يوم مختلف

خاص- ثقافات

*حسن حجازي 

-1-
صعب للغاية أن يحكم الضجر قبضته على الجسد  فيسحبه عميقا إلى قاع جب لم يعد فيه ما يبعث على الحياة بعد أن نضب ماؤه وهجرته القوارض والزواحف فسكنته بدل كل ذلك رائحة الموت. .
كم هو مر ذلك الإحساس الموغل في فصول الفقد بدون أدنى سبب،غالباً ما يداهمني هذا الإحساس حتى من غير أدنى وعي مني بمسبباته ودواعيه لاسيما إذا كان مسبوقا بشعور مغاير تماماً تكون فيه الفرحة غامرة وجارفة. .
غالباً ما أعيش هذه المفارقة العجيبة وأنا أنتقل من مزاج نفسي رائق إلى آخر مبهم وعصي على التحديد والتفسير، فأحتار أي السبل سأسلك حتى أخفف من وطأة هذا الإحساس الباعث على السأم. .

-2-
لم يكن علي هين أن أقبع في البيت وقتا آخر أمام حالة الخواء التي استبدت بي وعاشتها معي حتى كل التفاصيل والأشياء،هاهو ذا نفس مقدم نشرات الأخبار يطالعني بوجهه المتجهم على الدوام وهو على أهبة قصفي بأنباء قد تزيد من حدة توتري، عندئذ ماكان مني إلا أن ضغطت بعصبية على زر الريموت كونترول كي أتفادى السماع،حتى الأباجورة استفزتني على نحو لم أعهده من قبل إذ عبت عليها شكلها الذي بدا لي بشعا للغاية،لم يكن وجهي أحسن حالا وأنا أقف أمام المرآة محاولا تصفيف شعري،لم أستأنس البتة بوجهي ليس بسبب بعض الزغب الذي نبت في غفلة مني لكن على الأرجح بسبب تلك الهالات السوداء الواقعة تحت العينين وربما كذلك بسبب تلك الشعيرات التي بدأت تغطي شحمة الأذنين على نحو واضح. .

-3-
كان الشارع فارغاً إلا من كلبين كانا يتهارشان غير بعيد عن حاوية أزبال،  خمنت أنهما كانا يتنازعان على قطعة لحم أو شحم أو حتى عظم،لقد أصبح رؤية هذه الكلاب في الشوارع شيئاً عاديا لم يعد يبعث على الإستغراب بعد أن بحت حناجر المواطنين المنادين بإبعادها لما تشكله من خطر على الأطفال خصوصاً،لكن صمت السلطات المعنية وتقاعسها في أداء الواجب المنوط بها جعل أعداد تلك الكلاب الضالة في تزايد مستمر. .

-4-
غير بعيد عن الشارع، عند الواجهة الخلفية له تحديداً، الفارغة تماماً إلا من بعض المنازل القليلة التي هي في طور البناء،جلست فوق حجر موليا ظهري للحائط محاولا أن أهدم جدار ذلك الإحساس الغريب الذي جعلني أخرج في وقت مبكر دون أن أحدد لي وجهة معينة لأجدني في آخر المطاف في هذا المكان المقفر المفتقر لأي محفز قد يساعد على التفكير والتأمل الهادئين. .المليء بالمقابل بأكياس الإسمنت الفارغة وقضبان الحديد التي لم تعد صالحة لأي شيء وقناني البيرة والماء المعدني وأكوام من الأتربة. .
كانت في حركة دؤوبة، تتنقل بهمة مابين جيئة وذهاب،تتناوب على حمل بعض حبوب القمح وفتات الخبز والسكر، كان يبدو عليها الإنضباط التام وكأنها رتل أو كوموندو أنيطت به مهمة على قدر كبير من الأهمية،كانت النملات في نفس الحجم تقريباً،كانت متوسطة مائلة للحمرة الشيء الذي ساعدني في تحديد زاوية رؤية لابأس بها،لذلك أطلت النظر في النمل المنشغل بتكديس مؤونته،خلافا لبني البشر لا تجنح هذه الكائنات العجيبة للإحتكار،هي على العكس تماماً لديها نزوع للعمل التطوعي الجماعي المقيد بشروط العمل الذي يتقاسمه كل النمل من أجل بلوغ الغاية المنشودة التي هي العيش في إطار لحمة واحدة داخل بنيان مرصوص ليس سوى تلك القرية التي ينآلف فيها كل النمل في إطار لغة وشريعة ملزمة للجميع.
كان الوقت ينصرم مني شيئاً فشيئاً وأنا أتابع هذا النشاط  التربوي الذي برع فيه النمل على نحو مبهر حينها أحسست أن تلك القرية. .قرية النمل أرحب بكثير من نفسي التي غمرها إحساس مختلف لايشبه إطلاقا ذاك الذي استبد بي على نحو مفاجئ في ساعة مبكرة من يوم مختلف. .!

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *