حفــل شواء

خاص- ثقافات

*يوسف غيشان

فور استلامي الثالث عشر ـ وهو راتب إضافي تمنحنا إياه الشركة نهاية كل عام ـ ازداد حجم وشكل المطالبة  الأسرية بحفل  شواء فاخر مثل أبناء الذوات والمسؤولين ولو لمرة واحدة في السنة ، فقد أصرت أم البنين وشياطينها الصغار على ضرورة شراء طفل طازج وبلدي . أنا لست بخيلا لأمنع عن عائلتي لذة افتراس طفل كامل وطازج ومذبوح  بشكل شرعي وحلال . لكني ، وبخبث بريء، تمنعت على سبيل الاستثارة والغنج  ..ثم وافقت.

بعد القيلولة توجهت بسيارتي الصغيرة إلى مسلخ الأطفال… في الواقع كانت المرة الأولى التي أدلف فيها هذا المكان ، حيث أن  المرات القليلة التي تذوقت فيها هذا اللحم كانت في العطوات العشائرية وبيوت العزاء وولائم المرشحين للمجالس البلدية ومجالس النواب وما شابهها . فوجئت بالنظافة المطلقة في الداخل ، وكان المنظر مدهشا: أطفال صغار يتكومون فوق بعضهم في أقفاص تشبه إلى حد بعيد أقفاص الدجاج ، لكنها أكثر متانة ونظافة وأقل صخبا، حيث يقومون بتقطيع أوتارهم الصوتية فور ولادتهم ، كما يجرون لكل طفل عملية استئصال صغيرة في الفصين الأماميين للجبهة.كان الأطفال يأكلون ويشربون من مذاود علقت في الإطار الداخلي الأسفل من القفص ، ويتبولون ويتبرزون في أماكن خاصة يخرج منها الماء والمنظفات الكيماوية وتطهّرهم تماما  .

كانت الأقفاص تتجاور: القفص الأول كان للأطفال ممن هم دون السادسة ، ثم لمن هو دون الثانية عشر وأكبر من السادسة طبعا ،يليه قفص من هو دون الثامنة عشر، ثم من هم  دون الرابعة والعشرين ، ثم لمن هم دون الخامسة والأربعين ، وأخيرا قفص من هم فوق ذلك.، ويمتاز عن الأقفاص الأخرى   في أنه مزود بباب داخلي يلج إلى صالات واسعة ينهمك فيها هؤلاء  بتصنيع أشكال الزينة والمطرزات اليدوية والميداليات وحمالات المفاتيح وما شابهها من إكسسوارات تباع في الأسواق الخيرية.

دهشت للتآلف الأخوي بين الذكور والإناث في جميع الأقفاص – عدا الأقفاص المعدة للتناسل المنتشرة خارج المسلخ من المحيط إلى الخليج ـ  ولما سألت الموظف المسؤول بخجل حول الموضوع ،أجابني مبتسما لكأنه كان يتوقع هذا السؤال :

 ــ إننا نلغي رغباتهم تلك من أجل استتباب الأمن ومصلحة الوطن. شعرت بالراحة في الحديث مع الموظف اللبق الذي وضع يده على كتفي بود ظاهر، واستطرد:

ــ كان أجدادنا العظام  أكلة لحوم البشر ، محرومين من هذه النعم التي تراها … تخيل أنهم كانوا يضطرون إلى الدخول في معارك لا تحمد عقباها دائما ويعرضون أنفسهم للأخطار ، لمجرد التمتع بازدراد لحم بشري …… لقد طوعنا التكنولوجيا لخدمتنا وصرنا نحصل على ما نشتهي بأسهل وأيسر الطرق ، وبشكل شرعي … شرعي تماما، فلم يرد كما تعلم أية تحريم مباشر لأكل لحم الإنسان في أي من الديانات ، إلا على سبيل حض الإنسان على ترك النميمة واستغابة الآخرين  وبشكل مجازي فقط.

قلت مازحا بمشاكسة :

ــ لكنكم تقتلون النفس التي حرمها الله!

ــ  لا يا صديقي ، ومع أن الزبون دائما على حق ، إلا أننا لا نقتل بل نذبح حلالا زلالا  ،  ونأكل من طيبات ما رزقنا الله.

ثم سألني محدث فجأة :

ــ أتريد ذكرا أم أنثى ؟

فاجأني السؤال ، وخشية أن أبدو محدث نعمة أجبت بسرعة:

ــ أريد طفلا ذكرا.

ــ الذكر أكثر لحما وأطيب ، لكن البعض يفضلون الأنثى لما يتمتع به جسدها من وجود طبقة دهنية تحت الجلد ، كما أن لحمها طري ، وينضج بسرعة، وهو المفضل لدى كبار السن.

أشار محدثي إلى طفل يقبع بهدوء في الجانب الأيمن من القفص ، لا أدري لماذا اختاره بالذات ، مع إنهم كانوا يبدون متشابهين . خرج موظف متأنق  لا اعرف من أين ، أخرج من جيبه رزمة مفاتيح ، أدخل أحد المفاتيح في ثقب القفص  ثم اقتاد الطفل إلى الخارج وولج معه إلى جوف المسلخ.

نظر محدثي إلى الأقفاص ، وقال ، كأنه لا يريد إحراجي لكنه يقصد تزويدي بمعلومات إضافية:

ــ كما تعلم ، نحن نبيع حسب شهادة الميلاد ، أي أن العمر وليس الوزن هو الذي يحدد السعر وليس الوزن أو الجنس ، صحيح إن الذين دون السادسة هم الأغلى، لكننا نستفيد من الجميع ؛ فنخرج من بطون الإناث في سن البلوغ  تلك البويضات القابعة تحت إبط الرحم ونبيعها على شكل كافيار بشري يدر على بلادنا دخلا جيدا.نحن مؤسسة حكومية – كما تعلم ــ   ويحق لك أن تفخر بأننا من أهم الدول المصدرة للكافيار البشري ، ونفكر في افتتاح قسم لإنتاج الخلايا الجذعية . أما الذكور البالغين فإننا نستأصل أجهزتهم التناسلية  ونبيعها لمن يعانون من العنـّة والعجز الجنسي ، حيث أن تناولها مع خلاصة الكبد يعيد القدرات الجنسية ويرضي الزوجات والعشيقات. كما إننا وخلال عملية الذبح نجمع الدماء  ونبيعها بالغالون لدول آسيوية  يستخدمونها لتصنيع النقانق ، لكن أدياننا وتقاليدنا وعاداتنا تمنعنا من ذلك . ولا تنسى إننا أعضاء  في منظمة الدول المصدرة للحم البشري (أوفــك).

في هذه اللحظة عاد الرجل الذي اقتاد الطفل ، محملا بمجموعة من الأكياس البلاستيكية الشفافة ، استطعت أن أميز من خلالها الرأس المنظف والأضلاع والزندين .وضع الرجل الأكياس جميعها في كيس أكبر وطلب مني بلطف مفاتيح سيارتي ليضع اللحم في الصندوق .

اقتربت من الكاونتر فيما دار محدثي الودود مقابلي ، كبس على بضعة أزرار  فظهر على الشاشة الصغيرة  تاريخ ولادة الطفل المذبوح بالسنة والشهر واليوم والساعة  ، وظهر السعر بجانبها… دفعت المبلغ وودعت محدثي الودود وخرجت .

على الباب لاقاني الرجل الآخر ، أعاد لي مفاتيح السيارة ، شكرته بلطف ، ودخلتها ملهوفا.

لا شك أن عائلتي الكريمة قد أوقدت الفحم وجهزت كل شيء لحفل الشواء … والأطفال ينتظرون على أحر من الجمر .
____
*كاتب من الأردن

ghishan@gmai.om

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *