عين…عينان…عيون

خاص- ثقافات

*مريم لحلو 

تبحث عنكِ أمك بين الفرش الثقيلة وأنت غارقة في عرق الخوف..ترفع الغطاء عن وجهك تبهرها عيناك المضيئتان المشعتان يقينا طفوليا عصيا عن المحو ..تكتم صرخاتك بصدرها المهاجم..بين أناملها المحناة كبسة من شيء أبيض تديره حول رأسك سبع مرات وهي تهمهم ثم تدفع به إلى الجمر المتقد …تبهرك الأشكال الكريستالية المدهشة المتشكلة بفعل الحرارة فتنسين للحظة حفيف الأفكار السوداء داخل الرأس الذي يراه الجميع عنيدا ..فارغا ..متبلدا ..تذكرك أمك ،دون قصد منها ،أرأيت؟! يعود العقل الصغير للدوران.. ( لن أسأل أحدا..فالكبار متكئون على صدر حكمتهم المريح..وكلمة مني  تجعل أعينهم  تستدير وتستدير وتدور دورات كاملة في المكان ،ثم تعريني من فوق لتحت وبالعكس قبل أن تتسع وتتسع وتنساب على الخدود مثقلة بالنواهي والأوامر.. ) هكذا تحادثين نفسك وأنت تهمسين لها بصوت مسموع…
إلا أمك كانت تسمعك أو ربما كانت لا تسمعك.. المهم كانت تنظر إليك في غموض وشفاهها تتحرك ببطء شديد كأنها تصلي،وكنت تكتفين بتلك النظرة الوحيدة المتواطئة أو التي تبدو متواطئة قليلا أوأكثر من القليل بقليل ..
( – أمي !! لقد رأيتها وهي تداعبه .. وهو يضحك ويضحك وكلما ضحك ارتعشت جفونك وشحبت أكثر فأكثر أما هي فقد كانت ممعنة في مناغاته وهو لا يرى إلاها يتبعها وهي تتراقص فوق السقف ..تخترق ستار النافذة ..تخرج وتدخل كيفما تشاء.. وهو يمد يديه الصغيرتين البضتين الحليبيتن إليها..وأنا أيضا كنت أراها…أراها كفراشة بغلالة وردية تطير وتطير لا تمنعها الجدران، ولا التمائم المعلقة ،ولادماء الجدي الأسود الحارة .. تمر عبرك ..عبر الحاضرين…  فوقهم ..بينهم ..وهو يتبعها بعينيه وشفتيه وكذلك أنا لو تعلمين !! ونبتسم لها وتبتسم لنا..تظنوننا نبتسم للفراغ .. لم يكن فراغا يا أمي ..كانت هي ..شعاع من نور…آه لو رأيتها!!  لتمنيت أن تذهبي معها حيثما تشاء ..ومد أخي الصغير يديه نحوها٠٠ ومددت يديّ وفحّت في أذني : لا تتدخلي في شؤون الله!! وتركتني رفقة النهار الذاوي …رأيتها تأخذه.. ورأيته يتعلق بها.. وتبعتهما الأنوار وتركاني في العتمة وحيدة يداي ممدودتان كعمياء أذرع الغرفة الطويلة متحسسة الجدران ،وقطع الأثاث ،والخزانة المتلجلجة التي تقف على ثلاثة أرجل فقط ، والنافذة العالية وعبثا أجد زر الكهرباء حتى التقت يدي بيدك الباردة في الظلام ..وصرختُ وصرختِ وأوقدتِ النور وسقطت نظراتنا الهائمة في الفراغ … وبللتني دموعك ..بعدها استلقيت ووجهي إلى السقف ، لا يرف لي جفن .. تتراقص العيون حوالي…صار لكل شيء عيون …مئات العيون ..آلاف العيون.. ولكن، ماقيمتها وهي كلها،عمياء ؟ ..عيون السماء البراقة المبللة المكتظة بلا جدوى عند نافذتي…عيون الأرض المستطيلة بوردة صغيرة يابسة عند الحافة… عيون سجائر أبي الصفراء التي تسعل دما مع الفجر …عيون الجدران .. لا الجدران كانت لها فقط آذان  كبيرة وأفواه متشققة درداء تتنهد في خبث منتظرة بلع أحدهم ..وهكذا آمنت معك أن دون شب أوحرمل يصير الموت طليقا بأجنحة سوداء معتمة…)
تغرقين عيونك في عيون أمك اللتي  تشبه جذوة نار زرقاء تكاد تنفصل عن فتيلها أو تشبه الحب المزقزق في قلبيكما ..أو تشبه زهرة الحب الدائمة الخصرة …أوتشبه أي شيء عذب لايمكن أن يقال بالكلمات …لم تذكرتِ وقتها حقول اللوز ولسعات البرد على ذراعيك ،وشعرك الطويل وهو يغطّي عينيك وفمك الضاحك كفصل الربيع؟ وأنتما تجريان وتنطان وترتميان كأقحوانتين تنافسان بقية الزهور .. لحظتها فقط انتبهتِ إلى جمالها الأخاذ.. لم تفكري يوما في أن أمك جميلة..ببشرة صافية وعيون لوزية ..وقلت لها: ياه ما أجمل عيونك يا ماما !! ونظرتما في اللحظة ذاتها إلى الفزاعة التي كانت تسميها هي “خيال الذرة” لقد كانت تراقبكما بابتسامة لم تفهمي كنهها .. هل كان لتلك الفزاعة عيون أيضا؟ الأكيد نعم .. لأن أمك غطتك وشاحها  الكبير خوفا عليكِ من تلك العيون الكبيرة الجاحظة التي كانت تدور في محاجرها لسبب ما …

___

*أديبة من المغرب

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *