اِسألوا الرمل وشجرة المرّ/ ألان بوسكيه

*الترجمة عن الفرنسية نجيب مبارك

أنا أعيش، أنا أغشّ

لا أريدُ أصدقاء: لديّ فقط زبائن

وبعض المُورّدين.

أكره الكُتَّاب وأنا أبتسم.

ليس لدي توأمُ روحٍ سوى العاهرة

التي تعبر بشكل غير متوقّع،

المتشرّدُ الذي يكرّر الكلمات نفسها

وهو ليس جميلاً ولا حزيناً.

أحبُّ الإنسان الأمّي

حين يصرُّ على تمزيق آخر أشعاري.

أريدُ أن أكون ملعوناً من طرف معاصريّ:

لقد حوّلوا الكون إلى مزبلة ومكبّ نفايات

وحتّى الزنابق صارت مدنّسة.

أيّتها الضعيفات، يا بنات عمّي، يا أخي التّعس،

من جرَحني؟

إلى أين أنا ذاهب؟

يجب أن أُقتل.

حياتي مظلمةٌ ولا أستطيع الانتقام،

قصديتي خيبةُ أمل:

إنها ترغبُ في كلام بلا خطر

ترغب في ثوب نبيل أحياناً

يكسو في الليل

أشباهي الملغومين بالمهزلة.

يكفي!

النّار يجب أن ترثَ زمنَ الخرافات.

ما دمتُ أعيش، فأنا أغشّ.

حالة مدنية

سألوني أين وُلدت.

أجبت:

“في المكان الذي يشير إليه الرّمل

وشجرة المُرّ”.

سألوني عن والديّ.

أجبت:

“شجرة السِكويا، النجمة الخضراء”.

سألوني أين درَست.

أجبت:

“على الجُرف، في النهر:

المعرفة هناك لطيفة وقاسية”.

سألوني هل أكسب قوت يومي بشرف.

أجبتُ:

“مثل الإعصار،

مثل نسر فوق جبين طفل”.

سألوني هل أستحقّ الاحترام.

أجبت:

“ليس بقدر الموسيقى

التي تذهبُ من فمٍ إلى فم”.

سألوني هل أُفكّر في الموت.

أجبت:

“اسألوا عنّي الرّمل

وشجرة المُرّ”.

النسيان

أنسى جِلدي.

أنسى جسدي.

أنسى هيكلي العظميّ المائل.

أنسى القَرن والديكور،

النهار الرمادي والليالي البيضاء.

أنسى الحق والواجب،

الفرد والجمهورية،

الشارع والضاحية،

أنسى كمائن الموسيقى.

أنسى الخبز.

أنسى الحبّ.

أنسى أختي، المرأة السعيدة،

والطريق في الغابة.

أنسى  كبريائي الذي يحفرني

وعطشي الواقف أمام نافورة مجنونة.

أنسى حقيقتي الحزينة

المُطيعة لكلامي.

أنسى أنّي لم أكن

في مستوى وَرطاتي.

لا أتذكّر، من وراء عينيّ

ومن قلب العدم،

سوى هذه القصيدة

هذا المُطلق

هذه الصّرخة إلى الله.

أنا لا شيء

أنا لا شيء:

قليلٌ من كبرياء بين رَمادين.

أنا لا شيء:

فاصلةٌ في مقال نُشر عام 1892 تقريباً،

خلال الحرب، لا أعرف في أيّ صحيفة.

أنا لا شيء:

فاكهةٌ نائمةٌ في خزانة

وهي تتعفّن من دون شكوى.

أنا لا شيء:

ذبابةٌ بلا جناحين تحطّ وتطير

فوق غطاء مائدة متّسخ.

أنا لا شيء:

بسبب تكرار هذا القول،

بيني وبين نفسي

مثل نهرِ  دمٍ ثائر،

تنفجر وتنهار

سكينتي الزائفة.

يوم عادي

أنا رجل أشيَب

أتخلّص كلَّ صباح من أحلامي

التي تجري فيها الزواحف آكلةُ النار.

أُلقي التّحية على زوجتي، وكأنّي أقول:

“لا أتذكّر أبداً مداعباتنا”.

أراقب وزني، أحلقُ ذقني،

أُلاكمُ أكياس رملٍ تحت عينيّ،

أشرب فنجان شايٍ عارياً تماماً:

خُمولي يستحقّ قهقهتي المتشكّكة.

أرمي بريدي في سلّة قمامة.

أُركّب رقماً في الهاتف

ولا أعرفُ بمن أتّصل:

” عذراً سيّدتي:

لقد علمتُ من مصادر موثوقة

أنّك ستموتين غداً”.

أنفضُ الغبار عن قطعة أثاث

وأبصقُ على أشعاري

من دون أن يراني أحد.

لو كان لديّ كناري

لنَتَفتُ ريشَهُ.

 

أربع لحظات

“هناك ثلاث لحظات في الوجود هي: تردّدٌ، تردّد، ثمّ موتٌ في النهاية”، يقول روائي من أوروغواي، حسب ما أ ظنّ.

أنا فكّرتُ في الأمر، وبدا لي أنّها أربع لحظات: احتضارٌ، احتضار، موتٌ ثمّ رفضٌ للوجود. هل يبدو هذا المبدأ القدري ماكراً جداً؟ إنّ التناقض هو أن تتعرّف على اليقين وعلى الشكوك المتداخلة. الاحتضار، في ما أزعم، هو فديةُ الوعي ولا يمكن استقصاؤه داخل الروح أو في الزمن.

الاحتضار الثّاني هو حقيقة: طميٌ ثقيل، رملُ الصوان، مرمرٌ وطرفُ نجمةٍ تعيش بعد الإنسان، هو الّذي لن يرِث سوى العدم، عدم بلا حجاب.

هو نفسه فزّاعة ونَتانة. يصير الموت إذن مثل قبلة عاشقٍ على جبين هادئ، بشفاه نقيّة جداً. هل نفهم من هذا المقطع أنّنا نولد من غفوتنا؟

إنّه واجب مطلقٌ في الجسد وفي الروح وببطء تستقرّ هذه الخطيئة: لا نقبل الولادة باسم التحوّل.

___
*ضفة ثالثة

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *