وحش المال.. أفلام الأزمة الاقتصادية مربحة أيضا

خاص- ثقافات

*أحمد ثامر جهاد

عُرض فيلم (Money Monster) إخراج جودي فوستر في مهرجان كان السينمائي بدورته الـ 69 خارج المسابقة. وحاز في أسبوع عرضه الافتتاحي على المركز الثالث في قائمة الأفلام التي حققت أعلى الإيرادات في دور السينما الأميركية. وبلغت عائداته الإجمالية قرابة 67 مليون دولار خلال ثلاثة أسابيع.  اعتبرته فوستر (في جعبتها نحو ثمانية أفلام) من أهم التجارب الإخراجية التي خاضتها. ويعد هذا الفيلم رابع لقاء سينمائي يجمع النجمين جورج كلوني وجوليا روبرتس.

***

يوما ما قال المسرحي الألماني برتولد بريخت: ماذا تساوي جريمة سرقة بنك أمام جريمة إنشائه؟ قد تُجلي هذه الإشارة العميقة شيئا من زيف قواعد الحياة في ظل نظام رأسمالي. ففي كل يوم تضعنا الحقائق الإخبارية التي تتناقلها وسائل الإعلام أمام تداعيات عالم مخادع بات أشد قسوة مما كان عليه قبل عقود. عالم استغلالي مُصمم بمهارة كدولاب عقاب،لا مكان فيه للمعترضين أو المخدوعين أو الحالمين، لكنه يتسع للمزيد من الفوضى والأفعال العدوانية الطائشة.

df-09428_r-h_2016

وليس كما في الماضي المشفوع بالحنين، في عصر السرعة تصبح أموالك التي تكدح طوال حياتك لجنيها مجرد أرقام في حواسيب ذكية، تنتقل بسرعة مهولة عبر شبكة الكترونية عملاقة تمثل الاستثمارات القارية لنظام مصرفي عالمي مرتبط بمصالح كبرى متداخلة. في النهاية ليست لديكم فكرة أين هي أموالكم الآن، ليس بعد اليوم.

هذا جزء من الترويج المراوغ الذي يتقنه لي جيتس (الممثل جورج كلوني) مقدم برنامج “وحش المال” الذي ينقل من قبلة المال في وول ستريت بنيويورك أخبار سوق الأسهم ورجالاته. إننا هنا أمام عرض تلفزيوني(استثماري) آخر يجاور عرض استثمار الأموال ذاته، في برنامج أمريكي شهير يتفنن صانعوه في جذب المشاهدين من كل مكان لوضع أسهمهم في جيوب المستثمرين بأريحية.

الفيلم الذي كتبه (جيمي ليندن وجيم كوف) عن قصة لـ (ألان ديفيور) وأخرجته الممثلة(جودي فوستر المتوجة بأوسكارين) يجمع الإثارة بالتشويق في صورة نمطية وسرد قابل للتنبؤ، ولا يخرج بشكل عام عن مسار الفيلم الأمريكي الذي سبق له أن عالج مرارا هذا النوع من القصص التي تعتمد أحداثا درامية مفاجئة تلهب عواطف الجمهور الذي يثيره وضع نجوم مشهورين موضع الخطر.

تبدأ الأحداث عقب انخفاض أسهم شركة رجل الأعمال (والت كامبي) وتكبدها خسارة مالية كبيرة تقدر بنحو 800 مليون دولار لأسباب لا تبدو واضحة في البداية. ما يردده شريط الأخبار عن هذه الواقعة سيدفع مستثمر صغير يدعى كايل بدويل (الممثل جاك اوكنيل) تعرض للإفلاس جراء تلك الخسارة، للقيام بفعل جنوني يتمثل بالتسلل إلى مبنى القناة التلفزيونية التي تعرض برنامج وحش المال، وأثناء ساعات البث الحي يقتحم كايل الأستوديو ويأخذ مقدم البرنامج(لي جيتس) رهينة تحت تهديد السلاح، مطالبا إياه بتعويض خسارته عبر إعلان زائف يرفع سعر أسهم الشركة قبل إغلاق جلسات التداول في بورصة “وول ستريت”.

كان جيتس بنبرته الساخرة يهون على أصحاب الأسهم الذي تكبدوا خسائر مالية بالإشارة المازحة: لقد تم ضرب مؤخراتكم وعليكم التوقف عن النواح والاستعداد لجولة نزال جديدة لأن الأسهم ستستعيد عافيتها ثانية.

MoneyMonster-2-630x390

حلول فردية

لم يكن أمام الشاب المحبط كايل الذي خسر كل أموال العائلة بسبب نصائح مقدم البرنامج، إلا الإقدام على بطولة فردية، تهديد مباشر للمتسببين بخسارته،في سابقة خطيرة سينقسم الجمهور بشأنها بين مؤيد ومعارض. وحينما يأخذ كايل الإعلامي المشهور لي جيتس رهينة ويلبسه سترة ملغمة بحزام ناسف، فإنه يسهم في تحويل أزمته الشخصية إلى قضية رأي عام يجري تضمينها دراميا في لحظة ذهول تلفزيونية هي مكمن الإثارة التي ستضع كادر البرنامج من مصورين وفنيين وعاملين في دائرة الخوف والترقب، لكن المشهد الذي يبدو كمزحة (نشاهده نحن بعلم تام لمجرياته) يمر على شاشات التلفاز دون أن يلحظ أحد شيئا. ربما ظن البعض أن العرض الخطير الذي يحصل الآن، هو مجرد فقرة أخرى مشوقة من ارتجالات المقدم لي جيتس المعروف بخروجه عن النص.

ما أن يمر وقت قصير حتى يكاد الأمر ينفلت تحت ضغط  تحركات رجال الأمن الذين يخططون لاقتحام المبنى بالقوة، لولا حنكة منتجة البرنامج(باتي فين-الممثلة جوليا روبرتس) التي تستشعر خطورة الموقف وتوجه ما تبقى من فريقها والجهات الحكومية التي تتابع الحدث، بضرورة التعامل بحذر مع كايل، ليس فقط لأنه يهدد بتفجير الحزام الناسف(نكتشف لاحقا أنه مزيف) إذا ما تم استفزازه، وإنما لاحتمال أن يكون على حق.

money-monster

وكما في أفلام سينمائية عدة حوصر أبطالها في أماكن محدودة ذات قوانين صارمة، مرغمين على مواجهة عالم منذور لسوء الفهم وعمى التجريم من قبيل(جون كيو، المدينة المجنونة، السقوط في الهاوية) يأمل (كايل) من الآخرين تفهم دوافعه، فيجد بعد حين بمساعدة (جيتس وباتي) من يسمع شكواه، فيحظى تدريجيا بلحظات تعقل تقربه من الثقة بخيارات مقنعة لاستعادة أمواله وفضح المتسببين بخسارته، وهو ما نكتشفه لاحقا بطريقة الاعتراف بالخطيئة،فمدير الشركة هو سبب الإفلاس جراء تورطه بمضاربات مشبوهة في جنوب أفريقيا.

في نهاية الأمر لا حيلة أمام الجميع، بمن فيهم رجال الشرطة إلا التعامل مع الحدث بواقعية لا تستهين بالنتائج المحتملة لمحاولة إطلاق نار في برنامج يبث على الهواء مباشرة ويحظى بعد هذه الحادثة الغريبة بمتابعة الملايين حول العالم. هنا بالتحديد تستثمر القناة التلفزيونية الحدث ذاته لصالح اتساع شعبيتها،فما تقدمه هنا بوصفها(تلفزيون الواقع) ليس تمثيلا وإنما واقعة محتملة لها مدلولاتها السياسية، مثلما يجوز -في إطار أوسع- النظر للحكاية بمجملها كخيال سينمائي تتواشج عناصره المونتاجية والصوتية والأدائية معا في خلق إيقاع فيلمي مشوق ينجح في إيصال رسالته. وكالعادة سرعان ما تتحول الذات إلى موضوع، ليجد البعض في شخصية كايل مسوغا لاعتباره إرهابيا أو بطلا، لكنه في نطاق مجتمع حداثي متشظ على نحو متزايد سيلتصق البطل بصورته الافتراضية التي يجري تنقيتها أو فلترتها من على شاشات العالم وبزوايا تصوير ورؤى مختلفة تعد-إذا جاز القول-كناية عن عصاب اؤلئك الذين يحالون السيطرة على المواقف المؤسية بأي ثمن.

images

ظلال الأزمة الاقتصادية سينمائيا

رغم إيقاعه المشوق وتطور شخصياته على المستوى الدرامي، إلا أن فيلم(وحش المال-2016) يشترك في موضوعته مع عشرات الأفلام الأمريكية التي تتوجه إلى انتقاد الأوضاع الصعبة التي خلفتها الأزمة الاقتصادية على واقع الحياة الأمريكية. وبدرجة أقل من الجدية والإقناع التي تتسم بها الأفلام الوثائقية التي عالجت مثل هذه القضايا، يوجه فيلم (Money Monster) الذي بلغت كلفة إنتاجه نحو 27مليون دولار، اللوم إلى أفراد فاسدين بعينهم، يتلاعبون بمصائر الناس من دون الاقتراب من نقد النظام المؤسسي أو تعرية ثغراته القانونية التي تتيح للأفراد النافذين النجاة من تبعات جرائمهم بحق الآخرين. ودوما سيؤثر الرأي العام في مسار هذه القضايا الشائكة ويدفع باتجاه محاسبة المتورطين في الفساد لثقة الأمريكيين بعدالة قوانينهم.

في العقد الأخير ثمة أفلام أمريكية عدة تحدثت عن الأزمة المالية وإفلاس البنوك وتدني أسواق البورصة،من بينها الوثائقي الشهير Collapse-2009)) للمخرج كريس سميث الذي تنبأ بالأزمة الأخيرة قبل وقوعها،وفيلم inside Job-2010)) الذي يسلط الضوء على فساد عالم المال وجشع رجالاته، الحاصل على أوسكار أفضل وثائقي. وفيلم المخرج اوليفر ستون ( Wall Street) بجزأيه، فضلا عن فيلم (The big short) الحاصل على اوسكار أفضل سيناريو في حفل هذا العام. ويمكن اعتبار فيلم المخرج الأمريكي المشاكس مايكل مور الموسوم (الرأسمالية:قصة حب- 2009) من بين أهم الأفلام التي قدمت تحليلا عقلانيا محرضا لفساد عالم المال وعلاقته بتصدير الأزمات الاقتصادية إلى حياة الناس، ناهيك عن نقد تدني مستوى الخدمات العامة والرعاية الصحية ولعبة تخادم المصالح بين المؤسسات الحكومية وأصحاب البنوك والاستثمارات القارية.

441

من المسلم به أن كل شئ في عالم اليوم بات سلعة براقة تسوق للمستهلكين،لتبدو حينا كأنها فرصة ثمينة يمكن أن تغير حياة المرء إلى الأبد ويتوجب اقتناصها فورا. أليس هذا ما يفعله لي جيتس في برنامجه الشهير بجو من المرح والسخرية المصطنعة يحول أخبار بورصة الأسهم إلى مادة للتسلية والإثارة؟ ومن وجهة نظر كايل فإن مقدم البرنامج الذي يشجع جمهوره على ركوب المغامرة والثقة بالحظ وبحلم المواطن الأمريكي في الثراء السريع،عليه يتحمل وزر نصائحه. ولكن لهذا المنطق نتيجة أخرى، إذا كان من الأفضل لأموالك أن تنتقل بسرعة البرق لتحقق لك أرباحا مرجوة غير متوقعة، فإنها في احتمالية قائمة، يمكن أن تضيع بلمح البصر وتضعك على قائمة الإفلاس من دون أن تعرف لماذا. أي أنها بعبارة أوضح:قد تنهي حياتك.

لكن هذه الخلاصة التي يمكن أن نسمعها في حديث المحليين والخبراء الاقتصاديين بلغة الأرقام والإحصائيات التي تبرهن على صحة حججهم لا تثير حماس المشاهدين، وحدها السينما قادرة على استثمار شعبيتها للفت الأنظار إلى قضايا راهنة تهم عامة الناس، وهو ما نجحت به جودي فوستر في “وحش المال” حينما اختارت العمل بواقعية على سيناريو الفيلم الذي استغرقت كتابته نحو ثلاث سنوات حتى يخرج بهذه الصورة.

في عالم المال ليس ثمة أخلاقيات تعلو على المصالح الخاصة حيث الثراء والنفوذ والسلطة المطلقة. إن المال في دورة مسالكه المتشعبة وحش له الغلبة، مثلما له الغواية والقدرة على توجيه الإرادات وخلق النزاعات والدفع باتجاه اتخاذ قرارات طائشة، فردية أو جماعية. المال الذي ليس لقدرته حدود هو مصدر كل النزاعات التي تجعل أقلية متحكمة حول العالم مصدرا لبؤس الأكثرية الصامتة.
__________
*ناقد سينمائي

 

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *