حلم فلوبير

خاص- ثقافات

في رسالة إلى عشيقته لويز كوليه في 16 كانون الثاني 1852 علم أن فلوبير كان “يحلم بكتابة كتاب عن لا شيء. كتاب ليس له رباط خارجي، بل هو قائم بنفسه وبوساطة قوة أسلوبه الباطنية”. ربما فكر فلوبير حينذاك وهو الروائي المحترف، بكتاب أوسع من الرواية، كتاب لا يمكن بسهولة توصيف نوعه أو تحديد هويته، كتاب يتيح له مزج العناصر الأشد تنافرا ومروقا وكذا الأحاسيس المتطرفة للذات في سعيها لإذكاء تعابيرها وتخليق معرفة جديدة بالإنسان والوجود.

حتى من دون أن ينتبهوا إلى وجوده، التقط الروائيون والكتاب في العالم حلم فلوبير ذاك وأضافوا إليه الكثير في حقب زمنية عدة ما انفكت تتحول بسرعة ملحوظة تغير معها طموح الجماعات البشرية وآفاق منجزها الأدبي والمعرفي والجمالي. حتى بات من الصعب على قارئ اليوم وضع جردة محددة بأعمال إبداعية لامست كلية المصير الإنساني ونحتت مكانتها في ذاكرته متخطية مسطرة التجنيس والتقاليد الكتابية وسائر الحدود.

وما أن نتناسى لحين حلم فلوبير في سيل كتابي لا يعرف الثبات، سنرى أن الرواية إلى يومنا هذا لم تستنفد نفسها، بل إنها لم تعترف بدعاوى التخلي عن موقعها لأجناس وفنون أخرى، مدعية -بجدارة نماذجها-  أنها ما زالت قادرة على استيعاب متغيرات العصر أيا كانت، بقدرتها على التعبير والإبداع المتواصل وإن بصيغ يعتبرها البعض دروبا مستهلكة.

وهذه السينما أكبر فنون العصر والغريم المخلص للرواية  نراها تلون وتعزز شراكتها مع الفن الروائي بما يشبه السحر المستدام. لكن لماذا نتذكر الآن حلم فلوبير؟

مع ديمومة زلزال الحياة العراقية، بلحظاتها الشاردة والمقلقة والمحزنة، لن يكون بوسعنا إنكار رغبة جلية تعصف بنا ككتاب غير مرة لتدوين الواقعة هذه أو لملمتها من جميع  أطرافها. محاولة جماعية لكتابة قاموس شامل أو تدشين ذاكرة جديدة عن معاني الأبجدية البشرية الأولى خشية نسيانها إلى الأبد : الألم، السعادة، الأخوة، العائلة،التسامح، السلام، الابتكار، الديمومة، الحياة…

ربما سيعرف احدهم حينها معنى التاريخ الفاجع لقصائد الدم العراقي المسفوح تحت وفرة الشجر ذاته الذي تفيأ المغنون به يوما ما وتمايلت على أنغامه عصافير موسيقاهم. حينها سيهمنا تسطير رؤيتنا عن خراب الحاضر ومخاوفه، عن المستقبل والحلم، بين دفتي كتاب مشفوع بقلب كبير يتخطى اأخاخ الخيبات المريرة التي تنتظرنا على الطرف الآخر لتصف الإنجاز الإنساني بالعمل اللامجدي وغير الحكيم فيما لو تمنى مؤلفوه وعظ الأجيال القادمة بآيات شعرية عن قداسة الإنسان والأرض.

هل يلزمنا كتاب كهذا للتنفيس قليلا عن ذنوب تشبه فيما تشبه جنون التواطؤ المريع مع الجناة، خصوم الوردة؟

إن كتابا كهذا قد يكون رواية يسيرة، لكن حاذقة، تنبؤية، خرافة نبوية تترك صاحبها فريسة أشباح العزلة والموت وقد تعده بخلود مجيد.

ومن دون الجنون الحالي الذي ينسج حياتنا ويتربص بها في كل زاوية لن يتأتى للمبدعين تحصيل الشغف اللازم للخلق السردي ولا فرصة الوقوف المكين على التعقيد الكامل للحياة لغاية رسمها خلاصة بشرية في أثر خالد.

أيمكننا تخيله كتابا مقدسا بحكمة أبدية تتحدث عن شعب صنع أولى الحضارات في هذا العالم وعلم البشرية معنى الوجود،وقدر له بعد صبر طويل، ان ينهض بولادة جديدة من عصارة الماء والشجر ، وكان قد عجز في زمنه العصيب عن التفريق بين الدم والوردة.

______
*كاتب عراقي

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *