«الباغ»… سيرة الإنسان العماني وبيتيته الثقافية

*محمد العباس

بمزاج استذكاري متيقظ تستعيد بشرى خلفان فاصلا من سيرة الإنسان العماني في العصر الحديث، لتتوقف عند نقطة ما زالت مفتوحة على احتمالات واسعة، وذلك في روايتها «الباغ» الصادرة حديثا عن دار مسعى، حيث لا تكتب مرويتها الذاتية بقدر ما تلجأ إلى حسّ التسجيل الموضوعي، كما يتبين ذلك المنحى من المرجعيات التي اعتمدتها لتُكسب سرديتها سمة التأريخ، ليس بالمعنى التوثيقي الجاف، إنما بحرقة الحنين، إذ تتوضح هذه النزعة الروحية في الافتتان بعرض طبوغرافيا المكان المروي، بمكوناته البشرية والتضاريسية، وهذا هو ما دفعها أيضا إلى تعداد مآثر الفضاء العماني من خلال قاموس من المفردات التي تختزن العادات والتقاليد والطقوس والأدوات الاستعمالية التي كشفت عن رغبة عميقة في تزمين السرد، والأهم أنها رواية تبدو مهجوسة بالتأريخ للحظة ماضوية تنتهي عند فاصل آفل أيضا، إلا أن مضمراتها تشي بطزاجة اللحظة الراهنة.
يتجلى البعد الأول في حكاية (راشد) الإنسان البسيط الذي يغادر (السراير) بصحبة اخته (ريّا) باتجاه مسقط، بحثا عن حياة كريمة مغايرة لما صادفه من ظلم من أهله، حيث يتدرج في الوظائف والمهن إلى أن يصبح ضابطا برتبة مقدم في قوات السلطنة، الأمر الذي يعكس اعتناء خاصا ومكثفا ببناء شخصيته من الوجهة الفنية، مقابل ابن أخته (زاهر) الذي يرحل إلى الكويت ليتلقى التعليم والتأهيل الحزبي، ليعود مناضلا في جبهة ظفار، حيث ينتهي معتقلا في سجن (الجلالي)، فيما يبدو تجسيدا لصراع بين جيلين أو وعيين للوجود وللمآل العماني، وكأن الاحتراب قدر العماني، حسب منطوق الرواية (مكتوب على العمانيين يتناحروا الدهر كله؟ مرة هناوية وغافرية، ومرة السلطان والإمام، ما شي بد عن كذا؟)، إذ لا تغيب الحرب في طيات الرواية، سواء بين الإخوة داخليا أو على الحدود ضد الآخرين.
أما المسار الثاني فيتمثل في رغبتها لتوطين خزان العادات والمعتقدات العمانية، أو ما يعرف بالبيتية الثقافية، بحيث تتحول الرواية إلى وعاء متحفي لتخليد كل مظاهر الحياة المعاشة في تلك الحقبة، حيث تزدحم الرواية بمعجم من المفردات التي تتراوح ما بين الطقس والعادة والسلوك والأداة والفضاء مثل (السبلة، الفرضة، الرسل، النوبة، الكوت، كمة، المصر، البرزة، الكتارات، الحضية، التبسيل، المسيبلو، العتم، الزور، الرخال، المطبقة، البوعشر، الرقاط، الدنجو، شوب، التويمينة، التفرتيس، الطارقة، الكاسر والرحماني) وغيرها من الكلمات التي تعطي للسرد طابعه المكاني، كما تتعزز تلك المتوالية من المفردات بحوارات حيّة باللهجة العمانية، الأمر الذي أكسب الرواية قوة مضاعفة في التأثير.
نجحت بشرى في استهلال الرواية بكتابة مشهدية متأنية، حيث تمكنت من السيطرة على اللغة والإيقاع والحدث وحركة الشخصيات، أي أنها امتلكت زمام السرد في رواية تأسست على ميثاق ما بين راشد واخته وهما يعبران الوادي والسيل الوعر باتجاه مسقط، على ظهر الناقة نميصة بنت الخواصة (نخوض ويا نوصل رباعة يا يشيلنا الوادي) فيما يشبه التعاهد على إكمال مسيرة الحياة معا، أما خطاب الرواية ذاتها فقد أضمر دورا لكليهما في المشهد التاريخي العماني، كما بدا ذلك في الصعود الصريح لراشد بن سيف العايفي، الذي (صارت العسكرية بيته)، كتعبير عن القوة، وكذلك اخته ريّا، التي يشبهونها لفرط حسنها وبياضها (كأنها شحمة في دم)، حيث تمثل دورها في ابنها (زاهر)، إلا أن الرواية لم تستمر على الوتيرة المتأنية ذاتها، والنسج التفصيلي للأحداث، إذ صار السرد يتحرك بسرعة فائقة وبعبور مستعجل وبحشوية واضحة، للإلمام بأكبر قدر من الأحداث المتدافعة.
الحقبة والفضاء الظفاري مثلا لم ينالا حقهما من الوصف، مقارنة بالعدسة السينمائية المشوقة التي التقطت جماليات المكان وحركة البشر باتجاه مسقط، حيث كانت الفضاءات (المغسيل، ريسوت، شرشتي، صرفيت، ضلكوت، صحنوت، دربات، المرباط ) تظهر كمعالم جغرافية، لا كفضاءات جمالية، ولا كبؤر للثوار، إذ يبدو أن الرواية أخذت منحى الإخبار، ولذلك غابت لحظات التوتر الدرامي التي أسست لبدايات الرواية، فأثناء الرحلة التفصيلية الشاقة لراشد وريّا كان المكان العماني ينكشف على إيقاع سير (بنت الخواضة) والسير على القدمين، على عكس ما حدث في ما بعد من حركة سريعة بالسيارات والطائرات، حيث اكتفت بالإشارات للتأكيد على فتنة (الجبال المكسوة بالخضرة) واندفاع بحر العرب نحو الشاطئ، وكأن الزمن العماني ذاته بدأ بالتسارع، خصوصا في مرحلة ما بعد الانقلاب.
الرواية مزدحمة بالأحداث السياسية، كالرصاصة الأولى لمسلم بن نفل في ظفار، واحتلال بن عطيشان للحماسة، ووصول السلطان قابوس إلى الحكم، وغيرها من الوقائع التي كان الإنسان العماني يتحرك تحت مظلتها في اغتراباته بحثا عن لقمة عيشه في الداخل والخارج، وهذه هي السيرة التي أرادت أن ترويها من دون أن تلجأ إلى تحبيك مرويتها، إلا في مفصل مجابهة زاهر لخاله راشد، حيث يسير السرد بانبساطية مكشوفة بدون مفاجآت ولا توترات درامية تذكر، حتى عندما التقيا في السجن، وكان راشد يأمل في تطويع ابن اخته وإعادته إلى عمانيته – من منظوره – جاء التجابّه بينهما خطابيا، عبارة مقابل عبارة، وفكرة مقابل فكرة، وانفعالا مقابل انفعال، فيما لم يتم استظهار التغير الجوهري الذي طرأ على الإنسان العماني الجديد.
ومقابل التوثيق الذي بذلت فيه بشرى جهدا كبيرا، كانت الرواية محلا لحكايات شفهية كثيرة، وكأنها أرادت أن تستجمع كل ما قيل عن تلك الحقبة واستدخاله في نسيج «الباغ»، بما تختزنه هذه المفردة التي تعني البيت المحاط بالبساتين المسوّرة، وكأنها أرادت التقاط كل الهمهمات التي تحيط بذلك البيت وتحشيدها في رواية لها سياقاتها ومقاصدها الظاهرة والخفية، فالمستوى الحكائي للرواية على درجة من الصراحة، أما البنية الدلالية فلا تترسب في عمق النص، بل تبدو في المتناول، ربما لأن الأحداث لا تحتمل التورية، وهنا مفارقة عجيبة تتمثل في جرأتها على المستوى الموضوعي، كما تبدو على درجة من المباشرة من الناحية الفنية، ومرد ذلك على ما يبدو يعود إلى رغبتها في قول كل شيء في مساحة صغيرة «تاريخ مسقط منذ أن وقعت بيد البرتغاليين إلى أن أصبحت عاصمة للسلاطين».
لغة الرواية في مفاصلها الاستهلالية المتأنية قوية، وعلى درجة من الالتصاق بالمعاني المراد إيصالها، سواء في متن السرد بالفصحى أو ضمن الحوارات باللهجة المحكية، بمعنى أن اللغة حضرت كمكون بنيوي للنص، خصوصا عندما تتكلم بشاعرية عن الإنسان والمكان «في مشيهما كان يمشي الكلام»، أو عندما تتحدث عن غربة الإنسان العماني «أنا ما جربت الغربة لكنني أظنها كما يوم تقلع نخلة من مكانها، وتنقلها، وتزرعها في مكان جديد، بتقلعها بتعب، وبتحفر لها بتعب، وبتزرعها بتعب، وبعدين بتنتظرها تمد عروقها، وتثبت عمرها في مكانها الجديد، وبعدين بتثمر، وتثقل عذوقها، وبتقطف منها وتاكل، لكن كل ذا ما يكون إلا بتعب، تراه ما شي في الدنيا يجي براحة».
«الباغ» رواية تحاول الإخبار عن أثر الأحداث السياسية الاجتماعية التاريخية الاقتصادية في الإنسان، مقابل الدور الذي يمكن أن يضطلع به في تحريك تلك الأحداث، فالقروي راشد الذي نذره أبوه للنخل صار جزءا من السلطة أو القوة التي أسست لعمان ما بعد الاحترابات والاضطرابات والهوان على الحدود، أما أخته ريّا قارئة القرآن، التي نذرها أبوها للعلم فقد ظلت على هامش الأحداث، واكتفت بإنجاب ابنها زاهر الذي سيمثل الوعي العماني الثوري الجديد، وكأنه قد استسقى منها العلم كقوة للتغيير، وهو توزيع عادل ومنطقي لدور المرأة في تلك الحقبة، إذ لا مجال لتصعيد حضورها الحياتي، وليس من المنطقي تمديد دورها داخل الرواية بصورة مفتعلة.
ويبدو أن بشرى خلفان أرادت الإبقاء على الصراع مفتوحا في مدار الحبّ؛ حبّها لأخيها ولابنها باعتبارهما نبتتين عمانيتين، فهي تارة تستقبل أخاها بالأشواق والدموع، وتارة تزحف لرؤية ابنها في المعتقل حاملة صرتها الممتلئة بما لذ وطاب، وهي تعرف «أن سيرها إليه يأس ورجوعها يأس»، وإذ يكتفي راشد بإنهاء الصراع الاجتماعي بعبارة تؤكد على يقينه بتحسن الأحوال «نحن فاهمين سبب الثورة، ظلم الناس، الفقر والجوع والمرض، لكن التو بس خلاص كل شيء تغير، من جا السلطان كل شيء تغير»، يرد عليه زاهر بإباء «أنا ما لي خص بمن يسير وبمن يجي، لكن أعرف أن الأشياء لازم تتغير ولازم تتغير من الجذور». وهو الأمر الذي يؤكد انعكاس كل تلك الماضوية المثقلة بالذكريات المؤلمة على اللحظة المعاشة، وكأنها الرواية التي تبدو مهجوسة باستعادة الماضي مكتوبة عن الآن بارتدادات مدروسة تعكس الفطنة في تشييد استراتيجية النص.
___
*القدس العربي

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *