خاص- ثقافات
هو الآن من سكّان المدينة.
لكنه ما زال يشعر بأنه قروي، قروي ساذج حيناً، فجّ في بعض الأحيان.
سار في الشارع وهو يفكر في ابنة الجيران، التي ظهرت له فجأة عند مدخل البيت، كأنها ترصد حركته كلما دخل أو خرج. قالت إن أهلها غادروا البيت ولن يعودوا قبل المساء، وهي تدعوه لاحتساء فنجان قهوة في الحديقة. قال إنه ذاهب لمشاهدة المباراة ولا يمكنه التغيب عنها بأي حال، تجاهل نظرة العتاب التي ارتسمت في عينيها وغادر البيت. اقترب من دوّار المنارة متجهاً نحو ملعب المدرسة، وهو يفكر بما تخبئه المدينة في ثناياها من أسرار لم تتكشف له حتى الآن. ابنة الجيران تحاول أن تقحم نفسها عليه، تماماً مثلما فعلت عزيزة، إلا أن عزيزة امرأة مختلفة، وهو يعرف أن ذكراها لن تفارقه مهما ابتعد، فكّر فيها حيناً ثم انصرف إلى تأمل ما حوله من خلق وأماكن وأشياء.
توقّف أمام واجهة المكتبة، دقق في عناوين بعض الكتب، لم يعثر على أي كتاب جديد بينها، (يفعل ذلك في بعض الأحيان لكي يوحي لزبائن المقهى المجاور المنتشرين على الرصيف قريباً من باب المكتبة، بأنه مثقف معني بالكتب، ثم لا يلبث أن يخجل من نفسه فيمضي مبتعداً) انتبه إلى صوت يناديه، إنه معاوية يقترب منه:
_ مؤكّد أنك ذاهب إلى المباراة!
_ صحيح، وأنت؟
_ لم أقرّر بعد. متى تبدأ المباراة؟
_ في الرابعة.
_ إذاً، ما زال أمامنا ساعة. هيا بنا نتمشى في الشوارع حتى يحين الوقت.
أدرك حاتم ما يقصده معاوية، فمنذ أعلن عن نيته ترشيح نفسه لملء المركز الذي شغر بوفاة أحد نواب البرلمان، وهو يجوب شوارع المدينة، مصطحباً معه صغار الموظفين والعمال والحرفيين، وسيلة لاجتذاب الناخبين، ولإعطاء انطباع بأنه مرشح الشعب الذي لا يترفّع عن الناس. (آه، معاوية! عرفته، عرفت الشخص الذي يقصده الراوي، كان معجباً بنفسه وهو يبحث عن فرصة للظهور، يلعب دوره بإتقان حيناً وبغير إتقان في أغلب الأحيان.)
اجتازا دوّار المنارة، حاتم شارد النظرات، ومعاوية يتحدث بصوت عالٍ عن الوطن والشعب لكي يسمعه المارّة، وحاتم يداري خجله من هذا الأسلوب المصطنع لاستدرار عواطف الناس. واصل حاتم صمته عن قصد، واستمر معاوية في إطلاق الشعارات.
حينما اقترب موعد المباراة، قال:
_ فطنت إلى أمر مهم، لا بدّ لي من زيارة مخيم قدّورة.
_ ماشي الحال.
شعر حاتم بأن كابوساً انـزاح عن كاهله، مضى نحو الملعب ممنياً النفس بمتعة ما.
متعة بالمجان
شرفات البيوت المواجهة للملعب غاصة بالنساء.
تمهل وهو يرسل نحوهن نظرة عابرة، اشتعلت في صدره مشاعر متضاربة، تمنى لو أن عزيزة تقف الآن في إحدى الشرفات، (ليس لبيتها شرفة. لبيتها شبّاك) يشير إليها بيده، وبعد المباراة تهبط إلى الشارع، يسيران معاً تحت الأشجار التي تميل بأغصانها على الأرصفة، يعودان إلى غرفته، يتركها تتعرّى أمامه على النحو الذي يروقها، يطيل النظر إلى جسدها . يمضيان بعض الوقت معاً، يخرجان إلى الشوارع من جديد، سيكون الجيران ما زالوا جالسين في الشرفات تحت سماء خريفية، سيشعر ببعض الخجل، هو خجول، وبالذات حينما يتعلق الأمر بالنساء. في البداية، كان خجولاً جداً، لم يخفّف من خجله سوى اندفاع عزيزة نحوه. قال لها بعد أن قطعا شوطاً في علاقة محمومة: سوف ننفضح. لم تلقِ بالاً لمخاوفه، لم تكترث لعواقب مثل هذا الأمر في قرية منغلقة على نفسها. قال لها: تعجبني جرأتك، سأكتب عنك قصة، سأجعل لها نهاية فاجعة. سألت: لماذا؟ قال: كتابة القصص تتطلّب مثل تلك النهايات.
تجاوز شرفات البيوت، عيون النساء مشدودة إلى ساحة الملعب. من شدة مللهن، أصبحت مباراة في الملعب المجاور لبيوتهن، وسيلة لجلب المتعة والسرور إلى نفوسهن. تسلق مئات من الصبية قمّة السور المحيط بالملعب، وجد الباعة لأنفسهم مواقع مناسبة تمكّنهم من بيع المكسّرات والساندويتشات. أجال النظر في حشود الناس الذين جاءوا من أحياء المدينة، ومن المخيمات المجاورة، لمشاهدة المباراة، استلفت نظره الميكانيكي ذو الجثة الضخمة. إنه مهرّج المباريات، رآه وهو ينـزع قميصه عن صدره، يهزّ كرشه بحركات مضحكة فيما هو يهتف لفريق الجلزون، (هو من سكان المدينة لكنه متعاطف مع المخيم).
بدأت المباراة، اقتربت الكرة من لاعب دفاع الجلزون، ركلها بقوة، ارتفعت في السماء، تجاوزت حدود الملعب، أخذت تتقافز على ألواح الزينكو في الكراج المجاور. (الراوي معني بإظهار سذاجة المباراة التي شاهدها حاتم أواسط الستينات من القرن الماضي، وفي ذهنه المباريات التي أصبح يراها على شاشة التلفاز، ويبرع فيها نجوم من طراز باولو روسي، مارادونا، زيدان، رونالدو، وبقية نجوم الكرة الكبار) هزّ الميكانيكي كرشه مشيراً نحو دفاع الجلزون:
_ دير بالك يا أخي، المباراة مش مع الكراج.
تعالت موجة من الضحك، ضحك لأناس متلهفين على أبسط المسرّات. ركض عشرات الأولاد خلف الكرة لإعادتها إلى الملعب. استمر اللعب بين الفريقين على نحو باهت، وظل كذلك حتى أحرز فريق الجلزون هدفه الأول. اندفع مدرب فريق رام الله هائجاً إلى قلب الملعب، صاح بعض المتفرجين:
_ تسلّل، تسلل.
اشتبك المدرب مع الحكم في حوار حاد، دبّت الفوضى في صفوف المتفرجين، هرعوا إلى قلب الملعب، اندلع عراك شديد. جاءت سيارات الشرطة، نـزل منها رجال مدجّجون بالدروع والهراوات، اختبأت النساء داخل بيوتهن، تابعن ما يجري في الملعب، من زوايا الشبابيك.
غادر حاتم الملعب، كأنه بطل قصة مهزوم. شعر بالأسف لما حدث، سار في الشارع حزيناً. المتاجر والأشجار وشرفات البيوت ترتدي لوناً قاتماً. اقترب من منعطف يسلمه إلى شارع ضيّق، يقع بيته في نهايته. رأى عدلي خضر يتخمّع في الشارع كعادته، اجتاحته قشعريرة حادة: كم يكره هذا الشخص! كم يخاف منه! منذ أن سكن المدينة وهو يتعقّبه في الشوارع كلما رآه.
سار بخطوات سريعة، دخل المنعطف قبل أن يقترب منه عدلي خضر، (أعرفه هذا المخبر، رغم أن الراوي غير اسمه) التفت إلى الخلف بعد أن قطع مسافة طويلة، رآه يقف عند المنعطف، عيناه تتابعانه دون لبس أو إبهام.
علاقة ملتبسة
وقف خلف النافذة.
أضواء الشرفات والنوافذ والشوارع تبدّد ظلمة الليل، وهو وحيد.
أرسل نظرة نحو البناية المجاورة. رآها تتهادى بفستان النوم من غرفتها إلى الشرفة، خمّن أنها تراه، لكنها تتظاهر بعكس ذلك، (هذا واحد من مظاهر لؤم المدينة، أو على الأصح، لؤم بناتها الذي يجعلهن أكثر إغراء. ربما) راقبها منذ أن سكن هذا البيت. أبدى إعجابه بها منذ اللحظة الأولى، قرّر أن يدير معها حواراً صامتاً عبر النافذة، لعلها تستجيب له. ترصّدها في الشارع، تعقّبها عدة مرات وهي تتأوّد مثل سمكة، كم اشتهاها قلبه وكم تعلق بها! سألته عزيزة ذات مساء: متى تتزوج؟ قال: لا أدري، لكنني لن أتزوج إلا فتاة من المدينة. (ربما جذبته قراءة الروايات إلى ذلك) قالت عزيزة وقتها: يقطع المدينة ويقطع بناتها، أي هن بنات المدينة بتّاخذن!
رفع يده إلى شعر رأسه بحركة مقصودة مثلما يفعل مراهق ساذج. كانت الفتاة تطلّ من الشرفة، تمسح بعينيها البيوت المجاورة دون تركيز على شيء محدد. حينما رأته يرفع يده، تراجعت وهي تشيح بوجهها عنه، أطفأت نور الشرفة، أسدلت ستارة النافذة. (لم يخطر بباله أنها لم تُعجب به منذ اللحظة الأولى، لم يعرف إلا بعد وقت، أنها أسقطته من حسابها مرة واحدة وإلى الأبد.)
ارتدّ إلى جوف الغرفة، تمشى من ركن إلى آخر. سمع صوت ابنة الجيران ينبعث من مدخل البيت، إنها ترفع صوتها على نحو مقصود لعله يخرج إليها. ابنة الجيران لا تروقه بالرغم من طيبة قلبها المفرطة حد الهبل، لها شعر كثيف على ساقيها لا تتلطّف بنـزعه مثلما تفعل النساء، ولها شعر على خديها تحلقه بموسى الحلاقة الخاص بأبيها، يترك الموسى على خديها جراحاً لا تفلح المساحيق في إخفائها، وهو يلاحظ ذلك بكل وضوح.
غاب صوتها بعد عدة محاولات، شعر بأن همّاً انـزاح عن صدره، سمع طرقات خافتة على الباب، تردّد لحظة ثم فتح الباب، إنه بهجت وبالقرب منه زوجته التي جاءت معه، كما يبدو، للتمويه على رجال المباحث، وللإيحاء بأنهما ذاهبان إلى سهرة عائلية. دخلا الغرفة، جلسا على كرسيين من خشب حائل اللون، جلس على حافّة السرير، ظل بهجت صامتاً بعض الوقت.
_ أهلاً وسهلاً.
ظلت الزوجة صامتة كأن هذه الزيارة لا تروقها، أو لعلّها لا تريد أن تثير أعصاب زوجها بتدخّلها في كل أمر من أموره. قال بهجت:
_ تبدو مرهقاً. هل يؤلمك شيء؟
_ لا، لكنني منـزعج مما حدث أثناء المباراة.
_ إنه أمر متوقّع في مثل هذه الظروف التي نحياها. نحن، كما تعرف، مقموعون.
خمَّن السبب الذي دفع بهجت إلى زيارته. بهجت لم يطل الانتظار، أخرج من جيبه عدداً من المنشورات السرية، ثم بلّغه بالموافقة على قبوله عضواً في الحزب، وحدّد له موعداً لأول اجتماع. ابتهج حاتم لهذا الأمر وفي الوقت نفسه خاف.
في طريقه إلى الاجتماع، رآه معاوية وهو يقف بباب أحد المتاجر:
_ تعال، أدخل، سأعرّفك على صاحب المتجر، كان معنا في الحزب ذات مرة. (معاوية كان في الحزب كذلك، ثم انسحب منه خوفاً من الاعتقال.)
_ أرجوك، ليس لدي وقت.
_ كأنك ذاهب إلى موعد مع امرأة.
_ أنت راغب في المزاح، وأنا مستعجل.
_ اسمع، عرفت بما جرى أثناء المباراة، سأقول لك شيئاً لا أحبّذ قوله لجمهور الناخبين: سبب هذا الاحتقان، يعود إلى غياب النساء.
_ تخشى أن تثير عليك ضجة لها أوّل وليس لها آخر.
أطلق ضحكة خافتة، مضى حاتم إلى اجتماعه الحزبي الأول. في مقهى الأريزونا كان الاجتماع.
اجتماع في يوم المطر
مطر رام الله ينـزل مدراراً، يغسل الشوارع والطرقات والأشجار وأسطح القرميد.
تلوذ الفتيات بالشرفات، يتلذّذن بالوقوف خلف الزجاج وهن يراقبن المارّة يتراكضون تحت المطر، تتابع ابنة الجيران حاتماً بعينين حانيتين وهو يغادر البيت، تقفل المقاهي أبوابها الزجاجية، يشعر روّادها بدفء تخالطه ذكريات حزينة.
يضطرّ عدلي خضر إلى الاحتماء من المطر بالدخول إلى مكتب شركة الحافلات، يتابع من خلال الزجاج المبلل، حركة الشارع الرتيبة، يغفو لحظات على أصوات إطارات السيارات، وهي تعبر تجمعات المياه، ثم ترشقها على الأرصفة. يمرّ حاتم مسرعاً، ينتفض عدلي خضر واقفاً، يفتح الباب الزجاجي، يفكر بالخروج لكي يتعقبه، يدفعه المطر المتساقط بغزارة إلى التقاعس، يجلس فوق المقعد الخشبي من جديد، يحلم بزمن غابر، أيام كان طفلاً يركض تحت المطر.
ينعطف حاتم نحو سينما الجميل. ينتظره معتصم (رفيقه الذي التقاه في مقهى الأريزونا قبل أيام) أمام مدخل السينما، يراه قادماً من بعيد، يسير أمامه في شارع فرعي ناحية اليسار، يمضى حاتم خلفه، يتبعه في درب ضيق يحاذي بضع بنايات تقف متعامدة مع الشارع، ليس في الشارع سوى عدد قليل من الناس، ربما بسبب المطر.
يشعر حاتم بشيء من الارتباك، يقترب من معتصم، يدخلان ممراً معتماً يفضي إلى شقة في الطابق الأول من إحدى البنايات، يعلّق حاتم مدارياً ارتباكه:
_ إنها شقّة حصينة.
يضحك معتصم وهو يقدمه إلى ثلاثة رفاق اتخذت ملامح وجوههم طابع الجدّ واليقظة، (كأنهم على وشك أن يغيّروا العالم) يرحب الجميع برفيقهم الجديد. يبدأ الاجتماع.
يبدأ الأسى
أصبح للحياة مذاق آخر. (طبعاً، هذا متوقع) عزيزة وحدها ظلت حلماً ناقصاً في حياته، حاول نسيانها بالتوقف طويلاً خلف نافذة غرفته، (هي في نهاية المطاف امرأة قروية بسيطة، لم تفكر يوماً أن ترشّ العطر على خديها أو تحت حمّالة صدرها) يرقب الفتاة الرشيقة وهي تتنقل كالعادة، بين غرفة نومها وشرفة البيت. واصلت الفتاة تجاهله، لم تعره أي اهتمام. سمع ذات مساء، غناء ينبعث من بيتها، غرف البيت كلها مضاءة على نحو لافت للانتباه. جاءت نساء الحي يرتدين الأثواب الطويلة المطرزة، وعلى خصورهن أحزمة عريضة من قماش ملوّن. جاءت الفتيات الشابات بملابس عصرية تكشف عن نحورهن وسيقانهن.
اعتراه فضول كاسح، خرج من غرفته، تمنى ألا تعترضه ابنة الجيران، مساء أمس رآها تكشف عن فخذيها، هالته دوائر اللحم المتجمّعة عند أعلى الفخذين، لم يغب عنه ما فيهما من أنوثة وشبق، لكنه تذكّر موسى الحلاقة فانهدّ حيله في الحال، أنـزلت فستانها بسرعة كما لو أنها فوجئت به وهو يقترب منها، سارع إلى الاختفاء داخل غرفته. أسعفه حسن الحظ حين لم يجدها هذا المساء عند مدخل البيت. تمشى في الشارع المحاذي لبيت الفتاة، رأى أطفالاً يلعبون، سأل أحدهم:
_ ما الذي يجري هنا؟
_ عرس، إنه عرس رندة.
_ من العريس؟
_ ابن خالها، جاء من أمريكا، سيأخذها معه.
رندة! اسمها رندة، ستترك هذه المدينة، هل هذا معقول؟ (لم تنجذب إليه بالرغم من محاولاته العديدة التي بذلها من أجل ذلك) شعر بالأسى، أدرك أنه سيظل قروياً بائساً في هذه المدينة، وإلا لما أعرضت عنه تلك الفتاة، مضى في الشوارع على غير هدى. قابله عدلي خضر قرب دوار المنارة، لم يأبه له، بل إنه تمنى أن يتعقّبه.
اتجه إلى شارع الإذاعة. بدا معذّباً، هل كان يجب أن تنتهي العلاقة بينه وبين عزيزة إلى ما انتهت إليه؟ ظلت أسابيع طويلة تناديه من شباك بيتها. حينما لم يستجب لندائها، (لم يستجب بسبب الخوف وقلة التجربة) صارت تمر من تحت نافذته متذرّعة بشتى الذرائع، تناغيه بكلام خجول في أول الأمر. صارت فيما بعد أكثر جرأة في الكلام معه، قالت إن قلبها مال إليه منذ أن رأته يدخل القرية، قالت إنها متلهّفة لأن يعلّمها القراءة والكتابة، لكي تكتب اسمها إلى جوار اسمه، قالت إنها تحب أن تضع رأسها على صدره، كي تغفو قليلاً هناك.
ألقى نظرة خاطفة إلى الوراء، رآه يتابعه من بعيد. شعر برغبة ملحّة في المناكفة، انحدر نحو شارع ضيق لا إنارة فيه، إنه يتبعه كظله، ليفعل ما يحلو له، حاتم يشعر الآن أنه جريء. افتقر إلى الجرأة في علاقته بعزيزة، خشي الفضيحة باستمرار. عزيزة لم تخش شيئاً، أثارت مخاوفه وهي تنجذب إليه دون حذر. يشعر بين الحين والآخر بألم غامض في أعماقه، يقرّر قطع علاقته بها، يتراجع عن قراره تحت إلحاحها، تعود الأمور بينهما إلى سابق عهدها، لا يدريان إلى أين يمضيان.
دعته إلى بيتها ذات مساء. راحت تتعرّى، وهو يرنو إلى جسدها الوافر الذي يتبدّى من تحت ثوب ريفي مطرّز. سمعا دقات خافتة على الباب، أجفل وأجفلت، أصغيا لحظات، عادت الدقات تصكّ الباب:
_ عزيزة!
_ يا كشلي هذا هو، قال بدي أغيب أسبوع، ما غاب إلا ساعات!
ارتدت ثوبها بعجلة وارتباك. فتحت الباب، لم تجد أحداً. ظهر زوجها بعد لحظات قادماً من خلف البيت، رأى الشباك المفتوح. أطلّ منه نحو الخارج، لم ير عبر الظلمة أحداً. بحث في ركن البيت عن حبل، مزّق ثوبها بضراوة، لفّ الحبل على ساقيها وذراعيها وأوثقها إلى السرير.
أشعل بابور الكاز. انتزع المنجل عن الحائط، وضعه فوق اللهب. راح يلمس بيده بطنها وأعلى فخذيها، بدا كأنه يعاين جسدها للمرة الأولى في حياته. بعد دقائق، صرخت المرأة صراخاً مروّعاً. فتح الجيران نوافذ بيوتهم يستطلعون ما يجري.
ضاعف من سرعته دون وعي منه، انعطف نحو حي “بطن الهوا”، اجتاز الشارع، صعد ناحية اليسار، مضى في اتجاه المقر الرئيسي لشركة الحافلات. اقترب من سينما دنيا، تجاوز مقهى الأريزونا، دخل المنعطف الذي يؤدي إلى البيت. (آه، القصة. سأجعل لها نهاية أخرى. ماذا لو جاءت على النحو التالي: تأمل جسدها المستكين، اندلعت في أعماقه مشاعر متضاربة، مشاعر حب وشفقة وعطف واشتهاء، فكّ الحبل عن جسدها، التحم بها باندفاع محموم ثم بكى بانكسار) قبل أن يهمّ بدخول البيت، توقف لحظة، رآه يقف عند المنعطف، وقد مالت رقبته نحو اليمين.
يمين المرأة
يصحو من نومه، أو لعله يحلم بأنه يصحو من نومه.
ثمة دقّات متواصلة على الباب، يغمره خوف مفاجئ. منذ أيام والمدينة تعمّها التظاهرات، (الميكانيكي شارك في إحداها، ظن أن الأمر شبيه بمباراة في كرة القدم، خلع قميصه، رقص أمام الجنود، اخترقت صدره ثلاث رصاصات) ثمة احتجاجات على سياسة الحكومة، قرى الحدود مكشوفة أمام هجمات الأعداء، ثمة حملة اعتقالات. قبل يومين تسلل مع الغروب إلى شقة معتصم لحضور اجتماع متّفق عليه منذ أسبوعين. اجتاحته الرهبة وهو يقترب من الشقة، نوافذها مغلقة ولا أحد هناك. عاد أدراجه مرتبكاً، شوارع المدينة تكاد تخلو من المارة، مصفّحات الجيش تربض في الساحات، بعد قليل يبدأ حظر التجوال.
دقّات رتيبة متواصلة. هل هي ابنة الجيران؟ ينهض من فراشه أو كأنه يحلم بأنه ينهض من فراشه، يمدّ يده نحو الباب، فلا ينفتح، يسمع صوت امرأة، إنه صوت عزيزة. ينفتح الباب، إنها واقفة بالباب، آتية إليه في الصباح المبكر بكل أنوثتها المتلهّفة. تخطو نحوه خطوتين، يضمّها إلى صدره: آه، أريني، بالله عليك، جسدك لأعاين ما حلّ به من تشوّهات. ما الذي تقوله؟ جسدي لم يشوهه أحد، أحلف يميناً بالله، لم يشوّهه أحد. هل نسيتِ تلك الليلة؟ ألم يقم زوجك بذلك بعد أن قفزتُ من الشباك؟ أنت لم تقفز من الشباك، زوجي لم يفعل شيئاً لا أشتهيه. كيف أصدق ما تقولين؟ ما زلتُ أتعذّبُ حتى الآن بسبب ما وقع لكِ. أنتَ تعذّبُ نفسك بسبب القصة التي كتبتها، منذ قرأتها لي وأنا غير راضية عنها. قلتُ لك مزّقها، لم تسمع كلامي. قلتُ لكِ لن أمزّقها، كتبتُ لها نهاية ثانية. لا تهمّني النهاية الأولى ولا الثانية، الآن سأجعلكَ تطمئن، سأريحكَ من هذا العذاب.
تنفلت من بين ذراعيه، تتجه نحو السرير، تنضو عنها ثيابها بتمهّل وتلذّذ، يمدّ يده اليسرى نحو الباب لكي يغلقه، فلا ينغلق الباب، يتجه نحو السرير فإذا ابنة الجيران مستلقية بكامل عريها هناك.
____
*روائي وقاص فلسطيني
من مجموعته القصصية “صورة شاكيرا”/ المؤسسة العربية للدراسات والنشر/ 2003