مفاجأة كان لعام 2015: فيلم ديبان

خاص- ثقافات


مهند النابلسي*

ميلودراما هندية بنكهة فرنسية إجرامية!

 

يلقي هذا الفيلم بجانبه الإيجابي نظرة معبرة ومؤثرة لواقع النازحين والمهاجرين في اوروبا، وقد فاز بالسعفة الذهبية لمهرجان كان 2015، وهو من إخراج الفرنسي جاك اوديار (صاحب تحفة النبي)…يقوم هنا جندي تاميلي سابق “أنتوني هاسان” (جيسوتاهاسان) بالنزوح لفرنسا لتأسيس حياة جديدة، ثم يجد نفسه مع عائلته الجديدة متورطا بالعنف في ضواحي باريس.

 الفيلم اللافت هذا بمثابة “ساجا” شيقة لقصة ثلاثة غرباء يواجهون ظروفا استثنائية صعبة تتطلب الصبر والعزيمة والنضال، وهو بالحق فيلم مشوق بجانبه “الشبه-وثائقي” الفريد، لقد انعمس المخرج الشهير بأسلوب مسرحي في البداية ليبدأ بتركيب الأحداث وتعقيدها تدريجيا، كما لا يخلو الشريط من لقطات شعرية معبرة، ويستعرض بتماسك شيق الأحداث اليومية الروتينية كما التقلبات والمنعطفات الدرامية، إلا أنه ينتهي (وهذا بيت القصيد) بنسخة “ضاجة-صاخبة” لعمل حركي-إجرامي لافت ببصمات ميلودرامية نوعا ما وبنكهة فرنسيه-أمريكية خاصة!

لا شك من واقعية تصوير مشاهد التعامل مع النازحين الجدد في اوروبا وفرنسا تحديدا، كما يتقن تسليط الأضواء على العلاقات العاطفية الإنسانية، مع متعة مشاهدة التفاصيل اليومية الحياتية، ومهارة خلق طبيعة تلقائية بالآداء، وكأن الكاميرا الذكية تصور أحداثا تسجيلية ثم تتمايل وتنسج تفاصيل ذات علاقة هنا وهناك، وكما أسلفت فالنصف الأول من هذه الدراما شيق وكأن المخرج يأخذنا برحلة غوص بحرية لمعاينة المخلوقات البحرية المتنوعة وتفاعلات علاقاتها المتداخلة، وينهج بأسلوبه السينمائي الواقعية الوثائقية مع شحنات إنسانية عاطفية، ويتحفنا بين الحين والآخر بمشاهد جميلة لافتة…ثم قادنا تدريجيا للانغماس بمهرجان دموي وكليشهات عنف دموية مكررة، سارقا من السرد السينمائي الشيق قوة الإقناع وكأن لعنة سحرية قد استحوذت على النهاية!

deepan2

تفاصيل الحبكة:

جيسوتاهسان هو جندي سابق من نمور التاميل الذين انهزموا في الحرب الأهلية أمام الجيش النظامي، ويضطر صاحبنا،  بعد انتهاء الصدام العسكري الدامي وخسارة التاميل للحرب، يضطر صاحبنا إلى اللجؤ القسري لمخيم النازحين، حيث يقرر الهروب واللجوء لفرنسا للبحث عن فرصة جديدة في الحياة، وحتى يتمكن من تحقيق متطلبات اللجوء السياسي فهو يحتاج لقصة مقنعة، تبدأ بمنحه جواز سفر رجل ميت، ثم بارتباطه مع زوجة افتراضية لا يعرفها سابقا واسمها باليني،  وبرفقة فتاة ذات تسع سنوات اسمها لايال، ثم يركبون سفينة باتجاه فرنسا قاصدين باريس تحديدا، وبعد استقرارهم بشقة متواضعة يستلم عملا كبواب إسكان، حيث يبدأ ببناء حياة جديدة في مجمع إسكان بمنطقة “ليجابري-سانت-جريفيس” في ضواحي باريس الشمالية-الشرقية….وتدورهناك بالصدفة  صدامات عنيفة محورها عصابات تهريب وترويج المخدرات…الفيلم بمجمله يوجه رسالة فريدة (غير تلقينية) إلى الروح الإنسانية، ويوضح كيفية تواصل الحب وازدهاره في ظروف مؤثرة وبأسلوب غير تقليدي، كما يلقي أضواء جديدة على مواضيع الهجرة والنزوح التي تعصف الآن تحديدا باوروبا كما يوضح لنا الأساليب الماكرة الخفية للاتجار بالبشر واستغلال معاناتهم!

 أسلوب إخراجي فريد وسيناريو متماسك ونهاية غريبة:

مثل تصوير لحظات انكسار أشعة الشمس للغطاء السحابي من خلال أوراق الشجر في غابات سيرلانكا الساحرة، حيث نلاحظ أن معظم المشاهد تعج بالمغزى والدراما القوية المؤثرة…فنرى الكاميرا تعود بنا من حين لآخر لسيرلانكا وطن النازجين وتستعرض صورا تبدو كأحلام واستدعاء للذاكرة، مثل مشهد الفيل المهيب الحزين الذي يحرك المشاعر…كما نلاحظ عدم انسجام الفتاة في مدرستها الجديدة وتعرضها المستمرللإهانة، ثم نراها ونسمعها تقرأ شعرا معبرا بصوت مرتفع وغاضب ومستفز: حياتك لا شيء، بلا أصدقاء، وانت كريهة بلا أصدقاء! وتثير بذلك حنق أمها المفترضة فتضربها بحقد كامن. أما بطلنا السيرلانكي فتمثيله بالحق طبيعي وآخاذ ونرى عينيه تضجان معظم الوقت بالحقد والغضب والفخر كما باليأس والخيبة والإحباط، ويكاد من طموحه لا يكتفي بأعماله الاعتيادية كبواب وجامع نفايات في الحي الاسكاني المزدحم، بل يستخدم مهاراته الميكانيكية لإصلاح المصعد المتعطل. وفي مقطع آخر تستعرض الفتاة شعرا رومانسيا يتطرق للمد والجزر والطحالب المائية، ثم نسمع “النمر السيرلانكي” يغني ببؤس معبر يترافق مع لقطات مقربة لفيل مهيب هرم وحزين، والفيلة معروفة بالذكاء والطيبة والصبر والرغبة بالانتقام (الحيوان القومي لسيرلانكا)…ثم نستمتع كمشاهدين بالسعادة التي تغمر الزوجين فجاة مع الفتاة، ولا نفهم أبدا كيف تمكن صديقنا الجامح من النجاة في فرنسا بعد كل ما حدث من قتل وعنف وحرق وذبح، وبدا لوهلة وكأننا نشاهد فيلم “أكشن اجرامي تجاري”، حتى أن بعض الحضور السذج  قد صفقوا إعجابا لمشاهد البطولة الخارقة التي أظهرها النمر السيرلانكي فيما قبل النهاية، والتي لم أكن شخصيا أتوقعها من مخرج فذ كاوديار (صاحب تحفة النبي التي سبق وأن حصدت الجوائز العديدة)…وخاصة مع النهاية السعيدة “الميلودرامية”، حيث نراهما وقد استقرا بلندن، حيث يقيم ابن عم زوجته المفترضة، وبدا استمتاعهما بحالة “استرخاء هانئة”، وقد أنجبت الزوجة طفلا جديدا من علاقتها معه.

22

مشاهد غير منطقية وازدواجية المعايير:

لم أجد منطقا واقعيا في تعاطف رجل العصابات الفرنسي (المعروفين بالعصبية والنزق والعنصرية) مع الخادمة السيلانكية، مع أنه لم يعرف موقع بلادها على الخارطة العالمية، وتبدو مشاهد الطرافة الوحيدة في هذا الشريط “النكد” ممثلة  باستفسار  الفرنسي عن مغزى هزة الرأس المعروفة عند سكان شبه الجزيرة الهندية،  الذي تفسره المرأة بأنه مرتبط بالحزن والفرح على حد سواء،  وان كنت أعتقد انه مرتبط بكثرة الكذب الدارج عند هؤلاء السكان كوسيلة لتسهيل وتيسير أمور الحياة! أما شخصية الرجل العجوز الذي تخدمه السيرلانكية، فلا تبدومنطقية إطلاقا من حيث عمره الذي يكاد يكون في الخمسينات، ونستغرب  ونحن نراه يأكل لوحده باستقلالية مستخدما كلتا يديه، فيما نراه في مشاهد أخرى يعجز عن تحريك يده والتمدد على السرير…كذلك فعندما ينصح المترجم بطلنا المتنمر “جيسوتهاسان” بالحذر الشديد عند مقابلة مسؤولي الهجرة والنزوح، وتجنب الكذب “لأن كل القصص أصبحت معروفة”، ونلاحظ اكتشافهم السريع لانتمائه لنمور التاميل، ثم لا نعرف لماذا تقبلوا قصته الكاذبة حول الزوجة والفتاة الابنة المفترضة، كما أن مديرة المدرسة الفرنسية تتقبل بسرعة فكرة قيام السلطات الحكومية بحرق  المدارس عندما تقابل الفتاة، وكأن ذلك عاديا تماما في الدول الأخرى…وربما يقود هذا التفكير “الذي يشيطن الحكومات العالمثالثية” عموما، ويدعم المعارضين بكل أطيافهم بلا استثناء، ويمارس التغاضي الساذج المشبوه عن دخول ووجود واندساس الإرهابيين والمجرمين  من مهاجرين ونازحين ومقيمين، أدى هذا السلوك “المزدوج المعايير” في المحصلة لما ذاقته فرنسا وبلجيكا  وغيرها من الدول الاوروبية من عمليات إرهابية سافرة…وبينما تقوم السلطات الفرنسية بتسهيل أمور إرهابي محتمل وثائر هارب مثل “ديبان” بعد أن يسرت له ولعائلته ظروف الحياة الآمنة، يغتنم الفرصة السانحة لكي يمارس التواطؤ والقتل والإجرام ومن ثم الهروب لبريطانيا والعيش حرا طليقا هانئا دون أن يلاحقه احد …هكذا نلاحظ أن ازدواجية المعايير هذه هي التي جلبت الويلات للشعوب الاوروبية “الساذجة” دون أن تجرؤ على فضح حكوماتها المتواطئة، والتي لا يهمها إلا تدمير الدول والأوطان “الشرقأوسطية والعربية تحديدا” وعقد الصفقات (التي تفوح منها رائحة الفساد والتواطؤ) ومن ثم أمن اسرائيل فقط!

 

———
*ناقد سينمائي

 

شاهد أيضاً

العلاقة بين الشخصية الحقيقية والروائية في مسلسل التغريبة الفلسطينية

(ثقافات) “طربوش أبو عزمي العلي”:   العلاقة بين الشخصية الحقيقية والروائية في مسلسل التغريبة الفلسطينية زياد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *