حين وصل ليدلي بصوته، كان الوقت بعد الظهيرة. لم يكن يملك ذراعين، معطفه الأسود بكمين فارغين يتدليان مثل أذنين غير منتصبين لكلب صيد. لم يكن برفقته أحد. لما شاهده رئيس مكتب التصويت ومعاونوه، رقّوا لحاله، أثنوا على الروح الوطنية التي دفعته للقيام بالواجب الوطني، في الوقت الذي يقاطع فيه أصحاب “الأذرع المكسورة” الانتخابات، يصفونها ظلما بالمزيفة والصورية وبالمفبركة.
همس أحدهم مشككا:
– لعله سارق مورس عليه الحد. الله أمر بقطع يد السارق. وتلا همسا الآية القرآنية: “وَالسارِق والسّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ “.
سمع صاحب الكُمّين الكلبيين حوارهما، فتجاهل مع التقطته أذناه.طلبوا منه أن يساعدوه، لكن مبتور الذراعين رفض بحزم. تبادل المشرفون على مكتب التصويت نظرات الاستغراب. نظرات كسرها الذي بلا ذراعين باقتراحه أن ترافقه إلى المخدع امرأة، حسناء شابة متوردة الوجنتين، رآها وصلت للتو من أجل التصويت. وافقت المرأة ولم يعترض المسؤولون.
ابتسم رئيس المكتب وهو ينظر لمبتور الذراعين، نطقت المرأة:
– أنا أعرفه، أعرفه جيدا.. هو من الوجوه المعروفة بدائرتنا، إنه من ضحايا الحرب.
قاطعها الرئيس الأشيب الفودين ناهرا:
– يكفى.. كفى.. تفضلي سيدتي معه إلى المخدع وانْهِ سريعا الموضوع …
قطّب مبتور الذراعين حاجبيه، وتبع جارته الحسناء تشد بأحد كميه غير المنتصبين.
مر وقت، أكثر مما يتطلبه التأشير على رمز مرشح على ورقة انتخاب. ثم خرج مبتور الذراعين يمسك ورقة الاقتراع بفمه، عاضّا عليها بقواطعه الأمامية. وقف أمام المشرفين على عملية التصويت، ثم انحنى ووضع رأسه على فتحة الصندوق مسقطا ورقته في الداخل بلا عناء، أمام دهشة الجميع. رسم على وجهه ابتسامة غامضة، فيها الكثير من البلاهة، والقليل من الانتقام. سألوه عن المرأة التي رافقته إلى المخدع لمساعدته، فأنكر إن كان برفقته أحد، وباعتزاز بالنفس مبالغ فيه وتبجح كبير صاح فيهم:
– أنا في غنى عن عطف وإشفاق أي بشر، باستطاعتي أن آتي بما لا يستطيعه منكم أسوياء الأجسام….
وزع نظرات حانقة على الأعين التي التقت بعينيه، ثم صاح:
– وأراهنكم.. من يراهن…؟
اتجه أحد معاوني الرئيس باحثا عن المرأة الشابة داخل المخدع فلم يجدها، عوضها فوجئ بذراعين مبتورتين، وكانتا لامرأة. تراجع المعاون إلى الخلف مذعورا، لكن الذراعين تبعتاه وشدتا بخناقه، ثم انتقلتا إلى الآخرين، بدأ وقع الصفعات ينهال على كل من بمكتب التصويت. وباقي المكاتب المجاورة. تعالت ضحكات الناخب الكلبي الكمين، قبل أن يغيب ويختفي في صدى قهقهاته. سادت حالة استنفار قصوى من أجل توقيف الذراعين المرعبتين. ذكرت الأخبار أن عدد الضحايا الذين نالوا نصيبهم من الصفع في ارتفاع، وأن أذرعا كثيرة مبتورة انتشرت في مدن وقرى وأطراف البلاد. وأن الحكومة أصدرت قرارا رسميا، اتقاء للشر المستطير الذي حل بالبلد، يقضي بضرورة أن يرتدي موظفوها الكبار أقنعة واقية تقيهم حر الصفعات. ووعدت أيضا بتعميم القرار مستقبلا على باقي الموظفين الصغار.
خرجت الجماهير الغفيرة للتظاهر والاحتجاج، فأطل عليهم وزير الداخلية بخبر أن ناقلات بحرية تقترب من موانئ البلاد محملة بما يكفي من الأقنعة الواقية المستوردة. ثم انطلقت حملة تفتيش واسعة من أجل إلقاء القبض على الناخب ذي الذراعين المبتورتين وجارته الشابة التي تركت ذراعيها بمخدع التصويت. سيق إلى المخافر العديد من مبتوري الأكف والأذرع والأصابع. لكن كل موقوف كان يستعيد أطرافه أو أصابعه بعد الاعتقال، مما جعل نزلاء المستشفيات يهجمون على مخافر الشرطة بهدف العلاج، وانتشرت الأقاويل التي تؤكد أن أفراد بوليس الوطن من أولياء الله الصالحين، يداوون العرج والعمى والبرص وارتفاع الضغط وداء السكري وكل الأمراض المزمنة بواسطة الجلد والتعذيب. هكذا اتجهت الحكومة إلى تحويل المستشفيات إلى مخافر ومعتقلات، فعاد الهاربون منها إلى أسِرَّتهم فرحين.
بعد أيام، ذات مساء دافئ، ظهر على شاشة القناة التلفزيونية الرسمية، الناخب ذو الكمين الفارغين ومعه صاحبته التي تركت ذراعيها في مخدع التصويت، كانا يقرأن نشرة الثامنة.
قالت المذيعة أن نسبة التصويت والمشاركة في الانتخابات سجلت ارتفاعا مذهلا هذه المرة، وصلت النسبة إلى تسعة وتسعين في المائة، ولم يتغيب سوى من لم يجد وسيلة نقل، أو أنسته مشكلة ما أن يحضر لاختيار مرشحه، أو نظرا لوفاته يوم الاقتراع، أو بسبب وقوعه تحت تضليل المتطرفين الذين يدعون دائما عند كل استحقاق انتخابي إلى المقاطعة. وهؤلاء جميعهم لم يتعدوا نسبة صفر فاصلة صفر في المائة، وهي نسبة غير مؤثرة إطلاقا كما هو واضح.
وقال المذيع إن صناديق الاقتراع كانت مليئة بالأذرع المبتورة بدل الأوراق، وأن الفرز قائم من أجل الإعلان عن الأذرع الفائزة.
وظهر محللون يتبارزون حول تحليل سير الانتخابات.
قال الأول:
– إن الانتخابات مرت في ظروف جيدة.
ورد عليه آخر:
– بل قل جد جيدة.
أما الثالث، ذو الأذنان المنتصبان، فقد انتفض أمام الشاشة ضاغطا على مخارج الحروف، وقال:
– أما أنا.. وأنا أعرف من أنا.. فمن جانبي فلا يسعني إلا التأكيد على القول إنها كانت انتخابات جد جد جد جد جد جيدة.. بل وأكثر. وتبقى اللغة عاجزة عن التوصيف، لذلك اسمحوا لي استعمال التعبير الشعبي الشائع: “فوق السلك”.
أمسك بأذنيه الكبيرتين كبهلوان يسعى لإضحاك الصغار، وعاد مقهقها:
– بل ” فوق الشواية”…
عند منتصف الليل تم الشروع في إعطاء النتائج الأولية.
تقدم واضح لحزب “الذراع المشلولة”. يليه حزب “الذراع المبتورة”، ثم في نفس الرتبة حزب “الذراع القصيرة”، وحزب “الذراع الموشومة”. ولم يفز حزب “الذراع الطويلة” سوى بمقعد واحد، في حين فشل تحالف أحزاب “الوجوه المصفوعة” في الوصول إلى البرلمان.
ثم ساد ظلام أسود غطى الشاشة، تلاه بعدها سماع أصوات أهازيج وهتافات حماسية. سارع المواطنون إلى النوافذ لاستطلاع الأمر، كانت مسيرة احتجاج ضد النتائج الانتخابية. مسيرة دعت إليها حركة “الأنوف المجدوعة”، بشعارات متمردة وبنشيدها الرسمي “حُكْ لي نيفي”.
وما هي إلا لحظات حتى تم تفريق المسيرة التي هاجمتها حشرات غريبة وفرقتها بلسعات مؤذية.
عمّ الرعب والفزع كل أنحاء البلاد.
هكذا وقع القضاء على أحزاب الأذرع المختلفة. وتم التمهيد لنشأة وسيطرة أحزاب الناموس والدبور والنحل والنمل. بعد سقوط العديد من الضحايا خلال سنوات ستعرف ب”سنوات القرص واللدغ”، تآلف الناس مع كل أشكال اللسع والعض، بما فيها اللسع والعض القاتل. وتحولت صناديق الاقتراع إلى توابيت، توابيت تتجند الحكومة إلى ملئها عند كل موسم انتخابي بالجثث المقروصة بكل شفافية وديمقراطية نزيهة.
لما شاهد الراوي تهافت الناخبين على مكاتب التصويت، قرر أن لا يتأخر هو الآخر، قال مخاطبا نفسه:
لمَ لا أشارك أنا أيضا في عملية البناء الديمقراطي، وأساهم بدوري في حلقات المسلسل الديمقراطي؟
حين وصل ليدلي بصوته، كان الوقت بعد الظهيرة. لم يكن يملك رأسا، طربوشه الأسود بيده اليمنى. لم يكن برفقته أحد. لما شاهده رئيس مكتب التصويت ومعاونوه، رقّوا لحاله، أثنوا على الروح الوطنية التي دفعته للقيام بالواجب الوطني، في الوقت الذي يقاطع فيه أصحاب “الرؤوس الفارغة” الانتخابات، يصفونها ظلما بالمزيفة والصورية وبالمفبركة.