خاص- ثقافات
*ممدوح رزق
دخلت إليه فضبطته في لحظة الضعف القصوى .. كان منحنيًا ليستعيد قطعة اليوسفي التي سقطت من يده على الأرض .. اعتدل ثم نظر في عينيها .. آخر ما كان يريده الآن هو أن يضع القطعة في فمه .. لكنه كان مجبرًا على هذا .. لم يكن يرغب في أن تظل قطعة اليوسفي مرئية لها، وهذا ما منعه أيضًا من إلقاءها في سلة القمامة .. اضطر بأصابع مقهورة لإخفاءها بين شفتيه .. كانت القطعة الأخيرة وهو ما جعل المشهد أكثر سوءً .. هناك أمر بائس ومهين في سقوط قطعة على الأرض من شيء كنت تأكله لاسيما لو كانت الأخيرة .. دون حتى أن يراك أحد، ودون أن تنحني لاستعادتها .. حتى لو مازلت تمتلك تلالا من اليوسفي، وتستطيع ببساطة أن تمد يدك لتتناول واحدة أخرى للتغطية على ما حدث .. الأمر لن ينجح .. سيظل سقوط القطعة الأخيرة هو الجرح الذي لن يمكن إغلاقه .. اكتشف حينها أنه مجبر كذلك على مضع قطعة اليوسفي وابتلاعها .. كان وجودها في فمه سيبقيها واضحة .. انتقل القهر إلى خده الأيسر وهو يتأمل مراقبتها لحركة المضغ على سطح وجهه قبل أن يبتلع القطعة بإحساس أنها تعبر إلى جوفه كاملة تمامًا .. أنه كان يمضغ الفراغ .. سألها غاضبًا:
ـ هل هناك مشكلة؟
ـ كلا ولكنني أريد أن أحضر طبقًا.
ـ ولماذا تقفين هكذا إذن؟
ـ لأنك تمنعني من الوصول إلى خزانة الأطباق.
ـ ولماذا لم تطلبي مني الابتعاد قليلا عن طريقك؟
ـ لأنك ظللت تنظر لي كأنما تريد أن تقول شيئًا.
ـ أم أنه كان هناك شيء يستحق الفرجة جعلك تنتظرين؟
ـ أي شيء؟
ـ إسألي نفسك.
ـ ماذا بك؟
كان لسؤالها نبرة عصبية مفاجئة .. هكذا تبدأ شجاراتهم العنيفة منذ خمسة عشر عامًا .. كان يفكر في هذا .. لكنه لاحظ أيضًا للمرة الأولى وهو ينظر في عينيها كأن غضبه غير المفهوم يثير شهوتها .. ظل صامتًا .. ترك الانطباع العدائي فوق ملامحه ليحاول من ورائه التأكد .. مجرد ثوان قليلة، يعرف أنها تبدو غريبة ومستفزة بالنسبة لها، لكنه أدرك في نهايتها أنه محق .. ربما لو أخبرها بأن دخولها المطبخ في هذه اللحظة، ورؤيته وهو يلتقط قطعة اليوسفي الأخيرة التي سقطت على الأرض فإن مسحة الشبق التي تكسو وجهها ستتبدد فورًا .. تساءل بداخله: هل كان بوسعه أن يجنبهما فصولا كثيرة من جحيم الماضي لو احتفظ بغضبه مبهمًا؟ .. كان يمكن للحسرة الخافتة التي نشبت في استفهامه المكتوم أن تتصاعد لولا أنه قرر بعفوية عاجلة أن ذلك كان مستحيلا .. تحرك إلى الجهة الأخرى من المطبخ مبعدًا عينيه عن وجهها وهي تتقدم نحو خزانة الأطباق بخطوات حادة .. كانت ماتزال تنظر إليه .. ارتاح لفكرة أن يخرج من المطبخ دون كلمة أزيد .. ليس لديه ما يقدر أن يقوله لها، أما هي فستفسر عدم إجابته بأنه يختبر حالة مألوفة من الاضطراب المزاجي، ليست قابلة الآن لتطور معتاد .. أضاء في ذهنه فور خروجه إلى الردهة تصوّر بأنه لو كان كان ناجحًا في التمسّك بالغموض فإن هذا ربما كان سيمنحهما بالضرورة لقاءات أفضل في السرير أو في أي بقعة أخرى داخل البيت .. عادت الحسرة إلى قلبه أكثر ثقلا وإرباكا .. خطر في نفسه أيضًا أنها لم تقرر أخذ الطبق من الخزانة إلا عندما شاهدته منحنيًا لاستعادة قطعة اليوسفي التي سقطت من يده على الأرض .. ربما كانت تريد أن تخبره بشيء ما حينما دخلت المطبخ ولكنها لم تفعل بعد أن رأته في تلك الصورة .. فجأة سمع نغمة استقبال هاتفه لرسالة .. توجه إلى الصالة وفتحها:
(الرب قريب لمن يدعو له
ابعت رسالة ل 8937
ب 30 قرش واعرف عظات الكتاب المقدس).
حسنًا .. لن تفوّت شركة المحمول انفجار الكنيسة البطرسية أمس، والجنازة الجماعية اليوم دون أن تأخذ نصيبها .. فكر في أن الانتحاري الذي نشروا صورته اليوم أو أيًا يكن من قتل المسيحيات ربما يكون له علاقة ما بشركة المحمول .. ربما لكل شركة جيش سري من الانتحاريين وزارعي القنابل ومفخخي السيارات .. أعاد الهاتف إلى الطاولة في اللحظة التي خرجت خلالها زوجته من المطبخ وهي تحمل الطبق بين يديها .. كان طبقًا خاليًا، وكانت تحمله بحرص شديد كأنما يوجد في داخله شيء ثمين غير مرئي .. وضعته ببطء فوق الطاولة وجلست أمامه .. راحت تنظر إليه في سكوت تام وبملامح جامدة .. دقق النظر في الطبق .. تأكد من أنه فارغ كليًا، ومع ذلك أرجع عجزه عن رؤية ما يحتويه لمشكلة أزلية في بصره لم يتمكن أبدًا من فهمها .. ماذا لو أن زوجته تنتظر ظهور شيء مجهول داخل الطبق؟ .. تحجر الاحتمال في رأسه دون أثر خارجي .. بدا أنها لن ترد على أي استفسار .. لم تكن لديه الجرأة لأن يسألها .. كانت طفلتهما تجلس أمام التليفزيون ممسكة بكراستها وبجانبها علبة الألوان، تحاول أن ترسم قردًا مبتسمًا يلعب بكرة .. كان التليفزيون يعرض فيلمًا وثائقيًا .. جلس بجوار الطفلة .. كانت قد انتهت تقريبًا من رسم قرد صغير، وعلى وشك أن تبدأ في رسم الكرة .. كان صوت التليفزيون مكتومًا، وهذا كان أفضل حالاً بالنسبة له .. شيء ما جعله يتخلى عن الرغبة في سماع الكلمات والموسيقى المصاحبة للفيلم .. انتهت الطفلة من رسم الكرة بينما ظهر على الشاشة عجائز كثيرون يجلسون عند ضفتي نهر ممتد وواسع في الليل، وتحت أضواء شاحبة يقصون أظافرهم لتسقط في الماء .. أخرجت الطفلة القلم البني وبدأت في تلوين القرد .. تظهر أعداد هائلة من أولاد وبنات في العاشرة من العمر أو أزيد قليلا، يندفعون بمرح نحو العجائز الجالسين عند ضفتي النهر .. سمع الطفلة تسأله عن اللون المناسب لتلوين الكرة .. شاهد الأولاد والبنات يغرزون أظافرهم الطويلة في عيون العجائز من الخلف بقوة وهم يضحكون .. نظر إلى القرد المرسوم .. كان قد أصبح بنيًا تمامًا، أما الكرة فقد كانت ما تزال مجرد دائرة خالية، مرفوعة في الهواء .. التفت مجددًا إلى الشاشة .. كانت الدماء تسيل من عيون العجائز التي ظلت مفتوحة، مع استمرارهم في الجلوس ومواصلة تقليم أظافرهم بملامح تقاوم الألم بتجهم صامت .. كأن أظافرهم تنمو سريعًا فور تقليمها، وكأن الأظافر المقصوصة التي تسقط في النهر تنتقل بطريقة ما إلى أصابع الأولاد والبنات الواقفين خلفهم فتزيد من أطوال أظافرهم الأصلية بشكل متتابع وهم يغرزونها في العيون المفتوحة .. كانت الكرة في صفحة الرسم ما تزال مجرد دائرة فارغة، تشبه الطبق الذي لم تتوقف زوجته عن التحديق بداخله حتى هذه اللحظة .. كان يبدو أن ضحكات الأولاد والبنات تزداد ابتهاجًا وهم يتبادلون الوقوف وراء العجائز وغرز أظافرهم في العيون التي كثرت الدماء المتدفقة منها .. شعر أنه مشهد بلا نهاية .. نهض من جوار الطفلة .. سألته ثانية عن لون الكرة؟ .. كان سؤالا صعبًا للغاية بالنسبة له .. لم يتكلم، ولكنه شعر بأنه يعرف جيدًا ما يفعله .. لم يكن يدرك اللون المناسب للكرة، ولكنه في نفس الوقت كان يعلم أنه بهذا الانعدام لمعرفة اللون يؤدي واجبًا رومانسيًا تجاه حياته .. أنه يعطي دون تعمد النبرة الأكثر تسامحًا لمرور الزمن في وعيه .. وقف أمام الطبق المستقر على الطاولة .. تمنى لو كانت طفلتهما نائمة الآن ليتمكن من مضاجعة زوجته .. لكنه كان يحس على نحو مشوّش بأن جسديهما عاريين، ومتلاحمين بالفعل في هذه اللحظة من خلال الطبق الثابت أمام عينيها .. شعر بأن شيئًا ثقيلا يندفع من جوفه نحو فمه .. تقيأ قطعة اليوسفي فوق الطبق .. خرجت كاملة من بين شفتيه .. كان جسمه يرتعش، والطفلة ـ رغم ذلك ـ تلح بدلع نافذ الصبر:
(سيغضب القرد إن لم ألوّن كرته).
تحولت شاشة التليفزيون إلى ستار أسود تمامًا .. ربما كان الفيلم لا يزال مستمرًا ورائه .. التقط قطعة اليوسفي وأعاد ابتلاعها كاملة بينما نهضت زوجته نحو المطبخ بنفس السكوت التام والملامح الجامدة لتغسل الطبق وتعيده إلى الخزانة.