ .
وما ابسط الاجابة على هذا السؤال ، انها السلطة الوقحة والاطماع السياسية التي تريد ان يبقى العامة في هاوية الجهل والاحباط العقلي وتغييب الامل نحو الافضل والارقى وسنظل هكذا مادمنا لانقطف ثمار الرؤوس اليانعة ونعتاش على منابت الصحراء القاحلة والبداوة غير المتحضرة وقوانين الجاهلية ومابعد الجاهلية التي لاتسمن عقلا ولا تحقق عدلا ولاتغني من جوع نحو النماء الحضاري الراقي .
ألم يُجلد المخرج الإيراني الذائع الصيت عالميا ” كيوان كريمي ” مؤخرا مايزيد على مئتين وعشرين جلدةً بسوط التخلف وفُرض عليه المنع من ممارسة التصوير السينمائي على مدى عشرين سنة وهو من اكثر المخرجين ابداعا وابتكارا ليس في بلاده فحسب بل في العالم المتحضّر ومنعَـته من السفر خارج بلده ، وفي الشهور الفائتة أيضاً تم لسع جِلد وظَهر الشاعر الفلسطيني اشرف فياض بثمانمئة جلدة بالتمام والكمال وكانت هذه العقوبة رحمةً له – كما قيل — بديلا من الموت الذي كاد السيف ان يمسك رقبته ؟؟
وما الغرابة في هذا السلوك غير السويّ ، ألم يجلد الفيلسوف الكندي أيام خلافة العباسيين اكثر من خمسين جلدة لسعت ظهره وكل جسمه امام مرأى الغوغاء وجلاوزة السلطة وهم يتناهبون كتبه عيانا ويطعمونها النار إغاضةً وتشفياً به .
ألا يحقّ لنا ان نجزم ونقول كم هو مسكين وضعيف وخائف هذا المفكّر والمبدع الذي يعيش بين ظهرانينا وحده بلا نصير أو غائث فلا يدري هل يتّقي سهام السلطة السافلة الظالمة المتربصة به أم يحيد عن وابل الكراهية والمقت والحقد الذي ترميه الغوغاء في وجهه وتصيبه بنبالهم ؟؟
فما زال المشهد نفس المشهد والصورة ذات الصورة سواء كان ماضيا ام حاضرا والله يعلم ماذا يخبئ المستقبل لهذه الامة التي لاتريد ان تغيّر قناعاتها وتنكس رأسها عما يجري من تحضّر وتجديد وتنوير بهذا العالم .