الأزمة


*عباس بيضون


أزمة الصحافة التي تشمل الصحافة كلها تكاد تكون صامتة، إذ ان الضجة التي تتصاعد حولها هي أقرب إلى ان تكون خرساء. انها تنكسر في الضجيج العام ولا ترتفع الا لتعود فتتبدد بدون أن يتردد صداها أو يبقى لها، على الأقل هذا الصدى. أزمة الصحافة قد تكون انذاراً لمن لا يتصورون لبنان بدون صحف، وقد تكون نذيراً لمن يتوقعون الأسوأ، لكن من العبث أن ننتظر أن تسفر هذه الضجة عن جواب أو حل. كثيرون لا يفعلون سوى انتظار أن تتوسع الفضيحة وان تنكشف خباياها، كثيرون ينتظرون ان يتداعى البلد وتتداعى معه أركانه ومقوماته. فقد بني بالنسبة لكثيرين على خطأ بل على أخطاء وها قد آن الأوان لترتد أخطاؤه عليه، بل آن الأوان ليغرق في مساوئه، وليس الصراخ في محله ولا التحسر فما نراه هو ثمرة ما صنعناه بأيدينا وما تركناه ينمو ويكبر.
كثيرون يفكرون عن حق بأن الصحافة تحصد الآن ما زرعته منذ تأسيسها وتكوّنها. لقد كانت منذ ذلك الحين على مثال لبنان تنقسم بانقساماته وتتأثر بما يتأثر به، بل كان لها نفس انقياده للخارج أو انقياداته للخارج ولكل خارجه وكل بحسب خارجه. وبالطبع فإن هذا الارتهان يشمل فيما يشمل التمويل والدعاوة والخط. لا بد أن كثيرين رأوا أن الصحافة فيما أصابها الآن تلقى جزاءها عليها وحدها. كثيرون يجدون في هذه المحاكمة قدراً من الصواب وربما يجدون فيها شيئاً من تأنيب النفس وافتضاحها وهذا بالنسبة لهم نصاب الحقيقة وعينها. الحقيقة وان أوجعت لا مرد عنها، من الأفضل ان نعرفها وان نقف عندها وان نتحمل آلامها فهذا خير من غش النفس ومواربتها، وهذا أجدى من الخلط والتمويه.
المسألة اذن بهذه البساطة لكن الصحافة على مثال لبنان، هي مثله في انقساماتها وهي مثله في توزعه وتطيفه، ومثله في انكشافها للخارج وهي مثله في ارتباطاتها وانقياداتها وهي مثله في تمويلها ودعاوتها وخطوطها. الصحافة على مثال هذا البلد وعلى غراره، افنسلم، والبلد هكذا، بانتهاكه وتجويفه وارتهانه، افنسلم بالاعتداء عليه والعبث به، انسلم بانهياره وتداعيه إن علمنا حق العلم انه يتداعى من نفسه ومن أسسه ومن مقوماته، وان ما ينهار هو ما قام عليه وما بني فوقه. لا نكف عن استدعاء الخارج عند أي مسألة ولا نكف عن ان نرى الخارج في كل مسألة وليس اللبنانيون بالنسبة لكثيرين سوى أدوات، وليسوا بالنسبة لكثيرين سوى مرتزقة، ثم ان البلد أجزاء لا تلتقي على شيء ولا تجتمع على شيء ولكل منها ظهير أجنبي ترجع إليه وربما تقدمه على نفسها، او تقدمه على مصلحة البلد ان كانت له مصلحة. أفيعني ذلك رضانا بالأزمة بل وتوكيدنا عليها. هل يعني الاكتفاء بالعبرة والدرس اللذين يقولان ان ما جرى لنا صنعناه بأيدينا وأننا نستحقه وأنه جزاء عادل كما اقترفناه ونقترفه، وأذنبنا به ولا نزال نذنب. هل نرضى بهذه العدالة وهل نعينها على أنفسنا. أم ان هذا بلدنا أولاً وفيه مستقبلنا وحاضرنا ولسنا نبيعه بلحظة غضب ولحظة احتجاج وما أكثرها. هذا بلدنا ونعرفه ورغم كل شيء ومع كل شيء لا نبيعه بحكم أخلاقي مهما كان عادلاً وصحيحاً. نعرف خفاياه وخطاياه يمكننا أن نحملها على رؤوسنا، وبدون ان نتبناها أو نقرها، وبملء الغضب منها وعليها، نعرف ان لدينا ما نحبه ونحرص عليه في هذا البلد، وأننا لا نتركه فريسة لذابحيه ولا لغادريه.
هل نفكر مع ذلك بأن لانقسام البلد وتورعه صلة بتعدد اللغات فيه، هل نفكر بأن لهذا أيضاً صلة بنوع الحريات الشخصية التي يتمتع بها اللبناني، هل نجد ان هذه الصلة المرذولة بالخارج قد تكون وراء تميز ثقافي وتميز حضاري ينسب لبنان إليهما. هل نجد ان للانقسام الذي يسبب حروباً أهلية متلاحقة متواترة صلة بالديموقراطية اللبنانية التي لا تزال حتى بعد الربيع العربي الديموقراطية الوحيدة في دنيا العرب. لا أقول هذا لأبارك الانقسام وبالطبع المداخلات الخارجية ولكن لأقول ان هذا الوضع بكل ما فيه هو الذي أنتج هذا البلد الذي يستحق ان ندافع عنه ولأقول أن الالتباس هو وضعنا الطبيعي وأن إشكالية هذا الوضع هي حقيقته.
والصحافة، لنعد للصحافة وما زلنا على كل حال فيها، تلك الصحافة التي على مثال لبنان، التي نجد كل يوم من يعيب عليها انحيازاتها المحلية والخارجية الاضطرارية لأسباب أكثر من معروفة، أليست وحدها الصحافة الحرة في كل المحيط العربي، اذ استكثر البعض كلمة صحافة حرة عليها، أفليست وحدها الصحافة بمعناها الفعلي وهل تسمى صحافة تلك الصحف التي هي السنة أحزاب وطغم حاكمة في المنطقة. إذا كان الانقسام وربما الاعتماد على الخارج وفّرا لهذه الصحافة أن تكون متعددة وأن تكون عيناً نقدته ولو من زاوية واحدة، أو زوايا واحدة. وأن تعطي مثلاً على التصدي للسلطة وعلى تتبع مساوئها فتكون في محلها الحقيقي، محل المعارضة مهما كانت ميولها وانحيازاتها ثم أن هذه الصحافة أيا كان رأينا لعبت دوراً في تكوين النخب وفي الثقافة العامة، إذ اننا لا نستطيع أن نتخيل لبنان الاستقلال ولبنان المراحل الأولى بدون جريدة النهار، ولا نستطيع ان نتخيل لبنان ما بعد الـ67 وقيام اليسار الجديد بدون جريدة السفير.
لا معنى لأن نعتبر الأزمة الحالية بديهية وأن نردها فقط إلى نشأتها وجذورها، ان أزمة الصحافة فوق كونها جزءاً من أزمة البلد وربما أزمة المنطقة، هي أزمة تشير إلى انعدام دور النخب وتراجع الثقافة المشتركة. الأمر الذي يعني ان لبنان الذي كان في طريق الدولة والاندماج الاجتماعي قد ضاع كليا عن هذا الطريق وهو الآن في حال من التذرر والتداعي. ان فقدان الصحافة يعني توقف تجربة بناء تاريخ مشترك، بل بناء تاريخ أي تاريخ، كما نعني ان المشروع اللبناني، مشروع التعدد والتحديث والديموقراطية قد باء بالفشل.
_______
*السفير الثقافي

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *