الترجمة المعقلنة

خاص- ثقافات

جون داربيلني*/ ترجمة: الدكتور لحسن الكيري**

 

   إن هذا هو العنوان الذي اخترناه لعرضين قدما أمام جمعية المترجمين في كيبيك أثناء الحلقتين الدراسيتين لشهر نونبر من سنة 1960، و قد كان في وسعنا، على حد سواء، أن نعنونهما بما يلي: “علم اللغة الفارقي في خدمة الترجمة”.

   منذ فترة يسيرة، كما نعلم، بدا يتشكل في مجال علم اللغة تخصص يمكن أن نسميه “علم اللغة الفارقي“، لأنه يأخذ على عاتقه مهمة استجلاء الاختلافات و الفروق المميزة للغتين معينتين. و هذا المقال، الذي بين أيدينا، يبتغي إيضاح كيفية مساهمة هذا التخصص في تكوين المترجم.

    بادئ ذي بدء، يجدر أن نذكر بأنه كانت توجد ترجمات جيدة قبل أن تتأسس المقارنة النسقية للغتي الانطلاق كما الوصول، و قبل أن تصبح هذه المقارنة مادة للتدريس. غير أنه سواء في الترجمة أو في ممارسات فكرية أخرى كثيرة، يرتهن النجاح، في نفس الوقت، بالاستعدادات الفطرية للذات و بما اكتسبته من مهنية، حيث إن درجات الفطري و المكتسب تختلف بين الأفراد. بكلام آخر، يمكننا بل و يجب علينا أن نقبل بأن هناك مترجمين بإمكانهم أن يحلوا المشاكل الترجمية دون أن يستندوا عمدا إلى مجموعة مبادئ. لكننا نتواجد في عصر حيث يتجاوز  الطلب، في مجال الترجمة، العرض و حيث تدفع الضرورة، أكثر فأكثر، إلى الشعور بأهمية تكوين المترجمين بدلا من التعويل على فهمهم البدهي للغات التي يستعملونها. إنه لمن هذا المنظور حيث يمكننا أن نحاول، بطريقة مشروعة، رسم ملامح الإضافة التي جاء بها علم اللغة الفارقي للممارسة الترجمية.

    سوف لن نحاول أن نخوض في الحديث عما إذا كانت الترجمة فنا أو علما. إنها تتشكل، لا محالة، من هذا و من ذاك. فهي فن عندما يكون المعادل المقترح نابعا من قرار شخصي و جريء للمترجم بعيدا عن كل نهج مطروق. كما نتحدث كذلك عن كشوفات من صنع العبقرية.   غير أنه يجب الاعتراف بأن غالبية النقائص التي نقف عليها في الترجمات هي في مستوى أقل تعقيدا، حيث ينضاف غياب الاحتراف إلى غياب العبقرية. إن قراءنا لا يجهلون ماهية الأسلوبية المقارنة، بل إن البعض منهم يمارسها. إذا، يمكنهم أن يتساءلوا عما إذا كان، فيما تقدم، قد تمت عملية إبدال للمفاهيم. وبالفعل، إن علم اللغة الفارقي ينطوي على الأسلوبية المقارنة. و حسب الزاوية التي ننطلق منها، تفرض الأسلوبية المقارنة نفسها علينا باعتبارها الأكثر نجاعة بالنسبة للمترجم، بيد أن مقارنة لغتين اثنتين معا تمس النحو كما المعجم. إن هذا التعارض المتعلق بالمصطلحات له علاقة بتقسيم العمل. ينضوي تحت لواء الأسلوبية كل ما هو تعبيري، سواء أتعلق الأمر بالتركيب، بالمعجم أو حتى بالنبر. وينضوي تحت علم الألفاظ كل ما هو معنى و استعمال للألفاظ خارج قيمها التعبيرية. أما فيما يخص علم النحو فيضم الوقائع المرتبطة بالبنية، و ذلك في اللحظة التي تكون فيها هذه الوقائع مجردة من كل تعبيرية. و ستسمح بعض الأمثلة بتوضيح هذه الفروق. إنها أمثلة مصنوعة بطريقة غير متحيزة، من أجل هذه المجالات الثلاثة المذكورة أعلاه.

     لنبدأ بعلم الألفاظ الفارقي الذي يعتبر المجال الأسهل من حيث التحديد، كما أن المفردات هي الجانب الأكثر حسية. و يحتل ( الأصدقاء المزيفون – deceptive cognates)[1] الحيز الأكبر هاهنا. لقد تم الخوض في دراسة هذا المجال اللغوي منذ  حوالي أربعين سنة من طرف كيسلر و ديروكينيي، غير أنه لا زالت هناك فروق كثيرة، يجب ضبطها و تصنيفها، بين الألفاظ المنحدرة من نفس الأصل و لكن لها دلالة مختلفة، بين اللغتين الفرنسية و الإنجليزية. إن مفاهيم المعنى الإحالي، المعنى العقلي أو العاطفي و معنى التلازم، ثم معنى الترابط، و التي سنقف عليها فيما سيأتي، تسمح لنا بمواصلة هذه  الدراسة بطريقة أكثر تدقيقا.

   ليس التمييز بين النحو والأسلوبية واضحا للعيان منذ الوهلة الأولى. ومع ذلك يتوضح بالمثال التالي: إن الإنجليزية لا يمكن أن تعطي للمصدر العامل ( L’infinitif) قيمة الأمر. ولهذا فإن:Ne pas plier  يتم أداؤها ب: Do not fold. إن هاهنا يوجد اختلاف ذو طبيعة بنيوية بين اللغتين كليهما، و الذي لا علاقة له بالتعبيرية أو المستويات اللغوية. سنبقى، إذن، في نفس مجال النحو. لكن اللغة الفرنسية، من جانبها، تملك خيارا بين استعمال الأمر و المصدر، و هذا الخيار ذو طبيعة أسلوبية. فلتقارنوا بين: N’entrez pas! ( لا تدخل)، ذو الصبغة الدرامية، و Défense d’entrer ( ممنوع الدخول)، و بين sens unique ( اتجاه أحادي)، في أحد الشوارع، و sens interdit ( اتجاه ممنوع)، و التي هي إعلانات خاصة باللغة الإدارية. و نعاين هاهنا كيف نمر من علم النحو إلى الأسلوبية عندما نكون أمام لغة تتوفر على صيغتين غير متساويتين في التعبير أو تنتميان إلى مستويات لغوية مختلفة.

   كذلك، فالأسلوبية هي التي تكشف عن الاختلافات المعجمية من أجل إظهار التشديد: strictly prohibited يتم أداؤها ب: formellement interdit. و من دون شك، فإن « strictement prohibé »  صيغة معقولة، غير أن هذا المركب قد سقط من دائرة التداول، و ليس بمركب اصطلاحي، بالطبع، فإن كل ما يتعلق بالتشديد ( التأكيد) يطبق بالتساوي على التعبير عن باقي الحركات الصادرة عن إدراكنا.

   و بالأحرى، فإنه لأمر طبيعي أن تعتبر دراسة الألفاظ و التعابير المرتبطة بالمقامات أو بالوقائع الثقافية، مندرجة ضمن الأسلوبية. فالمقام هو الذي يسمح لنا بأن نؤكد كون: la séance est ouverte  هو بالضبط  معادل ل[2]: meeting will come to order ; و أن الاختلاف الثقافي هو الذي يجعل قارئا فرنسيا جاهلا للطبوغرافيا الاجتماعية لكثير من المدن في أمريكا الشمالية، يخطئ في معنى هذه الجملة و التي  تبدو واضحة ظاهريا: He lives on the wrong side of the tracks. نقول إن طبيعة المقام تخلق معادلات بينما تولد الاختلافات الثقافية تكييفات ( des adaptations). لا يقدم ما أتينا على ذكره الآن أي جديد من أجل أن يستعمل أي كان كتاب الأسلوبية المقارنة للفرنسية و الإنجليزية. لكن الكثير من هؤلاء الذين يستعينون به يلتصقون، بالأحرى، بالأمثلة أكثر من التصاقهم بالمفاهيم. و الحال أنه، إذا كانت وفرة الأمثلة تقدم قيمة عملية لا يمكن إنكارها فإننا نكاد نحرم أنفسنا من مساعدة على قدر من الأهمية بإهمالنا للمفاهيم. من دون شك، فإن هذه المفاهيم ذات طبيعة تجريدية، لكنها ملتصقة بواقع ملموس، و بالتالي لا توجد إلا لتبيان ما لاستعمالات اللغة المتداولة من أمور مشتركة. سيكون من المستحسن توضيح هذا الأمر عن طريق استعمال مجموعة من المفاهيم و التي أغلبها مضمنا في كتاب الأسلوبية الآنف الذكر.

    إن التمييز الذي من المناسب أن نقيمه، مثلا، بين ما هو نحوي و ما هو تعبيري اصطلاحي، ليس رؤية عقلية محضة، و لكنه يعلل بسهولته، بحيث يسمح، بالفعل، بوصف و ترتيب بعض الانزياحات ( الشذوذ عن القاعدة). و نقصد بالانزياحات، هاهنا، تلكم الانحرافات  التعبيرية بالمقارنة مع الاستعمال المتداول. و هكذا فإن الملفوظ : Le nom est Paquette (الاسم هو باكيت)، يستعمل بناء فرنسيا تماما من وجهة نظر نحوية، لكن، و لسبب ما، ليس هذا البناء أكثر اصطلاحية من هذا الملفوظ: (strictement prohibé– ممنوع كليا)، و الذي سبق و أن رأيناه أعلاه. هناك حيث لا تمارس اللغة الإنجليزية أي تأثير يذكر، نقول: أنا هو بيير باكيت  Je suis Pierre Paquette أو  Je m’appelle Paquette – أسمى باكيت. إن حدود الاستعمال التي تفصل ذاك الذي يقال عن ذاك الذي لايقال، هي كما نرى، اعتباطية.

   إن واحدا من المفاهيم المركزية للأسلوبية المقارنة هو ذاك المرتبط بالوحدات الترجمية أو الوحدات المعنوية[3]. لا توجد، مع الأسف، دائما معايير خارجية لهذه الوحدات، بحيث إن المترجم، في الغالب الأعم، يجب عليه أن يعرفها قبل أن يتمكن من ضبطها، أو إذا أردنا ذلك، يقوم بضبط و تحديد ما يعرف مسبقا. فضلا عن ذلك، هناك التباسات يمكن للسياق أو النبر أن يبددانها: You are telling me متبوعة بجملة أخرى تشكل ثلاث و حدات، بينما You are telling me، عندما ننبر me فإنها لا تشكل سوى وحدة واحدة. و بالتالي فإن هذه الكلمات تملك معنى عاما هو: أصدقك، أنا مؤدى عني لمعرفة الأمر، لا تشر إلي بأي شيء. إن الوحدة المعنوية يتم ضبطها ليس فقط بسياقها و إنما بمعناها الكلي، لأنه من السهل ضبط حدود ماهيتها. و هكذا فإن:There is no such thing as perfection  هو ملفوظ يضم وحدتين ترجميتين، واحدة مشكلة من ست كلمات و الأخرى من كلمة واحدة، الأخيرة. و الكلمات الست الأولى تعبر عن انتفاء الوجود: أي أن الكمال لا يوجد، و لا ينتمي إلى هذا العالم. إن لهذا التعبير ما يجانسه في عبارة: There s no thing like و التي تشكل وحدة ترجمية كذلك، لكن رغم التناظر الحاصل على مستوى البنية و الألفاظ، فإن معناهما مختلف كثيرا، إذ يتعلق الأمر بشعور بالإعجاب يضع الشيء المعجب به في مرتبة أعلى من كل شيء، مثلا: – Il n’ y a rien que de la promptitude . لنلاحظ التشابه الشكلي القائم بين there s no such thing as…  و Il n’ ya rien de tel que…  و There’s no thing like…. إن التحليل البنيوي الذي ينكر المعنى الكلي لهذه التعابير يمكن، لا محالة، أن يعادل بين التعبير الأول و الثاني، في حين أن هذا التعبير، في الواقع، هو معادل التعبير الثالث. ثمة، نحن أمام مثال جيد عن الخطر الذي تفرضه التماثلات الشكلية: إذ يجب الحذر من الاعتقاد بأن هذه التماثلات الشكلية تقابلها دائما تماثلات معنوية. إن تصنيف المعاني إلى معنى إحالي و إيحائي، عقلي و عاطفي، و معنى التلازم و الترابط (و هذا المعنى الأخير لا يعنى سوى بالنعوت) يتصل بعلم الدلالة لكنه يلامس الأسلوبية بواسطة الطابع العاطفي لبعض الألفاظ التي يصنفها. و مجددا، لسنا أمام تجريدات مجانية، و لكن أدوات لحصر ما هو واقعي. و زيادة على ذلك، فإن هذه التمييزات يمكن أن تؤدي إلى تقطيع مختلف عن النص قيد الترجمة، و إذن إلى توزيع آخر لألفاظ النص إلى و حدات ترجمية.

إن كلمتي (grand – كبير/ مهم) و (فيلم) يتم الجمع بينهما بطريقة مختلفة حسبما إذا قلت:  C’est un grand film (A Great Picture) أو passe le film?  A quelle heure   (The feature). يمكننا بكل تأكيد الاحتفاظ بهذا التمييز، نهائيا، دون الذهاب بعيدا، لكن نتعمق أولا في فهم اللغتين معا إذا ما توصلنا إلى أن لفظة (grand) في الحالة الأولى لها معنى عاطفي و في الحالة الثانية تحمل معنى عقليا. فضلا عن ذلك فإننا سنلاحظ أن ملفوظ: (Le grand film) (بأداة التعريف) يشكل وحدة ترجمية، بينما في ملفوظ:  Un grand film، بالمعنى الإعجابي، تشكل كلمتا grand   وfilm  وحدتين مختلفتين. إذا نوقن بأن نفس النعت لا يمكن أن يؤدى، بالضرورة، بنفس المعادل حينما يتعلق الأمر بالمعنى العقلي و المعنى العاطفي، و أن نفس التباينات توجد بين المعنى الإحالي و المعنى الإيحائي، و بين التلازم و الترابط. إن هذه المقولات الثلاث غالبا ما تتم تغطيتها كفاية، و سنرى أمثلة حول ذلك، غير أننا قد لا نفلح في الإتيان بها لمقولة واحدة بسبب الاستثناءات و كذلك الإضاءات  المختلفة التي توفرها حول الألفاظ ، و حتى عندما تتطابق؛ فعندما نقول: Un cours magistral – درس رئيس (محاضرة)، ربما، و حسب النبر الذي نوقعه فوق النعت، يكون درسا غير رسمي أو درسا ذا جودة ملحوظة. فما تعينه اللغة الفرنسية عبر الوسائل التنغيمية، تعبر عنه اللغة الإنجليزية، هنا، عبر الوسائل المعجمية، أي عن طريق تبديل الكلمات: A lecture course ،.A masterly course إن مصطلح: prosodique– تنغيمي، ذو طبيعة تقنية، و هذا يعلل بكونه يسمح بتحديد صنف من العلامات التي يمكن أن تكون ذات طبيعة دلالية أو أسلوبية. إن في المثال السابق، نجد لفظة magistral – رئيس، إما ذات معنى عقلي و إذا توضح الترابط، أو ذات معنى عاطفي و بالتالي فهي نعت يفيد إذا التلازم. بإمكاننا كذلك اعتبار أن معناها العقلي هو في نفس الوقت معناها الإحالي، بينما معناها العاطفي هو معناها الإيحائي. يحدث أحيانا، كذلك، بأن يتم أداء الترابط (الإضافة) في اللغة الإنجليزية بواسطة موصوف يؤدي وظيفة صفة. و هذا شأن لفظة:lecture  في ملفوظ:lecture course . إن صفة الإضافة ( الترابط) تشير إلى ترابط أكثر من إشارتها إلى ميزة ملازمة للشيء. و وفق هذا فإن هذه الصفة لا يمكن أن تلعب دور لا أداة التشبيه و لا اسم التفضيل و لا يمكن تقديمها في الكلام كما لا يمكن أن تكون خبرا. و فيما يتعلق بهذا الملفوظ: Ce cours est magistral – هذا الدرس رئيس، فإننا نتحدث بالضرورة عن جودة هذا الدرس و ليس عن الطريقة التي تم تقديمه بها. قد يحدث و أن تستعمل اللغتان معا نعوتا للتلازم و للإضافة. ففي الملفوظ: Une voix musicale – صوت موسيقي، و Une soirée musicale – أمسية موسيقية، نجد أن المقولتين (الصنفين) حاضرتين معا. غير أن التداول لا يسمح لنا بأن نقول: « Un instrument musical » – أداة موسيقية بالنسبة ل:- Un instrument de musique أداة للموسيقى. لقد لجأت اللغة الفرنسية هنا إلى صيغة وصفية لكي تشير إلى تضايف ( ترابط) الأداة  L’instrument و الموسيقى  La musique. و في اللغة الإنجليزية تطبق صفة musical – موسيقي بلا تمييز على الصوت ( التلازم)، على الأمسية (الإضافة) و على الأداة (الإضافة).

و بالطريقة نفسها نجد لفظ:  angulaire – زاوي، يعبر عن الإضافة و لفظ:anguleux  – مزوى، يعبر عن التلازم. و الصفتان معا لا تتوفران إلا على صيغة واحدة في اللغة الإنجليزية هي: angular.

    إن هذا التصنيف المزدوج بين الإحالي و الإيحائي، و العقلي و العاطفي له قيمة كذلك بالنسبة للأسماء و للأفعال. إن الفعل: Electrifier – كهرب، يستعمل بالمعنى الإحالي، و الفعل:  Electriser– هيج، بالمعنى الإيحائي في غالب الأحيان. و اللغة الإنجليزية لا تتوفر إلا على صيغة واحدة للاستعمالين معا هي: To electrify. في حين أن فعلنا: Patauger – تخبط في الوحل، يحمل معنى إحاليا (يتخبط الأطفال في الوحل)، و معنى إيحائيا ( لنتركه يخبط خبط عشواء)، و معنى معترضا (رزح في الوحل). يوافق كل واحد من هذه المعاني في الإنجليزية فعل مختلف:To padle ،  To flounder و To sloch around. إن علم النحو الفارقي[4] يمكنه و بصعوبة الاستغناء عن مفهوم الشكل (الجهة) كي يفسر بعض الاختلافات بين اللغتين الفرنسية و الإنجليزية. نعرف أن الشكل ( الجهة) هو المسرح حيث توجد حركة في اللحظة التي نعتبرها فيها. و يمكن للحركة أن تكون في بدايتها، في نهايتها، خلال حدوثها أو أثناء تكرارها؛ فاللغتان معا تعرفان الشكل ( الجهة) لكن لا تعينانه بنفس الطريقة. إن اللغة الإنجليزية، خصوصا، تستعمل بعضا من الظروف التي يمكن أن تؤدي، كذلك، وظيفة أدوات الجر:Up ،Down،Out و Away الخ. و يحدث و أن تلجأ اللغة الفرنسية إلى إحدى السوابق: و هكذا فإن S’envoler تتعارض مع Voler. لكن، في غالب الأحيان، يكون الشكل ( الجهة) خفيا في اللغة الفرنسية بينما يكون ظاهرا في اللغة الإنجليزية. و هكذا فإن “بال” يتم أداؤها، حسب درجة البلى، بواسطة  Worn away أو Worn out، و Suspendre  – علق، و Accrocher – أنشب، يتم أداؤها بواسطة To hang up، و Coudre un bouton – خاط زرا، بواسطة:To sew on a button، و Fondre l’argenterie de famille – بدد ثروة العائلة، بواسطة:  To melt  down the mamily ‘s silver،الخ. إن لهذه الملاحظات قيمة، خاصة، بالنسبة للترجمة من الفرنسية إلى الإنجليزية. كذلك، هناك شيء ذو أهمية كبرى هو التمييز بين أفعال الحركة و أفعال الانتقال الذي قام به لوسيان تيزنيير. إنه يسمح بأن نفسر سبب كون: Marcher au bureau – مشى إلى المكتب، هو تعبير إنجليزي. إن الفرق بين الحركة و الانتقال هو أن الحركة لا تفرض بالضرورة تغيير المكان. في اللغة الإنجليزية، ليس التمييز بين أفعال الحركة و أفعال الانتقال بذي أهمية لأن أداة الجر أو الظرف هما اللذان يشيران إلى ما إذا كان هناك حركة في داخل المكان أو تغيير لهذا الأخير. فلنقارن: I walk in the park/  to the park. إن أدوات الجر في اللغة الفرنسية لا تستطيع القيام بهذا العمل الذي هو من اختصاص الأفعال. و الحال أن: Marcher – فعل دال على الحركة، و: Aller (à pied) – ذهب (مترجلا) فعل دال على الانتقال. هاهنا احْتِيجَ إلى القول: Je me rends à pieds au bureau – أذهب مترجلا إلى المكتب. و للسبب نفسه يتوجب قول:L’indemnité journalière a été portée à vingt dollars – لقد تم إيصال الأجر اليومي إلى عشرين دولارا، و ليس augmentée à vingt dollars – تم رفعها إلى عشرين دولارا، لأن تغيير الثمن لا يمكن تعيينه إلا بواسطة فعل دال على الانتقال. و الحال أن: Augmenter– رفع، هو فعل دال على الحركة.

   لقد تطرقنا أعلاه إلى قضية الوسائل التنغيمية، و في المثال الذي قدمناه، نجد أن اللغة الفرنسية كانت تستعمل تلك الوسائل. و في الواقع فإن اللغة الإنجليزية هي التي، في غالب الأحيان، تستفيد من هذه الأدوات، بحيث إن النبر في الجملة يمكن أن يقع على أية كلمة فيها، و هو الأمر غير الممكن في اللغة الفرنسية. ففيما يتعلق باستقالة الجنيرال دوغول، نقلت صحيفة لاغازيت في مونتريال عن الوزير الأول قوله: .« Begining tomorrow a new page in Hour history will be turned » و تضيف لاغازيت: .« It is a new page in the word ‘s history »فلا يمكن أن نقرأ هذه الجملة الأخيرة بصوت مرتفع دون أن ننبر ملفوظ: word ‘s  كي نبين التعارض بين تاريخ فرنسا و تاريخ العالم. يمكن أن نعزل في اللغة الفرنسية، بكل جلاء، كلمة: Monde- عالم، غير أن هذا التشديد لا يكون ذا بال إلا إذا ارتكز على وسيلة أخرى، و التي هي إضافة:Aussi   –  كذلك:

« C’est aussi une page de l’histoire du monde ».

   إن الفروق (الاختلافات) التي قمنا بدراستها، بين الإجراءات التي تستعملها اللغتان معا من أجل التعبير عن نفس الأفكار، تبين بطريقة غير مباشرة، إلى أي حد يبقى تدقيق المترجمين الذين يعتقدون بأنه يجب الالتصاق بالنص كي نكون متيقنين من عدم الوقوع في الخطإ، أمرا غير معلل. لقد رأينا عن طريق الأمثلة التي تتابعت بخصوص المفاهيم التي تم استيفاؤها، أن الترجمة الجيدة هي التي تؤدي معنى نص الانطلاق بواسطة أدوات لغة الوصول. يمكن القول إنها حقيقة بادية للعيان (ثابتة)، من دون شك، لكن كثيرا من المترجمين، كذلك، الذين يكابدون استبداد (جبروت) الشكل كانوا موضوع تفكير إلير بلوك عندما قال:

 ” إنه يجب على المترجم أن يتحرر من القيود ذات الصبغة الميكانيكية و التي نجد من بين أبرز مظاهرها القيد الفضائي و القيد الشكلي”.

*اقترن ذكر هذا العالم في الترجميات باسم عالم آخر في نفس المجال هو  جون بول دو فناي و هما كنديان تركا لنا كتابا يعتبر لبنة كبرى في مجال الدراسات الترجمية المعاصرة و عنوانه هو: “الأسلوبية المقارنة للغتين الفرنسية و الإنجليزية” و قد نشر في سنة 1958. هذا بالإضافة إلى مقالات عدة منشورة بمجلات محكمة في هذا المجال مثل مجلة “ميتا” الكندية و التي أخذت منها هذه الدراسة التي تتعنون في الأصل ب: la traduction raisonnée. و هي صادرة سنة 1969. (المترجم).
________

**كاتب، مترجم، باحث في علوم الترجمة ومتخصص في ديداكتيك اللغات الأجنبية – الدار البيضاء -المغرب.

[1]  نقصد بهذا الاصطلاح في مجال الترجمة تشابه كلمتين أو تعبيرين في لغتين مختلفتين على مستوى الشكل و اختلافهما في المعنى، وهذا يجعل العديد من المترجمين يرتبكون فينقلون المعنى الخاطئ أو المضاد لهذه الكلمة أو لذاك التعبير. هذا التعريف نفسه تشير إليه الدكتورة ماريا مولينير في قاموسها للغة الإسبانية. (المترجم).

[2]  لمزيد من التدقيق حول هذه المفاهيم: معادل/مقابل/ تكييف و غيرها نحيل على كتاب “الأسلوبية المقارنة” لنفس هذا الباحث و زميله والذي يعتبر حجة في هذا الباب. (المترجم).

[3]  في الواقع نجد تضاربا كبيرا بين علماء الترجمة فيما يتصل بتعريف هذا المفهوم؛ أقصد “الوحدات الترجمية” انطلاقا من جون بول دو فيناي و زميله جون داربيلني مرورا بدانيكا سيليسكوفيتش و ماريان لو ديرير و غارنيي و غواديك وصولا إلى ميشيل بالار و نيومارك. فإذا أخذنا مثلا تعريف سيليسكوفيتش نجدها ترى أن هذا المفهوم “هلامي و غير ثابت” في حين أن غواديك يرى أنه “مركب لغوي  متوسط بين الكلمة و الجملة”، أما غواديك فيفهم منه “مركبا فعليا يمكن أن يكون جملة”، و بخصوص بلار فهو يفهم منه “العلاقات التي توجد بين ملفوظات النص”. أخيرا يشدد نيومارك “على صعوبة تعريفه” معلنا فشله في هذه المهمة. (المترجم).

[4]  علم اللغة الفارقي أو التقابلي كذلك فرع من الدراسات اللغوية الحديثة بدأ يتقوى منذ الخمسينيات من القرن السالف و اهتم به علماء التربية و التدريس مثل الأمريكين روبيرت لادو و تشارلز فرايز أكثر من اهتمام اللسانيين أنفسهم به. و غايته إقامة تقابل بين نسقين لغوين في حالة احتكاك إما في إطار تعليم و تعلم لغة أجنبية أو أثناء القيام بترجمة نص ما.و من حسناته أنه يساهم في حصر التشابهات و الاختلافات الموجودة بين ذينك النسقين اللغوين. (المترجم).

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *